«عصر المسؤولية»

51VYCR4pD5L.jpg

ليوشا منُك

علي الرواحي

مُنذ البداية -في المقدمة، وعلى مدى خمسة فصول مع خاتمة- يسعى مُنك إلى إثبات وجهة نظره القائلة بأننا نعيش في عصر المسؤولية الفردية؛ وذلك من خلال مسارين متوازيين: المسار السياسي والفلسفي على حد سواء؛ حيث إن هذه الفكرة -فكرة أننا نعيش عصر المسؤولية- ليس مبالغا فيها حسب قوله، بل لها الكثير من الشواهد والأدلة؛ وذلك من خلال المناظرات والتنظيرات الفلسفية في العقود الأخيرة من جهة، والخُطب والمشاريع السياسية من الجهة الأخرى، التي يعود إليها مُنك بشكل مستمر، ومتواصل، وهو في ذلك يتحدث عن منطقة جغرافية وحضارية معينة، مُركزا في ذلك على صعود هذا الخطاب في أمريكا وأوروبا تحديدا. غير أن هذا المصطلح ليس واضحا بما فيه الكفاية كما هي الحال في مصطلحات أخرى كالديمقراطية، والحرية وغيرهما (ص:4)، فهو يستخدم بمعان كثيرة، وملتبسة، وهذا يؤدي إلى التباس في المعاني عند الحديث عن هذا الموضوع، غير أنه وفي المقابل نجد أن هناك رغبة في تحديد إطار وحدود هذا المصطلح، ففي ظل وجود دولة الرفاه، أصبحت الكثير من المهام مناطة بالدولة؛ بحيث أن المواطن يعبر عن رغبته بالطرق المتعارف عليها لتأتي الدولة لتنفيذ ذلك، في حين أن ملامح هذا الإطار تتلخص في جانبين:

1- إذا كان شخص ما مسؤولا عن نتيجة فعل سيئ قام به أو اقترفه، فإنه يطلب مساعدة من الآخرين.

2- كنتيجة لذلك، فإنه يطرح تساؤلا حول أحقيته بهذه المساعدة أو أن يتحمل مسؤولية فعله.

يَضَعنا هذا الإطار أمام عدد من السمات المختلفة؛ ففي المقام الأول نجد أن هذا الإطار يضعنا أمام حساسية خاصة تجاه بعض الأفعال، التي بدورها تجعلنا نطرح تساؤلا حول نتائجها؛ حيث إنها تجعلنا نتناسى أسباب هذه الأفعال، لنقوم بالمساعدة والبدء بزمام المبادرة الشخصية. وفي المقام الثاني، يجلب لنا هذا الإطار تساؤلا حول سياق هذا الفعل أو ذاك، وتناسبه مع المعايير المتعارف عليها؛ مما يعني أن هذه الحجج والتساؤلات تضعنا أمام اعتبارات مختلفة ولغة تبدو قديمة كما هي الحال عند التعبير عن واجبات دولة الرفاه، أو العدالة في الجريمة، أو غيرها من المصطلحات الجديدة. أخيرا، وفي المقام الثالث فإن هذا الإطار يسعى لمساعدة كل شخص يرغب بمساعدة الفقراء والاهتمام بمصيرهم، وتوفير متطلباتهم التي تسعى للتغلب على الكثير من العوائق والمصاعب.

