السلب والنهب والضرائب: الضراوة والمجتمع من العصر القديم إلى العصر الوسيط

81mPOq2otSL.jpg

رودولف كيلير ولوري سارتي

سعيد بوكرامي

يُعد كتاب النَّهب والسلب والضرائب: الضراوة والمجتمع من العصر القديم إلى العصر الوسيط، الذي أشرف عليه الأكاديميان رودولف كيلير ولوري سارتي، أول مقاربة جادة وعميقة لإعادة قراءة تاريخ العصور الأوروبية القديمة والمتوسطة. وقد جاء نتيجة للأيام الدراسية التي أقيمت في الندوة التي عقدت في فرانكفورت في يونيو 2012، وخصصت لدراسة تاريخ النهب والسلب، منذ سقوط روما في 410 إلى عهد النهب العنيف للفايكينغ في القرنين التاسع والعاشر. ومن بين النتائج العلمية التي أسفرت عنها الدراسات إجماعها على مقاربة مُغايرة لهذه الغارات العنيفة إذ حللتها كظاهرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية.

لولوج عالم الكتاب لابد من العودة قليلاً إلى ما عرفته القرون الأول تاريخ أوروبا، أو ما اصطلح عليه، بالعصور المظلمة وتحديدا من القرن الخامس الميلادي إلى أواخر القرن العاشر منه. أي من بداية انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية إلى الحقبة التي عرفت بعصر النهضة والاستكشافات. كانت أوروبا خلال هذه الفترات تعيش انحطاطًا وفوضى وحروبا دامت عقودا طويلة. وكذلك في العصور الوسيطة المتأخرة مع بداية القرن الحادي عشر، وخلال القرن الثاني عشر. لم يتغير أي شيء، فقد انتشرت الحروب الصليبية بفظاعاتها الدامية، وانخرط الملوك الفرنسيون والإنجليز في سلسلة من الحروب المُتعاقبة نتيجة خرق اتفاقيات الهدنة والمعاهدات؛ مما طبع هذه العصور بالتوتر، وعدم الاستقرار. فبعد اجتياحات الرومان وبداية تفاقم حكمهم وانهياره، بدأ القوط الشرقيّون حملات النهب والسلب التي استمرت لعقود، ثم جاء الغزاة البرابرة والشعوب الجرمانية، فانتشرت الحروب الأهليّة إلى جانِب الغزوات الخارجيّة من طرف الفايكنج في الشمال والمجريّين من الشرق والسارسيين من الجنوب. وتلا ذلك كله تمرّد الفلاحين على الاستبداد الإقطاعي والجنود العاطلين على جنرالاتهم المنهزمين. في ذروة هذا التفكك السياسي والاجتماعي والانهيار الاقتصادي ازدادت الهجرات، والمداهمات واندلعت عمليات النهب والسلب وفرضت الضرائب المجحفة في كل مكان من أوروبا. وقد تميَّز تاريخ هذه المرحلة بالضراوة والنهب والأسر وفرض الضرائب بالقوة. لم تكن هذه الممارسات ذات فائدة للباحثين لفترة طويلة نظرًا لنظرتهم السلبية لهذه العصور الدموية. زد على ذلك فإنَّ هذه المظاهر الاجتماعية العنيفة لم تستهو إلا قلة من الباحثين، وكان بعضهم في بعض الأحيان متحيزاً، مثل الدراسات، التي اهتمت بدراسة نتائج غزو الفايكنج، والمجريين أو النهب السارسي للغرب المسيحي. هذا يعني ضمنيًا الحكم على بعض المجتمعات، مثل الإسكندنافيين، وتأطيرهم داخل عاداتهم الضارية والشرسة والعنيفة، في حين لا يُمكن التفكير في الغرب المسيحي، إلا بالاعتماد على السياق التاريخي، كنسق اجتماعي لا يتشكل من الضحية أو الغازي فقط. لهذا منذ بضعة عقود بدأنا نشهد منظورًا تاريخيًا آخر، لهذه الفترة، بحيث أصبح يُنظر إلى النهب والسلب وثقافة الغزو التي سادت في تلك الآونة كظاهرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. ومن هنا شرع الدارسون بمعالجة قضايا متنوعة مثل أشكال تقسيم الغنائم، ونطاقات الغزو حيث يتم تصريف الثروة، وإدراج أسرى الحرب في الاقتصادات المحلية أو في دوائر تجارة الرقيق، وأهمية الغزو في تكريس السلطة أو انهيارها، أو الطريقة التي تضفي بها هذه المجتمعات الشرعية على ممارساتها الضارية والعنيفة، ومن بين هذه المقاربات الجديدة، التي تلقي ضوءا جديدا على هذه الممارسات المثيرة، دراسات الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، إذ نجده منذ البداية يشير فيه رودولف كيلر، منسق الكتاب، في مقدمته الغنية، أن الغزو الضاري يعد أحد السلوكات العديدة التي تختلف فيها المجتمعات القديمة اختلافاً جذرياً عن مجتمعنا المعاصر، لاسيما تلك التي تعود إلى العصر القديم. إنَّ حقيقة الاستيلاء على ممتلكات الآخرين من خلال العنف، في سياق يشبه الحرب، هي في الحقيقة مستنكرة قانونيا وأخلاقيا اليوم، في حين أنها كانت حقيقة أساسية لمُجتمعات تلك الأوقات. فقد تم قبول شرعية هذه الممارسات من قبل الجهات الفاعلة كلها تقريبًا في ذلك الحين. عكس ما روجت له بعض الكتابات المتسرعة في التأريخ والتي جعلت النهب من اختصاص "البرابرة" دون سواهم، فإن هذا الكتاب، يؤكد أن هذه الممارسات هي في صميم التقنيات العسكرية، وأيضًا في صميم الحياة السياسية، والاجتماعية والاقتصادية لجميع المجتمعات في تلك الحقب. وبناء عليه يصبح النهب ظاهرة معقدة حيث يلعب تداول السلع دوراً قوياً، ولكنها تلعب أيضاً دوراً مهماً في صناعة الشرعية لأي عمليات عنيفة ووحشية.

