منال المعمرية
إنَّ ثقافة العُنف الجامحة التي تتغلغل في مُجتمعاتنا العربية والإسلامية يومًا بعد يوم، تُعتبر المسبب الرئيس لزيادة الصدامات، وتوسيع فجوة الفرقة والتنابذ في عالمنا المعاصر. وفي ظل التحولات المُتسارعة ووجود البواعث والمسببات التي تعمل على تثوير هذا العنف، ما أحوجنا إلى إشاعة أفكار السلم والتسامح، والاعتراف بالآخر المُختلف، والتعايش معه. يرِد في هذا المقال أهم ما ذُكر في مقال الكاتب محمد بن الطيب؛ أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في جامعة منوبة في تونس. وهو المقال الذي نشرته مجلة التفاهم تحت عنوان "مسؤولية النخب الدينية والثقافية في سلم المجتمعات وتضامنها".
يقول الكاتب، إن من الظواهر الغريبة والمتفشية والتي تلفت النظر، هو وجود فئة مؤثرة من النخب والمثقفين العرب، ساهمت بشكل رئيس وواضح في تأجيج نار الفتن والصراعات وتفتيت المجتمعات وانقسامها، وهو ما يجعلنا نتعجب من الدعوات المحرضة الهائلة، التي تبثها هذه الفئة وتنشرها مُقابل الدور السلمي الذي من المفترض أن يعوّل عليها بشكل خاص.
يكفي أن نقرأ الجرائد ونشاهد البرامج الحوارية الصاخبة، حتى نكتشف ما فيها من خطابات مشحونة بالعنف والتعصب، ومملوءة بالكره وشيطنة الآخر، وكأنَّ التعايش مع المختلف أصبح ضربًا من ضروب المستحيل؛ فترى رجل الدين أو المثقف الكبير، يرعد ويزبد، منافحًا عن مصالح فئوية، ومدافعًا عن انتماءات مذهبية ضيقة وأحزاب محدودة، وفي مواقف أشد حدة، يحدث يدلق كوب الماء على وجه خصمه أو يعتدي عليه بالكلام أو حتى الضرب، فتمتد الألسن وتطول الأذرع، حتى يتحول المشهد من طاولة حوار مستديرة إلى حلبة مفتوحة للمصارعة بالقرون!
مثل هذا وأكثر، يحصل في زمن تقاعست فيه هذه النخب عن دورها الجليل، وتناست رسالتها الأسمى في إشاعة السلم، وتوحيد المُجتمعات والحث على تضامنها، وتعزيز تآلفها وتعاونها، وتقديم مصلحة البلدان ووحدة الأوطان وأمن الشعوب على أية مصالح وتحزبات أو مآرب أخرى.
عن مفهوم النخبة
لقد شاع هذا المفهوم بين النَّاس للدلالة على الصفوة من المُجتمع، تلك التي يتميز أفرادها بالتفوق على العامة بالعلم والمعرفة، مما يؤهلها لدور القيادة ويرفعها لمقام الريادة، فهي طليعة المجتمع التي تسهم بشكل مباشر في تحولاته وتوجهاته وتحركاته ووعيه.
وهؤلاء هم من يساهمون في إنتاج الخطابات المؤثرة على الجمهور، فلهم تأثيرهم المعنوي الكبير، وأدعياؤهم الذين يتبنون خطاباتهم.
ومن هنا يتجلى الدور الحيوي المنوط بالمثقف، في تقويم وتصحيح المسارات الاجتماعية، من خلال إحساسه بجسامة المسؤولية الاجتماعية المُلقاة على عاتقه، حيث يجب أن يحول وظيفته المعرفية إلى رأي وقضية، ووظيفة اجتماعية، وحراك ثقافي، وخطاب مؤثر على مستوى الوعي العام.
