«الشر على الإنترنت».. لفان دن هوفن

41Cuy-gWAgL._SY445_QL70_ML2_.jpg

وليد العبري

إنَّ الشر عن طريق التكنولوجيات الجديدة، ذو قوة كبيرة، ويثير أسئلة جوهرية حول أخلاقنا وقيمنا، وإن ضباب الشر الأخلاقي، يُجبرنا على مواجهة الشياطين داخل كلٍّ واحد منا، وكذلك الشياطين في كل مكان حولنا. وفي النهاية، نُثرِي جميعنا بتحليلاتهم الإدراكية؛ إذ تُوفر فرصا جديدة وعميقة للفساد، الكثير منها صادم ومتطرف. والجدل قائم حول كيفية تحقيق التوازن بين فوائد الإنترنت، وبين المخاطر التي تمثلها لنا جميعا، ويُمكن القول إنَّ الشبكة العنكبوتية شأنها شأن القمر، لها وجه مُضيء يتمثل في ثورة المعرفة، والتواصل الذي حققته، ولها وجه مظلم يتمثل في مقدار الجريمة والإرهاب والانحراف الذي تعج به. هذا الكتاب يُركز على الوجه المظلم لشبكة الإنترنت. يستفيد هذا الوجه المظلم من العزلة التي يحققها الإنترنت لكي يحض على اقتراف الشر، والكتاب أول تحليل جامع للشر ولبُعده غير الأخلاقي في صلة بحياتنا الافتراضية المتنامية على شبكة الإنترنت، وتقدم فصول الكتاب الأفكار المتوارثة عن ظاهرة الشر في الفلسفة الأخلاقية، وتبين أيضا إلى أيِّ مدى أمسى تنامي الإقبال على الإنترنت، التي تشكل تحديات غير مسبوقة للنظريات التي تحاول فهم الشر وأصله ودوافعه وآلياته.

كما تنظرُ الفصول في الأفكار التقليدية، حول ظاهرة الشر في الفلسفة الأخلاقية، وتستكشف كيف قدم فجر الإنترنت تحديات غير مقنعة للمناهج النظرية القديمة. وهو ما يرفضه الكاتب فان دن هوفن حول الإحساس المتزايد بالخلط الأخلاقي أو كما يطلق عليه البعض "الضباب الأخلاقي"؛ إذ يدفع الناس العاديين نحو الإفساد، وأن القيم الأساسية للحياة الأخلاقية؛ مثل: الاستقلالية، والحميمية، والثقة، والخصوصية، تتعرض لخطر منصات الإنترنت والتقنيات الجديدة. وتقدم هذه النظرية الجديدة للأفكار نظرة جديدة نحو الشخصية الأخلاقية للفرد، وكذلك تفتح الطريق لمنطقة جديدة من الفكر الاجتماعي.

تحليلٌ شاملٌ لظاهرة اجتماعية ناشئة ومزعجة، وكتاب "الشر على شبكة الإنترنت" يفحص الجوانب المزعجة أخلاقياً للإنترنت في مجتمعنا، ليس فقط للأكاديميات في مجالات الفلسفة وعلم النفس وعلم المعلومات والعلوم الاجتماعية، وإنما كتاب "الشر على شبكة الإنترنت" قابل للقراءة لأي شخص مهتم بفهم ظهور الشر في عالمنا الذي يهيمن عليه رقميا في وقتنا الحالي.

ويُناقش الكتاب السمات الأساسية الثلاثة التالية لبيئتنا على الإنترنت: النجاح المعرفي، والاتصال، والتنسيق. إنَّ الإنترنت يربط الناس بعضهم بعضا، ويجعل التواصل والتفاعل والمعاملات بينهما سهلة ورخيصة، وكذلك تسمح الأسواق والمنصات ثنائية الجانب؛ مثل: (Uber) و(Airbnb) و(eBay) للمشترين والبائعين، بالطلب والعرض، للعثور على بعضهم البعض، ولتنسيق سلوكهم، والمشاركة في التفاعلات والمعاملات والتعاون فيما فينهم. وإضافة إلى هذه الميزات، يوضح لنا هذا الكتاب عددا من الميزات الأخرى لبيئاتنا على الإنترنت؛ إذ هناك العديد من هذه الميزات -لا سيما الانتقائية- مثل: عدم الكشف عن الهُوية، والمواضع، والتدجين، والعزلة، والخلط بين التناقضات العامة والخاصة، والطواعية العالية، والاختصاص القضائي، والفضيلة، والمرونة التفسيرية، مكنت من فعل واستهلاك الشر بطريقة معينة، بحكم توافر الطقوس والعوامل الجاذبة لحدوث ذلك. لذلك؛ أدى هذا إلى خلق وضخ الضباب الأخلاقي في عقول المستخدمين، وهذه هي إحدى بيئات الإنترنت التي نمارسها ونشاهدها حاليا.