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات العامة، تستخدم المقالات التسعة في الكتاب مقاربة مونوغرافية، تركز كل منها على مُجتمع محدد. في البداية يتناول بونوا روسينيول تاريخ الإمبراطورية الرومانية، التي اضطرت إلى وضع مجموعة من التدابير الدفاعية لحماية نفسها من الجيران الذين يسارعون إلى شن غارات على الممتلكات والناس. وقد اعتمدت في جزء كبير منها على حماسة السكيوريتاس أنفسهم المشاركين في عقد السلام الروماني، الذي ينص على ضرورة حماية السلطة الإمبراطورية سكان الإمبراطورية، وخاصة عن طريق شراء الأسرى المستولى عليهم خلال الغارات. ولكن الإمبراطورية نفسها كانت كياناً ناهباً هائلاً، فقد كان الجنرالات الرومانيون قادرين على نهب، وفرض الضرائب على القبائل وأسر العبيد. بل كانوا يعتبرون ذلك ضرورة سياسية، كما كانوا يمنحون جنودهم مكافآت سخية، لأنَّ الجنرالات كانوا يخشون أن يغتالوا من طرف جنودهم. أما الباحث غيدو بيرند فانكب في بحثه على دراسة المجتمع القوطي، وعلى وجه الخصوص القوط الشرقيين الذين قاموا بمُمارسة النهب المتكرر والممتد بشكل منهجي إلى درجة أنه شكل منظومة ملفتة أطلق عليها "اقتصاد النهب" الذي يكمن وراء كل هياكل السلطة التي وضعها القوطيون. أما الباحثة ماريليا ليكاكي فتخصص مادتها البحثية لإبراز أهمية النهب في الجيوش البيزنطية، إذ تعتبره نشاطا حربيا عمليا طبيعيا تماما، ينظر إليه على أنه واحد من المصادر الرئيسية لدفع أجور القوات العسكرية، وخاصة في فترة تميزت بضعف السلطة الإمبراطورية وبالتالي السعي من وراء ذلك إلى خلق نظام من التوازنات. غير أنَّ هذا لا يعني أن عمليات النهب هذه تتم بطريقة غير منظمة: بل على العكس، فإن المعاهدات والقوانين الاستراتيجية تصر على أهمية أن يراقب الجنرال عن كثب توزيع الغنائم. وأخيرا عكفت الباحثة لوسيا مالبوس على درس تاريخ النهب لدى الدول الإسكندنافية، مذكرة أن عدوانية هؤلاء القراصنة الشماليين ليست موجهة فقط ضد المجتمعات الخارجية. فقد كشفت الحفريات الأثرية الجديدة أن الفايكنج نهبوا أيضا موانئ النرويج والدنمارك. وقد بينت الأبحاث أنَّ النهب نشاط له قيمته الاجتماعية في هذه المجتمعات، بحيث أنه لا يعتبر سرقة أو اعتداء: تستشهد الباحثة بقصة "إجيل"، الذي سرق ثروة صاحب مزرعة أثناء الليل قبل أن يدرك أنه أخطأ، فيعود أدراجه ليقتل المزارع وعائلته حتى يتجنب العار الذي قد يلحقه حينما ينكشف ما حدث لهم، فيرتبط اسمه بسرقة مبتذلة.