الأعمال العقلية لا تعني الثقافة
يضيف الكاتب؛ أن مزاولة الأعمال العقلية لا تعني الثقافة، وهنا عادة ما تقع مُغالطة كبيرة على حد تعبيره، فالذي تُبسط أمامه مشكلات يُعانيها مجتمعه ويُقاسيها شعبه فلا يستوعبها ولا يرى أنَّها تتعلق بحياته _فهي ليست من شأنه ولا من طليعة اهتماماته_ فلا يعد مثقفاً أصلا ولا يجب أن يحوز على هذا اللقب. ومن هنا، ليس المُثقف وحده هو الذي يزاول عملا فكريا، فمن الممكن أن يزاول أحد أفراد المجتمع عملا يدوياً أو بدنيًا، وإلى جانب ذلك فإنّه يحسن الفهم والتفكير، ويتميز بسعة الأفق والاطلاع، ويتفاعل مع الأحداث والمتغيرات من حوله فيعتبرها جزءا منه، فهو يعد نفسه خيطًا من الخيوط المشتبكة المكونة لهذا النسيج المجتمعي المتغير. ويمكن على العكس من ذلك، أن يزاول أحدهم عملاً عقلياً ذا أساس فكري، وينتمي بموجب ذلك إلى أهل الفكر، ولكنه لا يعد مُثقفا! ألسنا نعرف أناساً، ونلتقي بهم كل يوم، تعلموا تعليما عاليا ويقومون بأعمال عقلية، لكنهم رغم ذلك لا يفهمون مجتمعهم ولا يلقون بالاً لقضاياه وشؤونه!. إن هؤلاء لا يعدون مثقفين؛ لأنهم لا يتميزون بوضوح الرؤية وعقلانية القرار وقوة الانتماء الاجتماعي. فالمثفف هو ذلك الشخص القادر على فهم حركة المُجتمع من حوله، ومن ثم اتخاذ موقف فكري منها قد يكون أساسًا لبناء مشروع حول طبيعة هذه الحركة ومُستقبلها.
المتصوفة
وفي هذا الإطار، يستشهد الكاتب مُحمد الطيب بفرقة المتصوفة، والذين لم يكونوا بمعزل عن المجتمع، حيث كانت لهم مواقف احتجاجية، تمثلت بأسلوب الحياة الزهدية التي عاشوها، والتي كانت بمثابة الثورة المُسالمة ضد الحكام والسلطة. كذلك فقد كانوا يقدمون العبادات التعاملية على الشعائرية، إلى أن أصبح التصوف ظاهرة ثقافية شعبية لاسيما بين القرنين ١١ و ١٨ الميلادي، فكانت الحلقات الصوفية تمثل وسطاً يحتوي أفراد المجتمع، موفراً حاجتهم للاطمئنان والانتماء والالتحام الاجتماعي، حتى أصبحت المسؤولية الاجتماعية خصيصة صوفية، في وقت كانت فيه الغزوات قائمة، والأحداث التاريخية مضطربة. فلا الفقهاء ولا العلماء غطوا الحاجة الروحية لدى النَّاس في ذلك الوقت، ولكن نجحت في المُقابل المؤسسة الصوفية؛ فالتصوف لم يكن بمعزل عن المجتمع سواء كان تصوفاً فردياً أم جماعيًا.
إن كثيرا ممن يحسبون على الثقافة اليوم، قد تخلوا عن مسؤولياتهم الاجتماعية، ونسوا التزامهم الفكري والإنساني والأخلاقي والوطني إزاء شعوبهم وقضايا أمتهم. وعوضا عن اجتهادهم وابتكارهم لطرق تسهم في تخفيف الاحتقان الطائفي والاحتراب الداخلي، فإنِّهم يمسكون أقلامهم ليبنوا حواجز العزلة، ويقفون على منابرهم ليبثوا سموم الفُرقة.
لكن الثقافة الحق لمن يفهمها، ويستوعب مضامينها، هي نبذ لكل أشكال العنف والتسلط والهيمنة، وهي الدعوة إلى قيم العدل والحرية والسلام. وهي التي تعد الضمير المحتجب للمجتمع والمعبر عن تطلعاته الإنسانية وهي السبيل نحو التقدم والتطور الاجتماعي؛ فمن لم يلتزم بقيمها الإنسانية الرفيعة، ولم يعمل بهديٍ من مُثُلها العليا، كيف يسوّغ له الاتصاف بها، والانتساب إليها؟!
