الهجرة وتكوين الجغرافيـا السياسية لدولة الإسلام

داود الهطالي

إنّ الإسلام في بداية العهد المدني بدأ في التوسع والازدهار، وهذا نتاج عوامل عديدة عمل بها النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، فكما ذكر رضوان السيد في مقالته "الهجرة والفتوحات ودار الإسلام والمتغيرات قراءة في الاعتقاد والفقه والجغرافيا السياسية" أن تكوين دار الإسلام أو -ما نسميه- اليوم الدولة ليس بالأمر الهين السهل؛ بل يتطلب فكراً وقراراً وحركةً ومجالاً ثم تظهر الدولة أو دار الإسلام وهذا ما ذكره العلماء في مجال تكوين الجغرافيا السياسة التي بها تظهر الدول.

هاجر النبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب بعدما مكث فيها ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، لقد أراد النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد كتاب المدينة تأسيس جماعته الجديدة أو تأسيس الترابط فيما بينها على دعامتين، الأولى: الهجرة والثانية: المؤاخاة. فقد هاجر المسلمون من دار الكفر إلى دار الإسلام حيث تبعت الهجرة حقوق -كما ذكر قتادة بن دِعامة السدوسي- التوارث أو أن يرث المهاجر زميله في عقد المؤاخاة بمقتضى ذلك الفعل؛ أي الهجرة. بالهجرة ظهرت المدينة المنورة فاختلف المفسرون واللغويون في فهم هذا الأمر هل هو من الفعل دان أي: حكم وسيطر، أم من الفعل مدن أي: أقام واستقر، لكن بعضهم جمع بين هذين الفعلين وبين الفعل هَجَرَ أي: الترحل من أجل الاستقرار عند عرب الشمال، بهذا اجتمعت هذه المعاني في المدينة بمعنى المستقر الحضري ودار الحكم والسلطان. لكنّ الهجرة إلى المدينة لا تعني بالضرورة أن تكونَ آتيا من مكّة؛ فبعد وقعة بدرٍ أقبل أعراب من البادية بجوار المدينة للإسلام. ويربط كل من أحمد بن حنبل والنسائي بين الهجرة والبيعة والسمع والطاعة والجماعة، فالمهاجر إنما يعلن ارتباطه النهائي لا بدين الجماعة فقط بل بوحدتها الاجتماعية والسياسية. فالهجرة من المكونات الرئيسة لدار الإسلام عندما كانت محصورة بالمدينة، لكن بعد فتح مكة ما عاد للهجرة ضرورة كما ذكر الفقهاء، إذ صار من الضروري أن تتحول الهجرة إلى الداخل لتمتين العلائق داخل الأمة، وإلى الخارج في صورة جهاد من أجل تحقيق الأمة الجامعة.

فتح رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة وقال: لا هجرة بعد الفتح -أو بعد فتح مكة- ولكنْ جهادٌ ونيةٌ. معناه لا هجرة من مكة لأنها صارت دار إسلام، لأنه كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة المنورة وبقي الجهاد والنية. ظن الأنصار أن النبي-صلى الله عليه وسلم- عندما فتح مكة المكرمة وأكرم بني قومه وعفا عنهم أنه يريد الاستقرار بمكة ما دامت خضعت لسيطرته؛ لكنه نفى ذلك بشدة وقال" بل الدمَ الدمَ والهدْمَ الهدْمَ، أنا منكم وأنتم مني" مع أن فضل مكة ورجحان مكانتها الدينية أعلى من المدينة لكن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أراد من المدينة المنورة أن تكون عاصمة الدولة الجديدة أو عاصمة دار الإسلام.

بدأ رسول االله -صلى الله عليه وسلم- في استقبال كبار القبائل ليبايعوه، ليس على الإسلام فقط بل على السمع والطاعة وسمي بعام الوفود، كذلك أرسل المسلمين للدعوة والجهاد إلى الجبهات، وبعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل أبوبكر الصديق الجيوش إلى العراق والشام من غير أن تجتمع الجيوش في المدينة المنورة؛ بل كانت تتجمع في أنسب مكان من ديار الإقامة بناء على أمر الخليفة ثم ترسل رأساً إلى الجبهات، بهذا الأمر ظهر أنه لا يجب الهجرة إلى المدينة؛ بل كان الأمر العقدي الذي حرك الجيوش هو الدعوة إلى الله:( ليظُهِرَهُ على الدينٌ كُلِّه) ومقالة زهرة بن حوية بالقادسية لرستَم: "اللهُ ابتعثنا والله جاء بِنا لنُخرجَ العبادَ من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتِها، ومن جَور الأديان إلى عدْل الإسلام"، فقد كان أبو بكر وعمر يرسلان الجيوش ويضعان في الأغلب قادة الجيوش من المهاجرين والأنصار؛ أي أنهم من أولئك الذين تربوا على الرسالة الجديدة في بداية أمرها وتربوا على يد خير البرية رسول الله-صلى الله عليه وسلم-الذي اختلفت دولته عن دولة القياصرة والأكاسرة.

يظهر لنا من خلال هذه الأحداث التي حكت لنا حركة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وحركة الصحابة الكرام أن ظهور مكانة المدينة المنورة لم يكن عشوائيا ولا محض صدفة بل كان أمراً منظماً ومخططاً له، بعد هذه الأحداث اختلف الفقهاء في تعريف دار السلام، بعضهم من قال هي الدار التي تسود فيها أحكام الإسلام وتكون متاخمة لدار الإسلام ويكون الذمي آمناً بأمان المسلم، والقول الآخر أنها الدار التي تكون خاضعة للإمام المسلم حتى لو لم يكن فيها مسلمون بين السكان، بمقتضى هذه التعاريف وأقوال الفقهاء ظهر الاختلاف في المدن التي فتحها المسلمون ثم ما لبث أن انحسر الإسلام عنا هل تبقى دار إسلام أم تعود دار كفر ويلزم هجرة المسلمين منها، أم تبقى دار إسلام ويبقى المسلمون ما دامت السيطرة لدى المسلمين، هذا ما يتضح في الهند والأندلس والجزائر وليبيا عندما دخلها الكفار منهم من ألزمهم الهجرة ومنهم من بقي يعبد الله فيها ما لم يتعرض للإيذاء.

إن تكوين الجغرافيا السياسية لأي دولة يتطلب أمورا معينة وهي فكر وقرار وحركة ومجال، ونلاحظ كيف طبقها الرسول-صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، وكيف رفع منزلة المدية الدينية وجعلها عاصمة لدار الإسلام إلى أن أتى الاختلاف من بعده، فكان ظهور دار الإسلام زلزالاً جيواستراتيجياً قلب الأوضاع فيما صار يعرف حديثا بمنطقة الشرق الأوسط ومناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا وأوروبا، فقد زالت الإمبراطورية الفارسية وانحسرت السيطرة البيزنطية إلى أن أزالها العثمانيون عام 1453م. بعد هذه الأحداث سادت أيديولوجية مصارعة الاستعمار في العالم الإسلامي، إلى أن خرجت هذه الأيديولوجية بعد الحرب العالمية الثانية باستثناء فلسطين، وما زال الفلسطينيون يأملون أن يتحرروا بعدما خاضوا كفاحاً مسلحاً طويل الأمد ليسترجعوا دولتهم بالنضال المدني.

أخبار ذات صلة