من بين هذه الدراسات المونوغرافية، تبرز دراسة غي هالسول التي تظهر بجلاء أنها أفضل دراسة احتواها الشق الفرنسي من الكتاب "الجزء الثاني من الكتاب ضم دراسات باللغة الألمانية" فبعد أن ذكّر الباحث بتنوع المجتمعات القديمة قبل العصر الوسيط وبعده، يُثير مسألة الفعالية الحقيقية من النهب والسلب في سياق المجتمعات الريفية، التي لا تستعمل العملة النقدية في تجارتها إلا نادرًا، كما أنها تتميز بانكماش ديمغرافي واقتصادي لا يُمكن إنكاره، فماذا يوجد لدى هؤلاء لنهبه؟

 قد يستولي اللصوص، بالتأكيد، على عدد قليل من رؤوس الماشية، أو كنوز متواضعة في الكنائس المحلية، أو أخذ بعض العبيد، لكن هذه ثروات ضئيلة جدًا مقارنة بتكاليف هذه الحملات ومخاطرها. ما هو الغرض من النهب إذن؟ يقترح الباحث تفسيرين اثنين، الأول سياسي والثاني أنثروبولوجي. على المستوى السياسي، كانت المجتمعات القوية تعتبر نهب أراضي الخصم وسيلة جيدة لتدمير شرعيته أو إجباره على قبول معركة ضارية وغير متكافئة. ويقدم الباحث مثالا الإنجليز الذين لم يتصرفوا بشكل مختلف في بداية حرب المائة عام. وعلى المستوى الأنثروبولوجي، يقترح غاي هالسال أن النهب في نهاية المطاف يمارس من أجل تأكيد ممارسات حربية ورمزية، لأنه يرفع من قيمة المحارب اجتماعيا وسياسيا. ومن هذا المنطلق يقترح الباحث مقارنته بطقوس الصيد في العصر القديم، لأننا نعرف الآن من علم الآثار أن الطريدة لا تشكل سوى جزء صغير من النظام الغذائي في العصر الوسيط: إذا كان النبلاء يصطادون، فليس لإطعام أنفسهم ولكن فقط للتألق في عيون أقرانهم. كذلك عملية السلب والنهب فهي في الأساس النموذج نفسه لأنها تشكل جزءا من ثقافة المنافسة والسباق على التميّز، فبواسطة النهب يأمل المحارب خصوصًا أن يُميز نفسه بين رؤسائه للحصول على الألقاب، التي كانت لها أهمية أكبر قياسا بالثروات المسلوبة.

وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لهذه المساهمات البحثية، فإننا نلاحظ عددا من العيوب الشكلية، تهم جوانب التصنيف والأسلوب. كما يمكن أن ننتقد العديد من الدراسات نظرا لمنهجها المتسرع أيضًا. ومرد ذلك، دون ريب، إلى الرغبة في تغطية جميع جوانب الظاهرة المحددة في المقدمة بصيغة جماعية دون تطوير هذه الجوانب حقًا. على الرغم من أن هذا الخلل لا يتناقض مع المنهج التاريخي، إلا أنَّ هذا الخلل يشعر القارئ بالإحباط، لأنَّ عددًا من القضايا لم يتم الإحاطة بها بشكل مفصل. مثلاً: الباحثة ماريليا ليكاكي قالت إنِّها ستعود في دراستها إلى تحليل الدور الاقتصادي الذي يلعبه أسرى الحرب، لكنها لم تكرس للقضية سوى سطرين. هذا التناول السطحي في بعض الأحيان والحالات أفقد بعض الدراسات رصانتها العلمية، ثم هناك عامل مؤسف أيضًا ويتمثل في أن المشروع ضخم، ولكن الحيز المخصص ضيق، لأن الكتاب قصير جدًا، حوالي 214 صفحة. ربما كان من المُمكن ترك مساحة أكبر للباحثين لتطوير أفكارهم. وبالتالي فإنَّ الانطباع العام حول الكتاب يشوبه إلى حد ما بعض الغموض بسبب مشاكل في تصنيف فصول الكتاب وموضوعاته ومع ذلك يظل الكتاب حقيقة مشتلا زاخرا بمجموعة من الأسئلة المثيرة للاهتمام والقابلة للتحليل والتأويل، لأنَّ الكتاب يركز على موضوع ما زال قليل التناول من طرف الدراسات التاريخية. لهذا يستحق التنويه لتخطيه هذه الحدود في كتابة التاريخ ولكسره الفجوة التقليدية التي تفصل بين العصر القديم، حتى الفترة المتأخرة منها، والعصر الوسيط، وحتى الفترة المتأخرة منها أيضاً. وبذلك قرّبت الدراسة المسافة الرهيبة والمثيرة بين إمبراطورية أنطونيوس ونرويج الفايكنغ، بحيث أظهرت تواصلاً وتقارباً وتشابها بين الحقبتين. وهذا وحده يعد إنجازا مهماً في الكتابة التاريخية. كما أنَّ منجزات الكتاب المنهجية والموضوعاتية يمكن أن تؤخذ نموذجاً يحتذى به من قبل الدارسين العرب لتاريخهم العربي الشامل أو للدارسين العرب لتاريخهم الإقليمي، بحيث سيتمكنون من إزاحة الغبار عن تاريخهم القديم لتبوؤه مكانة جليلة يستحقها بكل تأكيد. كما أن الكثير من مفاتيح فهمنا لحاضرنا ومستقبلنا منحجبة عنا وراء أدبياتنا التاريخية القديمة ومآثرنا المطمورة تحت التراب والنسيان.

--------------------------------------------------------------

الكتاب: النهب والسلب والضرائب: الضراوة والمجتمع من العصر القديم إلى العصر الوسيط.

المؤلف: رودولف كيلير ولوري سارتي

الناشر: منشورات جامعة السوربون. سلسلة التاريخ القديم والوسيط.

اللغة: الفرنسية.

تاريخ النشر: 2018

عدد الصفحات: 214 صفحة

 

 

أخبار ذات صلة