وفي هذا السياق، وبهدف التغلب على العوائق أو الأفكار الخاطئة التي رافقت هذا المصطلح منذ فترة طويلة؛ حيث تم تقليصه ليعني في جوهره المبدأ العقابي (ص:21)، غير أنه ومع مرور الوقت أصبح المصطلح يعني الارتباط بالحقوق، والسلوكيات المسؤولة رغم أن هذه المعاني الجديدة ليس من السهل قبولها أو تداولها في الفضاء العام؛ ذلك أنه وعن طريق بناء هذه اللغة والمعاني الجديدة أصبح من الممكن تشييد رؤية جديدة لقواعد الاختيار، والفعل الفردي في المجتمع. فمن المهم جدا هنا أن يشعر الكثير من الأشخاص أنهم يتحملون مسؤولية أنفسهم، وأن أفعالهم تعود لاختياراتهم التي من خلالها يتعاملون مع العالم، ويتفاعلون معه. كما أنه وعلى مستوى المواطن فإن هذا المصطلح يجعله يشعر بالمسؤولية الكاملة عن الأفعال والاختيارات على مختلف الأصعدة والمجالات. تقود الرؤية الإيجابية للمصطلح الكثير من الأشخاص للنظر إلى الخارج، والشعور بالفخر بالنفس أو الثقة بالنفس، وذلك عن طريق القيام بتفاصيل الكثير من أمور الحياة كما هو الشأن في الرغبة بإنجاب الأطفال، أو تربية الحيوانات. كما أنها تجعلهم يكرسون الكثير من حياتهم في الأعمال التجارية أو الأعمال الخيرية، أو في المقابل، للرياضة أو للفن. وفي كل ذلك فإن الأشخاص يتحملون مسؤولية أفعالهم أو مشاريعهم الشخصية والجماعية على حد سواء. يعكس الموضوع أيضا وبناء على التصور الإيجابي للمصطلح تلك الرغبة العميقة من قبل أفراد المجتمع في الشعور بالمساواة، والتخطيط لمستقبل الدولة ومؤسساتها المختلفة؛ فالنقلة التي حدثت من عصر "ما قبل السياسة" أو "ما قبل الدستوري" إلى "السياسي" أو "الدستوري" كانت بمثابة مسوغ لنشوء دولة الرفاه.

وفي الفصل الأول والمعنون بـ"جذور أو أصول عصر المسؤولية" (ص:29)، يسعى مُنك إلى توضيح معالم أو ملامح هذا العصر والنقلة المفاهيمية الجديدة لهذا المفهوم والتي أصبحت موازية للمسؤولية الفردية أو المسؤولية تجاه الآخرين في نفس الوقت، وذلك من خلال مجالين واسعين: المجال السياسي، والمجال الفلسفي أيضا.

ففي المجال السياسي، نجد أن خطاب الحرية قد ازدهر في سنوات ما بعد الحرب الباردة في الغرب، وهو يهدف إلى مقابلة الوضع الاجتماعي والسياسي بين الاتحاد السوفييتي سابقا والعالم الغربي "الحُر"؛ حيث انعكس ذلك بشكل كبير على خُطب ودعوات القادة في تلك الفترة الذين كانوا يشجعون هذا النوع من الخطابات والدعوات في مقابل التخويف من الأوتوقراطية أو الحكم الواحد في الكثير من مناطق العالم، وقد اتضح بشكل جلي في خطابات الرئيس الأمريكي جون كيندي، ذلك أن السلوكيات الحرة لا يمكن القيام بها بشكل منفرد بل تستدعي العلاقات الاجتماعية، والتجمعات المختلفة التي بالضرورة تكون مشبعة بحس المسؤولية؛ الأمر الذي جعل بعض الكُتّاب والباحثين يذهب إلى أن "الكلمة المفتاحية في خطابات مارجريت تاتشر في بداية الثمانينيات كانت تدور حول الحرية والمسؤولية الاجتماعية" (ص33)؛ وهو الأمر الذي ينطبق على الرئيس الأمريكي رونالد ريجان في تلك الفترة أيضا، مما جعل الشعب الأمريكي يواصل بدايات الحلم الأمريكي الذي يُشعره بأنه مختلف عن كل الشعوب. كما يشمل ذلك أيضا مقال ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق في صحيفة الجارديان حول ذلك، قائلا: إن "الكثير من الأحداث المعاصرة في الوقت الحالي تأتي من تجاهل أو عدم طرح موضوع المسؤولية من قبِل السياسيين في الماضي؛ حيث إنهم تجنبوا أو تجاهلوا هذا السؤال في الفترات الماضية، لكي لا يبينوا أنهم سريعو الحكم. غير أننا لم نتمكن من إنشاء مجتمع قوي، عادل، عوضا عن تحديدهم بشكل جيد"، كما ينطبق أيضا على جورج اوزبورن في فترة توليه لمنصب المستشار البريطاني لخزانة الدولة في خطابه أمام حزب المحافظين وذلك في معرض حديثه عن ساعات العمل الطويلة التي يقضيها العُمال في المصانع منذ الفجر إلى غروب الشمس دون أي إحساس بالمسؤولية تجاههم وتجاه معاناتهم اليومية المستمرة.

