فيكتوريا زاريتوفسكايا *
يضع الاقتصادي الروسي ومستشار الدولة ميخائيل ديلياجين، المعروف في الأوساط العلمية العالمية كمطورٍ لنظرية العولمة، في إصداره الجديد "منعطف نحو المجهول"، خُلَاصة تفكيره حول أهم أحداث الحياة السياسية والاقتصادية الروسية في العامين الماضيين. ونظرا لقُرب هذا الخبير من الشارع، وتفاعله مع المجتمع -عبر مدونته الخاصة على شبكة الإنترنت- فإنَّ تقييمه للأزمات التي تعيشها بلاده ويشهدها العالم، وتوقعاته للمستقبل القريب، مُصاغ بلغة واقعية ملموسة، حتى وإنَّ بدا مشحونا بالوعيد ومضمَرًا بالويل والثبور في بعض مستوياته.. عنوان الكتاب الذي اختاره المؤلف "منعطف نحو المجهول" يُفصح عن نفسه؛ ولا تقل عنه فصاحة، العناوين التي تصدرت فصول الكتاب؛ والتي منها: "ليبرالية أكلة لحوم البشر"، "الخداع الكبير"، "روسيا: العجلة الخامسة في المشاريع العالمية للغرب "، "البنك المركزي أخطر على روسيا من الناتو وأمريكا وداعش"، "عامل التطور: من الوعي الفردي إلى الجماعي" و"كعب أخيل الدولة الروسية"... وغيرها من العناوين التي تصف وصفا شاملا وجهة نظر الباحث حول التغيرات السلبية التي تحدث في الحياة السياسية والاقتصادية في روسيا.
إنَّ المنعطفَ نحو المجهول، وفقا لديلياجين، يبرز بشكل جلي في راهن وقتنا، وذلك على الرغم من تغييبه لفترة طويلة عن أعين الروس؛ يقول في هذا الصدد: "كانت صدمة انتصار الفاشية والإرهاب الجماعي في أوكرانيا قوية للغاية، وكان الاعتداء الغربي فيها مباغتا بحِدة، كما أن تحسن الحياة في روسيا يتناقض جذريا مع الجحيم المفاجئ في أوكرانيا (...) إن لمّ الشمل بشبه جزيرة القرم وإتمام العمل في جسر القرم، والنجاح الكبير في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، واستضافة بطولة كأس العالم. كل ذلك أعطى الدولة مصداقية هائلة، ومنحها صك غفران عن كل شيء تقريبا: الفساد والطبقية المستفحلة والأكاذيب والعدول الجذري عن التنمية (...) ولسوء الحظ فإن الزمن الذي كان يجوز فيه العزف على الأسطوانة القائلة "إن كل شيء لدينا مستقر" قد انتهى (ص:28) وكانت نقطة اللاعودة، وفقا لديلياجين، هي الانتخابات الرئاسية التي أجريت في بداية هذا العام؛ لقد انتظر ملايين المواطنين الروس الانتخابات الرئاسية والأمل يحدوهم في التغيير، معتبرين إياها النقطة التي ستحول التاريخ الروسي المعاصر، بعدها تبدأ العودة تدريجيا إلى إحياء الدولة. مع ذلك، فقد حدث إحياء مختلف تماما -إحياء الحكومة الليبرالية القديمة التي ترمز إلى الانعطاف نحو المجهول بالنسبة للدولة الروسية، أي إلى الهاوية والمزيد من الأزمات وتدمير الدولة لصالح الشركات العابرة للوطنية.
يُؤكد الباحث أن الليبرالية تحول الدولة إلى أداة لسرقة الناس؛ وذلك من خلال الاحتكارات المالية العالمية، كما أن طرح المزيد من إصلاح أنظمة الدولة، انطلاقا من الروح الليبرالية، ما هو إلا قتل متزايد لنظام الدولة الموجه اجتماعيا والذي تم إنشاؤه وترسيخه في روسيا منذ عقود طويلة، فضلا عن أن الحكومة، وعوضا عن فرض القيود لكبح النزوع الأناني لهذه الروح، تمنحها عقدا مفتوحا لفرض المزيد من الإصلاحات الكارثية.
ويُشير الباحث إلى نقطة خطيرة أخرى تتعلق بالحروب الحديثة، وهي حروب لا تقوم برأيه على النمط التقليدي الذي يعيد تشكيل صورة العدو لجعله هدفا مشروعا، وإنما هي حروب تتغذى وتتقوى من تقنيات الهندسة الاجتماعية التي ترمي لتدمير حياة الخصم وتقويض بنيته الأساسية الاجتماعية، المسألة التي يتم ملاحظتها اليوم في روسيا. لذلك، ولحماية الدولة في المقام الأول، كما يشير ديلياجين، فإنها تحتاج (الدولة) إلى ضمان الحماية الاجتماعية لمواطنيها. يقول في هذا الصدد: "إن الدولة التي بدأت تقف على قدميها في ربيع وصيف عام 2014، عادت سريعا إلى كبوتها، بل وبأسوأ أنماط حقبة التسعينيات. نعم، إنها دولة تُظهر القوة العسكرية، بل وتُجري عملية محلية في سوريا (التي لا يبدو أن أحدا يعرف كيف ستخرج منها)، ولكن من أجل السيادة، وضمان حرية ورفاهية مواطنيها، فحتى بمقاييس مئة سنة خلت، فإن هذا ليس كافيا" (ص:29).