تحدَّث الكاتب فان دن هوفن في كتابه أيضا عن تحول الحياة الاجتماعية، فأوضح تمكين العوالم الاجتماعية التقليدية من صيغ الجمع بين التعبير عن الذات، والتواصل عبر المجالات العامة والخاصة. وبيَّن أن هُويتنا تنطوي على مجموعة متنوعة من جوانب الذات. وعلاوة على ذلك، غالباً ما يتم عرض جوانب الجمع والتضارب الذاتية في سياق علاقة أو دور أو مواجهة واحدة. وإن عرض الجوانب الأقل اختصارا من أنفسنا، غالبا ما يوفر أيضا موضوعا للتعبير عن بعض الجوانب العلائقية، لاحترام خصوصية الآخر، ويمكن أن يساعد العرض الذاتي، والنشاط المشترك في العديد من عوالم التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، وفي تحقيق الاستقلالية والخصوصية. ولقد أتاحت الثورات على الإنترنت في الوصول إلى العديد من المعلومات، ومكنت بعضنا من الحصول على فرص غير مسبوقة لتوسيع معرفتنا في شتى المجالات المتنوعة، ومتابعة حياتنا الاجتماعية والعملية، ومواصلة جميع أنواع المصالح والأنشطة. من الأمثلة المحددة لكيفية إدراك بعض مخاوفنا بشأن شرور الإنترنت بأنها مبالغ فيها، ومضللة المخاوف، المخاطر التي يتعرض لها أطفالنا من المفترسين الجنسيين عبر الإنترنت، وكثرا ما نسمع عن الابتزاز الالكتروني لجميع الفئات العمرية، وبصيغ وأساليب جديدة ومبتكرة لا تخطر على البال لتجنبها من بداية الأمر.

وهو ما ناشدتْ به العديد من المنظمات المدينة والمجتمعية الجهات المسؤولة العالمية عن أهمية الحد من انتشار هذه الظواهر، التي أصبحت تأرق المجتمع، وتُوقع العديد من الضحايا يوميا في الابتزاز. كذلك تحقق لدى المبتزين الكثير من الأهداف التي رسموها، وشجع الآخرين على دخول هذا المجال؛ لذلك تسعى المنظمات العالمية إلى الحد من انتشار هذه الظاهرة، من حيث تثقيف المجتمع بكيفية الاستخدام الأمثل والصحيح للإنترنت، وكذلك ملاحقة وفرض قوانين رادعة لكل من أراد سوء الاستخدام في هذا المجال.

ويستخدم الضباب المعنوي في السياقات الروحية والدينية، لوصف عدم الكفاءة المعيارية في حياتنا اليومية الأكثر انتشارا؛ إذ يصف الكاتب سمات أو ظروف عوالمنا التي تجعل سلوكنا مبهما؛ وبالتالي تقوض قدراتنا على التفاهم الأخلاقي وصنع القرار. إن الفهم الأفضل للميزات التي تمكن من كشف مشاكل الضباب الأخلاقي، يساعد على تفسير الكثير من الخفايا في أنواع مختلفة من الشر التي تزدهر يوما بعد يوم عبر الإنترنت. وعند الحديث عن العوالم التي جلبت مشاكل الضباب الأخلاقي، نلحظ أنها تمكنت من التطبيع وإضفاء الشرعية على المؤثرات التي تساعد على ازدهار الشر، بطُرق لم تُشاهد قط ولم نتخيلها أنها ستحدث يوما، أما عند الحديث عن البيئة وضغوط الحياة المهنية؛ فهي مصدر غني بالأمثلة، حيث يعمل الضباب الأخلاقي من التفاهمات الذاتية الإيجابية، والمحايدة نسبيا على تعميتنا، أو حجب الحقائق الأخرى غير المرغوب فيها في حياتنا، والأمثلة والحقائق على ذلك كثير.

