ناصر الحارثي
تسعى فينان نبيل من خلال دراستها حول "مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الإسلامي" إلى مناقشة وتحليل ظهور هذا المفهوم في العصر الحديث عند الغرب وعلاقته بالحضارة العربية الإسلامية، إذ يعد مفهوم المواطنة أحد أهم مرتكزات الدولة المعاصرة خاصة في الدول والمجتمعات التي تتسم بتعدد الأعراق والأديان، كما أن مصطلح المواطنة من القضايا المعاصرة في الدول العربية التي تشهد حراكا سياسيا على مختلف المستويات.
تاريخ المواطنة عند الغرب
يرى الكاتب أن مفهوم المواطنة تبلور بشكل واضح عند الغرب بعد قيام الثورة الفرنسية في عام 1789م، لكن أصول المصطلح تعود إلى ظهور الدولة المدنية في اليونان القديمة فيما يعرف باسم المواطنة الأثنية، والذي يدل على الانتماء والولاء إلى ثقافة ولغة وأرض أثينا، إلا أن هذا المفهوم كان يفتقد إلى عناصر أساسية مثل المساواة والحقوق والواجبات، حيث كانت حقوق المواطنة محتكرة على الذكور الأحرار فوق سن الثامنة عشرة، أما النساء والعبيد والأطفال دون الثامنة عشرة فهم خارج دائرة الحقوق، كما أن الحقوق لم تكن مكفولة للجميع، وانتقل هذا المفهوم إلى الفكر السياسي الروماني ونتج عنه القانون الروماني والذي يسمى بقانون الشعوب، وحقق هذا القانون إلى حد ما عددا من الحقوق والحريات لدى الرومان، ولكنه في الآن ذاته قسَّم الشعب إلى طبقات واعتبر القانون غير الرومان من أبناء الدولة طبقة أدنى من الرومان، وفي العصر الحديث ظهر مفهوم المُواطنة بشكل واسع خاصة مع فلاسفة العقد الاجتماعي هوبز ولوك وروسو، وتطور مفهوم المواطنة مع إرساء مبدأ الحقوق والواجبات في القرن الثامن عشر في بريطانيا، وفي القرن الماضي أصبحت المواطنة من قيم ومبادئ الفكر الليبرالي في شقيه السياسي والاجتماعي.
تاريخ المواطنة في الإسلام
يعتقد الكاتب أنَّ المُواطنة، وإن لم تظهر كمفهوم في الحضارة الإسلامية، كانت مبادؤها من مساواة وحقوق وواجبات مُتجلية مع بدايات الدولة الإسلامية الأولى؛ حيث إنَّ أول دستور للدولة الإسلامية أقرَّ التعددية الدينية على مبدأ المساواة لأوَّل مرة في التاريخ. كما أن الكاتب يرى أنَّ الخلافة الراشدة كانت الفترة التي تحقق فيها الكثير من مبادئ المواطنة قبل أن تنحرف في العصر الأموي مع اتساع الرقعة الإسلامية وظهور العصبية العرقية، حيث قامت الدولة الأموية على وجود عصبية عربية إسلامية موالية للحاكم، وبيئة عربية نصرانية مُحايدة أو مقربة من الحاكم، وعصبية عربية معارضة محرومة من الامتيازات، حتى أصبحت المواطنة مبنية على درجة الولاء للحاكم، وفي العصر العباسي انتقلت العصبية للفرس، ولم تكن الدولة العثمانية بأحسن حالٍ من سابقاتها، وظهر بعد ذلك أنظمة عسكرية مركزية في العالم العربي سميت بالأنظمة التقدمية وغابت فيها أيضًا مبادئ المواطنة، ليُصبح مفهوم المواطنة عند العرب أشبه بالمثالية البعيدة عن الواقع السياسي.