جزء كبير من الكتاب مُخصَّص لسيرورة الاقتصاد في السياسة المالية الروسية؛ حيث "تختنق الميزانية الفيدرالية بالأموال وتُستنفد تحت عبء الأرباح الفائقة، أما حينما يموت المرضى فيكون ذلك سبب النقص في أموال الميزانية!" (ص:34). ويفند المؤلف سبب عدم فاعلية سياسة الموازنة للدولة الروسية؛ كون احتياطيات الميزانية لا تصل إلى نصف الإيرادات السنوية، بينما الاحتياطيات الدولية تفوق المستوى المطلوب للاستقرار بأكثر من الضعف، وهو المستوى الذي يحدده معيار "ريدي" العالمي.
ويُعقِّب المؤلف على الخلل الملازم للسياسة المالية الروسية، فيقول: "عيب آخر في نظام الموازنة الروسية هو سياسة العفو عن الديون الأجنبية الضخمة (على الأقل 151 مليار دولار) بما في ذلك ديون الدول ذات المقدرات المالية الكبيرة مثل فيتنام والجزائر وليبيا في عهد القذافي، وفي المقابل تنعدم الرحمة على الإطلاق تجاه ديون المواطنين الروس (...) وفي حين أن الطريق ممهد لتمويل التنمية الاقتصادية المحلية، نجد بدلاً من ذلك أن المؤسسات المالية تسترشد بالآراء النيوليبرالية الأمريكية لاقتراض الأموال من الخارج بلا حاجة واقعية لها؛ وبالتالي تتحمل روسيا الديون الخارجية التي تتطلب تخصيص موارد البلاد لدفع الفائدة على الدين إلى الغرب" (ص:45). وحسبما يخلص إليه المؤلف، فإن جفاف الأموال يتم خلقه بطريقة مصطنعة.
يقوم المؤلف بإجراء مقارنة واستنباط أوجه الشبه بين الاضطرابات الاجتماعية في أوائل التسعينيات، تلك التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، وبين ما يجري في العهد الجديد، حين بدأ الفضاء الاجتماعي/ الاقتصادي، بعد أن أكمل حلقته المبطنة، بإدارة البلاد بالمنطق الليبرالي لعام 1990م الذي تم بموجبه نهب التركة السوفييتية. الآن، يشدد المؤلف، وبعد أن تم تقسيم الموارد العينية وإضفاء الصبغة القانونية عليها؛ باعتبارها أموالًا شخصية تقبع في بنوك الغرب، ها هم يسعون لسرقة رأس المال الاجتماعي والبشري.
وفي قسم آخر من الكتاب، يفرده المؤلف لقضايا الشباب وموقعهم في عجلة التنمية في روسيا، يشير المؤلف إلى الاختلاف الجذري لنفسية جيل الشباب الحديث الذي ينشأ على المفاهيم الغربية المنتشرة على نطاق واسع في العقود الأخيرة، اختلافهم عن الأجيال السابقة التي عاشت الحروب وخرجت قوية من مخاضات صعبة. ويشرح المؤلف آلية المفاهيم الغربية التي تستغرق الشباب الروسي اليوم باعتبارها آلية احتواء تبدأ بتملق العميل وإيهامه بالرخاء والراحة، لتبدأ بعدها عملية متناسلة وطويلة يتحول فيها هذا العميل إلى علبة مدخرات يذهب ريعها إلى شركات السوق. ووفقا للمؤلف، فإن هذا النمط من التربية الاجتماعية يقف وراء ما يبدو من هشاشة وضعف في مواجهة مصاعب الحياة لدى الأجيال الشابة مقارنة بجيل الآباء والأجداد. كما يرى أن الوصول إلى معرفة وسائل التربية النفسية الحقة والصحية في متناول الجميع، بيد أن وسيلة السوق تتميز بسهولتها وكفاءتها الفائقة في الانتشار.
وفي السياق ذاته، ونتيجة لتعاظم الدور الذي تلعبه قوانين السوق الحرة في حياة المجتمعات المعاصرة وتدخلها المباشر في تنميط الفرد وتأطير سلوكياته، فإن شهية تكنولوجيا المعلومات السائدة ما تنفك تتعاظم هي الأخرى وتوسع من حدودها الكونية وذلك في مقابل "تكيف" الفرد وتعوده على فقدان فردانيته وتنازله عن مصلحته الحقيقية في الحياة ونصيبه الطبيعي منها.
