نشأة التفسير ورواده

أمجد سعيد

في مقالته البحثية بعنوان "مدرسة ابن عبَّاس في التفسير وتأثيرها في كُتب التفسير" بدأ أحميدة النيفر بتقديم المدخل الأساسي لنشأة الجهود التفسيرية من ناحية حضارية وأيضًا تاريخية، ويستعرض في بدايته بمقولة ابن خلدون في مُقدمته التي ناقشت شتى العلوم وأصنافها من بينها التفسير تحديداً:"إنَّ القرآن نُزِّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا جميعهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مُفرداته وتراكيبه". إنَّ هذا القول له دلالة خاصة لا تنفصل عن خصوص السياق الذي أورد فيه صاحب المُقدمة مقولته هذه.

ما يرمي إليه هذا القول أنَّ ابن خلدون لا يتناول الجهود التفسيرية في القرآن الكريم إلا من منظور الصيرورة الحضارية. لذلك؛ فهو يرى أن ما توفر للمسلمين من فهم للقرآن في العصر النبوي وما جاء بعد ذلك مع جيل الصحابة والتابعين كان لا بد أن يقتصر على جملة من المعارف التي ستتهيأ لها ظروف لاحقة، لتتحول إلى منظومة علمية في عصر التدوين. مؤدى ذلك أن الجهود التفسيرية كانت متناسبة ومحكومة بما كان متاحاً للجماعة المؤمنة صمن مسار التمدن الظرفي لها؛ ذلك أن الفهم الحاصل للقرآن في مرحلة ما قبل التدوين كان مقتصراً على جملة من المعارف المرتبطة باحتياجات المعاش المتاح وإمكانية الأجيال الأولى وحدود وعيها ومدى نمو عمرانها. على ذلك يصبح القول متعذراً بتوفر تفسير كامل وشامل للقرآن الكريم منقول عن الصحابة والتابعين منهم، لأن ذلك متناقض مع الشرط الحضاري القاضي بالتلازم بين كل فهم ودرجة تمدن أصحابه ورقيهم الحضاري. على هذا، فإن ما تفضي إليه هذه القاعدة الحضارية التي يعتمدها كل من ابن خلدون والزركشي هو أن فهما إجمالياً للقرآن الكريم كان قد توفر للصحابة والتابعين بما يفسر الفروق والتباينات بين أفهامهم، وأن العصور التالية ستفرض على هذا الواقع الحضاري مزيداً من التباعد والاختلاف، الأمر الذي يستدعي ظهور مقاربات تفسيرية جديدة. تشهد على هذا كتب الصحاح التي تروي لنا ما وقع فيه الصحابة من تباين في تفسير آيات القرآن الكريم تبعا لاختلاف مداركهم ومعارفهم ومدى استيعابهم للغة العربية وخصوصية اللغة القرآنية، ونتيجة التصاقهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ودرجة قربهم منه.

أما العنصر الآخر فيتعلق بنشأة الجهود التفسيرية الأولى وعلاقتها بطبيعة تكوين الجماعة المؤمنة في مكة ثم في المدينة في حضرة الرسول وبعنايته الموصولة. ما ثبت في هذا الخصوص هو أن همّ الصحابة كان متجهًا للعمل بالأساس، وهذا الحرص على العمل هو الذي يفسر توجيه النبي عليه السلام إلى الاقتصاد في السؤال. بناءً على هذين العنصرين يمكن القول إن الجهود التفسيرية الأولى كانت وثيقة الصلة بمقتضياتها التاريخية وما تفرضه من ذهنية عملية؛ لم تحققه هذه الذهنية من قدرة على التحرر أو السعي للتحرر من قيد أنساق العقدية المغلقة والنهائية ذات النزوع إلى وضع تفسير شامل. بحكم هذا الحرص على العلم والعمل والفاعلية، فإن فهم الجماعة الأولى من المسلمين كان متميزا نتيجة تلك الذهنية بالقدرة على فهم التناقضات التاريخية التي تخترق واقع الجماعة المادي والفكري والروحي، وكان ملزمًا باتخاذ موقع ضمن ذلك السياق التناقضي، مما يعني أن الجماعة كانت على وعي بهذا الموقف ومستلزماته وما تستدعيه من إكراهات لازمة لتحقق القدر التاريخي الممكن من التحرر المنشود. ذلك هو المنطق العملي الذي حكم فعل الجماعة الأولى المؤمنة وحكم فهمهم، وهو الذي تحول لديها، أي الجماعة، من الفكرة لمبدأ ممارسة وفعل وأساس للتوازن بين الضرورة والتحرر.

حين تعرض المصادر والمراجع لأهم من اعتنى بالتفسير من كبار الصحابة تذكر الخلفاء الأربعة ومعهم ابن مسعود وابن عباس وأُبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وزيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير. تفصّل المصادر نفسها بعد ذلك الأمر، فتحدد أن كثرة الرواية عمن عرف بالمفسرين من الصحابة تنحصر في أربعة منهم: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، مبينة أنَّ الذي بوأهم لهذه المكانة صفات أربع هي: الدراية باللغة العربية، بمناحيها وأساليبها، ومعرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن الكريم، والقدرة على الاجتهاد في الفهم وتقرير ما وقع عليه التوصل إليه بالاجتهاد إلى جانب التفرغ للتحصيل ومعاشرة الرسول وأعيان الصحابة.

ما يلاحظ من جهة أولى في هذا التصنيف أنه يقدم عنصري المعرفة والاجتهاد على سائر الاعتبارات عند التعريف بمن كان أقدر على التفسير وأجدر بالتقديم. ذلك ما نجده في أكثر من رواية منسوبة لهذا الصحابي أو ذاك ممن كان معدودا من كبار المفسرين، وفي تلك الروايات إعلاء من شأن العناصر الشخصية والمناقبية. وبالرجوع إلى مقدمة ابن خلدون فليس في قول صاحب المُقدمة ما يرجح مذهب الذين يرون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بين للصحابة كتاب الله كله، ألفاظه ومعانيه؛ لما في هذا القول من تعسف لا يتناسب مع النص القرآني المفتوحة معانيه على الشروط الحضارية التي يعيشها جيل الصحابة والتابعين؛ تلك المعاني التي ظل لا يحد فهمها زمن واحد أو فهم نهائي أو سياق حضاري. ما حصل للجيل الأول من المسلمين وفق هذه القاعدة الأولى من فهم ومعرفة كان مواكبًا من جهة لما لديهم من معضلات عقدية وتصورية ومعاشية، وكان لذلك أفضل فهم لما هو متاح لتلك الظروف وتلك الإشكالات، وضمن حدودها من جهة ثانية. وبناء على كل هذه القواعد والظروف والعناصر يطرح السؤال التالي: كيف ينبغي علينا أن نفهم المنهج الذي اعتمده المفسرون من الصحابة؟ هل من خلال ما أثر عنهم أم دراسة حياتهم وتحليلها؟ مع الأخذ بالاعتبار الظروف المحيطة بفترة فجر الإسلام.

أخبار ذات صلة