لطالما تم فهم الصفة الأخلاقية الجيدة من حيث استقلالها عن المؤثرات الخارجية، ومتناقضتها، ومقاومتها، ومطالبات المصلحة الذاتية، كما تم فهمها بشكل عام من حيث فعاليتها في القدرة على إصدار التصرف الجيد بشكل مستقل تماما عن الحاجة إلى الدعم من الآخرين والمحيط، والقرارات التي تؤثر على كيفية مواصلة حياتنا في جميع أنواع الطرق. يتميز الشر ليس فقط على النقيض مما هو جيد أو صحيح، ولكن أيضا على النقيض مما هو مجرد سوءًا أو خطأ. إن النداء إلى القيم الليبرالية في عوالمنا التقليدية يفوق المخاوف التي لدينا، كما يتجلى ذلك في قوانيننا وقواعدنا واتفاقياتنا الاجتماعية، وأحكامنا الأخلاقية المستقرة، وتوافرها على نطاق واسع وغير تمييزي، وسهولة الوصول إلى المواد الإباحية، أو الأسلحة النارية أو الكحول. من الصعب أن نرى لماذا يجب أن نتخيل أنَّ أي نداء للقيم الليبرالية يجب أن يفوز اليوم في العالم الافتراضي على الإنترنت؟ سؤال يدعو إلى التأمل، لنكتشف بعدها مصير حياتنا الأخلاقية بوجود الإنترنت.

كما يُسهم الشر على الإنترنت في إضعاف التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة، والذي يؤدي لضعف المجتمع ككل؛ ‏حيث يقضي الفرد أوقاتا كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والإنستجرام والواتسآب... وغيرها من البرامج، ولا يقوم بواجباته ‏الأسرية على أكمل وجه، كما أن كثرة استعماله من قبل الفرد يجعله يعيش في عالم الخيال، ويدفعه إلى تعلم السلوك ‏العدواني، ويؤثر ذلك على أدائه الدراسي والاجتماعي، وهذا يعود سلباً على المجتمع والحياة الأسرية.

طالما وُجهت الاتهامات إلى التقارير التي تتناول جرائم العنف في الصحف، والمشاهد العنيفة في التليفزيون والأفلام السينمائية؛ باعتبارها مسؤولة عن نشر الأفكار المشجّعة على الانتحار، وإيذاء النفس بين الشباب والمراهقين، لكن الوضع تغيّر منذ سنوات قليلة مع تركز اللوم على الإنترنت؛ نظراً للنمو السريع في معدلات استخدامها، وابتعادها النسبي عن الرقابة، إضافة لما يشعر به الشباب من حرية أثناء المشاركة في المنتديات وغرف الدردشة الإلكترونية.

ويبدو أنَّ بعضا من هذه الاتهامات حقيقية؛ إذ كشفت العديد من الدراسات التي أجراها بعض الباحثين من مجالات مختلفة، عن وجود علاقة قوية بين الإنترنت، وزيادة خطر إقدام الشباب على إيذاء أنفسهم أو الانتحار. ومع ذلك، يرى الكاتب أنه لا يمكن إغفال ما توفره الإنترنت من دعم نفسي، وقنوات اتصال تُخفف من الشعور بالوحدة لدى الأشخاص المنعزلين اجتماعيا. وقد استهدفت هذه الدراسات تحليل الأدلة المتوافرة حتى الآن عن التأثير المحتمل للإنترنت في زيادة خطر الانتحار، وإيذاء النفس لدى الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً، وذلك من خلال تحليل 14 دراسة تناولت استخدام الشباب للإنترنت.