إذا كانت النقلة التي حدثت في هذا المصطلح من اعتباره واجبا إلى اعتباره مسؤولية ومحاسبة والتي بدأت مع تاتشر وريغان مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فإن ما وراء هذا الاهتمام العام المتمثل في الخُطب السياسية من قبل القادة تنظيرات الكثير من المثقفين التي هدفت لتعزيز هذه القيمة كما سيتضح ذلك في القسم الثاني حول الجانب الفلسفي وعلم الاجتماع وعلم الجريمة وذلك من أجل فهم هذه النقلة في المفهوم.

وفي الجانب الفلسفي، نجد أن هذه النقلة ما كانت لتحدث دون ذلك التطور الذي حدث في السياسة والفلسفة الأخلاقية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث إن الفلسفة الأنجلو-أمريكية كانت تحت هيمنة تيارين فلسفيين؛ هما: العواقبية والتي تنظر للعواقب فقط، والتعاقدية. ففي الحالتين كانتا تنظران للمسؤولية بوصفها واجبا. غير أنه واعتبارا من بداية العام 1970م أصبحت الفلسفة العواقبية خارج موضة التفكير والتفلسف (ص:42). كما نجد أنه في نصف القرن الماضي كانت الفلسفة النفعية تهيمن على نموذج الفلسفة التحليلية، وذلك من خلال الآراء المتفقة معها، أو تلك المُضادة لها.في الجانب الآخر، يعتبر كتاب الفيلسوف الأمريكي جون راولز "نظرية في العدالة" الكتاب الأبرز في هذا المجال والذي يعتبر معارضا بشكل جذري وأساسي للفلسفة النفعية، والذي أسس لنمط فلسفي جديد؛ الأمر الذي قام بنقلة نوعية في فهمنا لطبيعة مبدأ المسؤولية.

وإضافة لذلك، نجد أنه وبعد فترة ما بعد الحرب، وتحديدا في علم الإجرام (ص:61) تم التركيز بشكل مبدئي على دراسة أسباب وجذور الجريمة، وذلك من خلال التركيز بشكل بنيوي على بعض الأسباب كالفقر، وسلبيات التعليم، غير أنه نادرا ما تم الالتفات لأبعاد خرق القانون وتجاوزه، ذلك أنه تم النظر للجريمة ليس على أنها اختيار فردي من ضمن خيارات أخرى، بل كفعل حتمي لا مفر منه يتعلق بصفات النظام الاقتصادي الرأسمالي المعُاصر. حيث تعزز هذا الشك في مسؤولية الإنسان عن أفعاله بشكل كبير، بسبب وجود مسوغات كثيرة للعقاب؛ وذلك عن طريق الكتاب الشهير للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في عام 1975م، بعنوان "الضبط والعقاب"، والذي ذهب فيه إلى أن السجن يعتبر موضعاً مهُما لممارسة السلطة السيادية عِوضا عن الوقاية من الجريمة.

وفي الفصل الثاني (ص:70) -والمعنون بـ"دولة الرفاه في عصر المسؤولية"- يناقش مُنك التحولات التي طرأت على مفهوم دولة الرفاه والنقلة المصاحبة له؛ حيث إن هذه النقلة قد حدثت في البحوث الأكاديمية أو في خُطب القادة إبان الانتخابات السياسية، والتي أثرت بدورها في مهام دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في العقود الأخيرة. وتحديدا عندما شعر عُلماء السياسة والاقتصاد بشيء من القلق فيما يتعلق بأزمة دولة الرفاه في فترة ما قبل التسعينيات من القرن الماضي، حيث إن الأزمة قد تعمقت مع ازدياد تكاليف دولة الرفاه، وبشكل خاص مع انخفاض معدل المواليد من جهة، وزيادة معدل المتقاعدين من الجهة الأخرى. في الجانب الآخر أدت زيادة أعداد كبار السن في هذه المجتمعات لزيادة تكاليف الرعاية الصحية، كما أدى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل الى رفع التكلفة من الجهة الأخرى؛ الأمر الذي أدى بدوره لحدوث تحولات وتغيرات جذرية في السياسات المختلفة للدول والرعاية الاجتماعية بشكل خاص نتيجة لزيادة المصاريف والنفقات على الخدمات العامة بشكل كامل، غير أن هذه التحولات واجهت مقاومة من قبِل الكثير من الناخبين والجمهور. وهو ما جعل الكثير من الأسئلة تُطرح من قبل العديد من الباحثين المتفقين مع هذه التحولات أو عكس ذلك، ومن ضمنها وأهمها: هل هذه التغيرات تجميلية شكلية أم تحويلية عميقة؟ وهل تُسهم هذه التحولات في تآكل المهمة الأساسية لدولة الرفاه؟ أم أنها تقوم بعملية إصلاحية؟ لاشك أن هذه الأسئلة حجاجية من الدرجة الأولى، فهناك الكثير من المتفقين معها من جهة والكثير من المختلفين معها من الجهة الأخرى، فهي تثير مسائل مثل المساواة بين المواطنين وهي المسألة المطروحة سابقا في الفصل الأول.