استخدم الكاتب أدوات متباينة في المقارنة عند الحديث عن تاريخ المواطنة في الإسلام والغرب، حيث اعتمد على وجود مصطلح المواطنة وتطبيقاته في الحضارة الغربية، أما في الحضارة الإسلامية فقد كان أكثر تمسكاً بالمفهوم التقليدي السلفي الذي يعكس طوباوية الحضارة الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة ويعتبرها الفترة التي قامت فيها المواطنة الكاملة ومن ثم غابت عن الحضارة الإسلامية إلى يومنا هذا، لذا كان الاستطراد التاريخي عن المُواطنة مخلا بمفهوم المواطنة ودلالاته، وهو يرجع إلى إشكال أساسي وهو موضوع بنية الدولة المُعاصرة والدولة الدينية والعلاقة بينهما.
ومن ثم يُعرج الكاتب إلى مناقشة مفهوم المواطنة وأنها تعكس العلاقة بين الفرد والدولة على أساس مجموعة من الحقوق والواجبات تسمى الدستور الذي ينظم العلاقة بين الجانبين ويضمن الحرية للفرد في المجتمع، وأن المواطنة مبنية على خيار ديموقراطي لذلك من الصعب تحقيق هذا المفهوم في الدول غير الديموقراطية، كما أنَّ المواطنة ترتكز على ثلاثة أنواع من الحقوق الأساسية وهي الحقوق المدنية والحقوق السياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما الحقوق المدنية فحق المواطن بحياة كريمة بدون التعرض للتعذيب وحقه في الملكية والحقوق الشخصية وأن يكفل القانون حقه ويحميه من أي اضطهاد، وأما الحق السياسي فهو حق الانتخاب والمشاركة والتمثيل السياسي، وتتمثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في حق كل مواطن بالعمل والأمان الاجتماعي، وبناءً على هذه الحقوق يلتزم الفرد بالمقابل بعدد من الواجبات كدفع الضرائب وإطاعة القوانين والدفاع عن الدولة، وإظهار الالتزم والولاء السياسي للدولة والمجتمع، واحترام حقوق الآخرين، أما قيم المواطنة الأساسية فتتمثل في المساواة بين كافة المواطنين الحاصلين على الجنسية دون النظر في الدين والعرق والجنس، وحرية الاعتقاد والتنقل في البلاد وحق الحرية في التعبير، وقيمة المشاركة وفاعليتها في الجانب الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقيمة الانتماء من خلال وجود هوية مشتركة.
من أهم الإشكاليات التي نجدها في طرح الكاتب محاولته حمل لواء الدفاع عن الدين بدل التحلي بأسلوب الباحث، وجعل مفهوم المواطنة مفهومًا فاعلاً في الدين الإسلامي واستخدام بوصلة القيم في كل من المواطنة والإسلام، ولكن في الحقيقة هذه مُغالطة منطقية تؤدي إلى وضع الإسلام والحضارة الإسلامية في مرحلة الضعف، والذي يستدعي في المُقابل الدفاع عن الدين الإسلامي أمام كل مفهوم أو نظام حداثي بالقول إنِّه موجود في الدين الإسلامي كما فعل هذا الكاتب في هذه الدراسة، أو تبني فكرة مخالفته للعقيدة الإسلامية ومبادئ الدين. وفي حقيقة الأمر بنية الدولة مرَّت على مراحل متغيرة وتطورت أنظمتها ومفاهيمها حتى ظهور الدولة بشكلها الحديث عند الغرب، ليظهر معها مفهوم المواطنة كجزء أساسي من الدولة؛ لذا يُمكننا القول إنَّ المواطنة بمفومها الحالي أحد منجزات الحداثة، أما الدين الإسلامي فهو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقيم والسلوكيات التعبدية لذا لا توجد علاقة مُباشرة بين المواطنة والدين لأنَّ مفهوم المواطنة مرتبط بالدولة وأنظمتها، ولا يُمكن أن نقول بأنَّ المواطنة تظهر في الدولة الدينية وتختفي على حسب قبولنا لتلك الدولة أو الحاكم، وفي الإسلام هناك مصطلحات مثل الجزية وأهل الكتاب وأهل الذمة والمُشركين وكلها مصطلحات يجب دراستها عند محاولة ربط مفهوم المواطنة بالدولة الدينية.