وفي سياق الحديث عن تكنولوجيا المعلومات، وحضورها المتفاقم في المجتمعات المعاصرة، فإن دور شبكات التواصل الاجتماعي في تشكيل وعي الأفراد وتحديد ميولاتهم يقع في لب هذه التكنولوجيا. يقول المؤلف: "إن تكنولوجيا المعلومات تحول شخصية الأفراد إلى منظومة بلاستيكية، موزاييكية، قابلة للتفاعل، لكنها غير قادرة على تحديد أهدافها على المدى الطويل ولا على تنظيم جهدها تنظيما منهجيا. ويتم التعامل مع الوعي الفردي ههنا طبقا لمفهوم الزمرة، الذي من طبيعته ردود الأفعال الفورية على المؤثرات الخارجية المتفرقة، وليس إنتاج الفعل الذي هو من خواص الوعي الفردي المستقل. إن جوهر تفاعل المعلومات الحديثة هو تلقي المشاعر من قبل المستخدمين وتبادلها فيما بينهم (...) إن نتيجة هذا التفاعل بين المنتَج والمستهلِك يؤدي إلى مجتمع من الأفراد المعزولين، يتم جمعهم والربط فيما بينهم عن طريق شبكة تكنولوجية تقوم بالفرز وتحديد الطوائف في المجتمعات" (ص:186-187)، ويرى المؤلف أن شبكات التواصل الاجتماعي تعمل على إلغاء فكرة المجتمع التقليدية وتحويل بنيته إلى منصات مجتمعية، تقوم كل واحدة منها على احتواء النشاط الخارجي للفرد وتحديد خلفيته العاطفية التي هي في الحقيقة لوحة من المعلومات التي يتم شحنها في الشبكة؛ وبالتالي يتحول المجتمع إلى لوحة خوارزمات، ويتوقف تطور الفرد، فشبكات التواصل الاجتماعي تخلق شرنقتها "المريحة" التي تنعدم فيها الدوافع الحقيقية للتنمية.
وعلاوة على ذلك، فإن تطوير العمل في إدارة شبكات التواصل الاجتماعي والتنافس لخلق بيئة بشرية جديدة في المجتمعات المتقدمة وتحديد سلوكها، يُعلي من شأن المطورين والمديرين في الطبقة الإدارية العالمية. ونتيجة لذلك، يكون ممثلو الشبكات الاجتماعية معادلين لأصحاب الأموال، وإن كان ذلك بشكل مؤقت. وهذا يخلق صراعاً جديداً ضمن الطبقة الحاكمة العالمية: بين السطوة المالية والسطوة الاجتماعية على العالم.
يُضاف هذا الصراع إلى الصراع الرئيسي في عصرنا الذي هو بين المنظومات العالمية والكيانات المنفصلة عنها، لا سيما بين المنظمات التجارية العالمية وبين الدول. كما يفقد المال قيمته وتتحول القوة إلى تكنولوجيا المال، فيصبح رأس المال عنصرًا غير أساسي في التكنولوجيا، تمامًا كما كانت الحال مع تطور الرأسمالية؛ حيث توقف الذهب عن كونه عنصرًا أساسيًّا لرأس المال. وعلى هذا النحو، يحتل الإنتاج الكلاسيكي ترتيبا أقل من التكنولوجيا وما يرتبط بها من تصميم وتسويق، وبتكلفة أقل وفعالية أكبر؛ وبالتالي يفقد الإنتاج الكلاسيكي المنافسة. ووفقاً للباحث، فإن هذا يؤدي لتأخر وركود وتراجع الإنتاج، فحتى في ألمانيا الصناعية لا يوجد عدد كافٍ من المهندسين. ولا يتوقف الضرر على الحد من التنمية فحسب، وإنما قد يؤدي إلى تدهور التكنولوجيا نفسها وانتشار الكوارث على نطاق واسع.
ويرى المؤلف المَخرج من هذا الوضع في بدء تنفيذ المشروع الروسي، وهو شرط ضروري وإن لم يكن كافيا لبقاء الحضارة الروسية. وفي رأيه أن الهزائم الجيوسياسية لروسيا (الانسحاب من العالم الثالث وتراجعها في أوروبا الشرقية وتعالقها مع آسيا الوسطى ومشاكلها في أوكرانيا وتدني سمعتها في الغرب وفقدان الحلفاء)؛ وذلك طيلة ثلاثين عاما من الغدر الوطني (حسب وصف المؤلف)، تعود أساسا لعدم وجود مشروع عالمي روسي، يفيد الداخل ويشع على الخارج.
ووفقا لفكرة ديلياجين، فإنَّ على النخبة الروسية الجديدة القيام بتحديث روسيا بطريقة تخلق إمكانية لمستقبل عالمي جديد يعمل تحت إدارتها ويكون جاذبا للجميع؛ فالثقافة الروسية القائمة على التعددية والانفتاح على التنوع البشري، مع ميل للتقدم العلمي، يجعلها متسقة مع تولي مهمة بناء مشروع كوني.. فالمشروع الصيني يحمل طابعا عرقيا، بينما النضوب يحيق بالمشروع الغربي؛ مما يعزز نوعيا الحاجة الموضوعية للمشروع الروسي.
---------------------
- الكتاب: "منعطف نحو المجهول".
- المؤلف: ميخائيل ديلياجين.
- الناشر: كنيجني مير (عالم الكتب)، موسكو، 2018م.
- عدد الصفحات: 352 صفحة.
* أكاديمية ومستعربة روسية