وفي مقابل ذلك، يطرح مُنك في الفصل الثالث (ص:100) وجهة النظر المعارضة لمفهوم المسؤولية وتبعاته المختلفة على الجميع؛ وذلك بعد صعود وهيمنة اليسار الذي طرح سؤال حول إمكانية القول بأن فعلا معينا يتسم بالمسؤولية الكاملة. وهو الأمر الذي ولد تصورا خاطئا حول هذا الموضوع من قِبل السياسيين والفلاسفة المعارضين لفكرة المسؤولية بشكل كامل، حيث أثّر ذلك بشكل كبير على صناع القرار على اعتبار أن الكثير من الأشخاص يقومون بأفعالهم بدون مسؤولية كاملة. ذلك أن معظم الانتقادات والردود تمحورت من قبل اليسار لهزيمة أو قهر هذا التوجه؛ وذلك من خلال مناقشة مسألة الحظ السيئ والسياسة، وبشكل محدد بعد صدور تقرير بعنوان "الحرب ضد الفقر بعد 50 عاما" في مارس 2014م، الذي أوضح الأسباب المختلفة لاستمرار الفقر في أمريكا بشكل بنيوي عميق، والتي تعود -بحسب التقرير- إلى نقص في التعليم المتوفر، وعدم فاعلية التدريب في رأس العمل التي لا تتواءم مع التغيرات في سوق العمل.

تكرَّرت هذه الحجج والكثير غيرها، والتي تعزو استمرار الفقر لهبوط وتدني ثقافة العُمال، والأجيال اللاحقة تلك التي لا تقيم وزنا للتعليم ولا للتدريب ولا للعمل، مما يعني أنه من الضروري التعامل مع هذه الثقافة التي انتشرت بشكل كبير في المجتمع؛ وذلك بعد تصريح معُد التقرير في العام 2014م، والذي أثار الكثير من ردود أفعال اليسار حول العلاقة أو الربط بين المسؤولية المفترضة للفقر وطريقة التعامل معه، ففي هذه الحالة تعود الأوضاع الاجتماعية للفقراء إلى الحظ السيئ واختيارات الأشخاص التي لم تساعدهم على تحسين أوضاعهم المعيشية وليس إلى شيء آخر، وهو ما سلط الضوء وفتح التساؤلات في المقابل حول سلوكيات الأثرياء.كما تذهب بعض هذه الردود الأخرى إلى أن سبب الفقر يعود الى كساد 2008م، وتلك الآثار التي خلفها على الأسر، وذلك نتيجة للفساد والاحتيال المالي والسلوكيات المقننة من قبل بعض مكاتب الانتخابات الرسمية التي استغلت بدورها هذه الأوضاع المالية الحرجة للأشخاص.

وفي ختام هذا العمل، يتحدث مُنك عما وراء مفهوم عصر المسؤولية، حيث إن كل مفهوم أو تصور سياسي يسترعي انتباهنا لوجود بعض المزايا فيه، حتى وإن كان يحيط به الغموض بنفس قدر أهميته، وهو ما يستدعي تسليط المزيد من الأضواء والاهتمام به، أو إعادة تأويله والحديث عنه، وهو ما يطرح السؤال حول مدى حاجتنا لهذا المفهوم من جهة، وكيف من الممكن بناء أو إعادة بناء الكثير من التحفيز أو إقصاء بعض المفاهيم المغلوطة عنه كما هي الحال في اعتباره المسؤولية بوصفها عقابا أو محاسبة. الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر أو نقوم بتقييم أداء الأشخاص في الفترات الماضية، وهل يستطيعون السيطرة على أفعالهم الفردية وحياتهم بشكل كُلي.

--------------------------------

- الكتاب: "عصر المسؤولية: الحظ، والاختيار، ودولة الرفاه".

- المؤلف: يوشا منُك.

- الناشر: Harvard University Press,2017.

- عدد الصفحات: 280 صفحة.

أخبار ذات صلة