ومن أجل فهم كامل لآثار الإنترنت على المجتمع، يجب أن نتذكر أن التكنولوجيا هي ثقافة مادية، يتم إنتاجها في عملية اجتماعية، وفي بيئة مؤسسية معينة، قائمة على أساس الأفكار والقيم والمصالح والمعرفة لمنتجيها، سواء المنتجين الأوائل والمنتجين اللاحقين لهم. في هذه العملية، يجب علينا تضمين مستخدمي التكنولوجيا، الذين يلائمون التكنولوجيا ويكيفونها بدلاً من اعتمادها، ومن ثم يقومون بتعديلها وإنتاجها في عملية لا نهاية لها من التفاعل بين الإنتاج التكنولوجي والاستخدام الاجتماعي. لذلك؛ ولتقييم أهمية الإنترنت في المجتمع، يجب علينا أن نتذكر الخصائص المحددة للإنترنت كتكنولوجيا، ثم يجب أن نضعها في سياق التحول في البنية الاجتماعية العامة، وكذلك في العلاقة مع الثقافة المميزة لهذا الهيكل الاجتماعي. وفي الواقع، نحن نعيش في بنية اجتماعية جديدة، مجتمع الشبكة العالمية، التي تتميز بنشوء ثقافة جديدة، ثقافة الاستقلالية.

ويُضيف الكاتب أن مجتمعنا هو مجتمع الشبكات، أي مجتمع تم إنشاؤه حول شبكات شخصية وتنظيمية مدعومة بشبكات رقمية، ويتم توصيلها بواسطة الإنترنت، ولأن الشبكات عالمية ولا تعرف حدوداً، فإنَّ مجتمع الشبكات هو مجتمع شبكي عالمي. نتج هذا الهيكل الاجتماعي التاريخي تاريخيا من التفاعل بين النموذج التكنولوجي الناشئ القائم على الثورة الرقمية وبعض التغيرات الاجتماعية، وإن البُعد الأساسي لهذه التغييرات هو ما أطلق عليه صعود المجتمع الذي يركز على الجوانب السوسيولوجية "عملية التفرد" من ناحية، وتدهور المجتمع الذي يفهم من حيث المساحة والعمل والأسرة، والنسق بشكل عام من ناحية أخرى. هذه ليست نهاية المجتمع، وليس نهاية التفاعل القائم على المكان، ولكن هناك تحوُّل نحو إعادة بناء العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك الروابط الثقافية والشخصية القوية التي يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال المجتمع، على أساس الفرد الاهتمامات والقيم والمشاريع.

إنَّ عملية التميّز ليست مجرد مسألة تطور ثقافي، بل هي ناتجة بشكل مادي عن الأشكال الجديدة لتنظيم الأنشطة الاقتصادية، والحياة الاجتماعية والسياسية، كما قام الكاتب فان دن هوفن إلى تحليلها في ثلاثة عوامل حول عصر المعلومات: تحويل الفضاء (الحياة الحضرية)، والعمل والنشاط الاقتصادي (ارتفاع المؤسسة الشبكية وعمليات العمل الشبكية)، والثقافة والاتصالات (التحول من الاتصال الجماهيري القائم على وسائل الإعلام إلى الاتصال الجماهيري الجماعي المستند إلى الإنترنت). كما حلل الكاتب أزمة الأسرة الأبوية، مع زيادة استقلالية أعضائها الفرديين، واستبدال السياسة الإعلامية لسياسات الأحزاب الجماهيرية، والعولمة كشبكة انتقائية للأماكن والعمليات في جميع أنحاء الكوكب.

إنَّ التفرد لا يعني العزلة، وإنما يتم إعادة بناء التواصل الاجتماعي كفرد من الأفراد المتصلين بالشبكة والمجتمع من خلال البحث عن الأفراد ذوي التفكير المماثل في عملية تجمع بين التفاعل عبر الإنترنت والتفاعل غير المباشر، والفضاء السيبراني والمساحة المحلية. إن التمييز هو العملية الرئيسية في تكوين الموضوعات (الفردية أو الجماعية)، والتواصل هو الشكل التنظيمي الذي تبنيه هذه الموضوعات؛ وهذا هو مجتمع الشبكات، والشكل الاجتماعي هو ما تصوره الكاتب كفردانية شبكية. وتعد تقنيات الشبكات بالطبع هي الوسيلة المناسبة لهذا الهيكل الاجتماعي الجديد وهذه الثقافة الجديدة، والتي تمكننا من الحد من انتشار الشر على شبكة الإنترنت.

-----------------------

- الكتاب: «الشر على شبكة الإنترنت».

- المؤلف: فان دن هوفن.

- الناشر:«Wiley-Blackwell»، بالإنجليزية، 2018م.

عدد الصفحات: 176 صفحة.

أخبار ذات صلة