مَنْ هو الطبيب العماني؟.. سؤال تاريخي لذاكرة لا تاريخية

ناصر الكندي

تتّسم الحضارة العربية الإسلامية بنُدرة وثائقها التاريخية؛ فعلى ضَخَامة التراث النصي في كافة الحقول المعرفية الدينية، إلا أنه لا تُوجد وثائق تاريخية تهتم بتأريخ الأحداث والأعلام والتشريعات مثلما هي الحال في الحضارة الرومانية التي تزخر بأرشيف لا يُتعب الباحث في تقصِّيه لواقعةٍ أو شخصية معينة. وقد يعود هذا الإهمال إلى طبيعة الحضارة الإسلامية التي اختارت مملكة السماء دون المملكة الدنيوية، ليكون الإرشيف في الذاكرة فقط دون الورق. ومن خلال هذه الحقيقة، وعلى الرغم من شحِّ المراجع والمصادر، يُجاهد الباحث "محمد الشيخ" في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، والمعنون بـ"من هو الطبيب العماني؟" في الوصول إلى هُوية هذا الطبيب الذي تمَّ ذكره بأربعة أسطر فقط في كتاب "تاريخ حكماء الإسلام" لظهير الدين البيهقي.

يقول البيهقي: "كان أبو الخير أثنى على العماني وقال: "هو أقوى أهل الزمان في صناعته". ومن كلماته قوله: "حق على المرء أن يوكل معه كالئين، أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر من وراءه، وهما عقله وأخوه الناصح". "ما ينفعك في ذاتك فاطلبه، وإن لم يكن فيه افتخار ما"، و"من استبد بمعالجته في حال مرضه يضرّك في الدنيا والآخرة فاتركه وإن كان به افتخار". من هذا النص، ينطلق الباحث وفق معطيات فقيرة لا تبشِّر برحلة بحثية يسيرة؛ فالبيهقي لم يذكر نسبه أو كنيته أو تاريخ ميلاده ووفاته. إلا أنه تم ذكر تحقيق يتيم في كتاب البيهقي: "في كتاب الجماهير للبيروني نقل عن أبي العماني، ولا ندري هل هو هذا؟".

يبدأ الباحث رحلته الوعرة بتذكُّر طبيب عماني آخر وهو أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي الصحاري (ابن الذهبي) صاحب "كتاب الماء" الذي ذكره ابن أبي صبيعة صاحب كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء": "وهو أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي، ويعرف بابن الذهبي، أحد المعتنين بصناعة الطب، ومطالعة كتب الفلاسفة، وكان كلفا بصناعة الكيمياء، مجتهدا في طلبها. وتوفي ببلنسية في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وأربعمائة، ولابن الذهبي من الكتب مقال في أن الماء لا يغذو". ويحاول الباحث عمل نظائر للطبييب العماني مع ابن الذهبي في كتاب الماء وفقا لما تم ذكره في كتاب البيهقي: 1- حق على المرء أن يوكل معه كالئين، أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر من ورائه، وهما عقله وأخوه الناصح". 2- ما ينفعك في ذاتك فاطلبه، وإن لم يكن فيه افتخار. 3- "ومن استبد بمعالجته في حال مرضه يضرك في الدنيا والآخرة فاتركه وإن كان به افتخار".. إلا أنه يفشل في ذلك.

ولكن تم العثور في كتاب "نهج البلاغة" لابن حديد على جملة قريبة من السطرين أعلاه؛ وهي: وقال بعض الحكماء ينبغي للإنسان أن يوكل معه كالئين، أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر من وراءه، وهما عقله الصحيح وأخوه النصيح، فإن عقله -وإن صح- فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة، ويخفي عليه ما خلفه، وأما أخوه النصيح فيبصره ما خلفه وما أمامه أيضا". إلا أن هذا لم يذكر اسمه بل اكتفى بأنه أحد الحكماء لا أكثر!

أما بالنسبة للجملة المذكورة في كتاب البيهقي: "أثنى على العماني وقال: هو أقوى أهل الزمان في صناعته". فقد تشير إلى اثنين؛ الأول: أبو سعيد أبي الخير الصوفي صاحب كتاب "أسرار التوحيد في مقامات أبي سعيد" وهو معاصر لابن سينا مثلما هو صاحبنا الذي نبحث عنه، وتوفي عام 460 هـ، بينما توفي أبو الخير 456هـ. ولكن صاحبنا طبيب وهذا صوفي!! أما الثاني: فقد ذكره البيهقي في "تتمة صوان الحكمة" بأنه الحكيم أبو الخير الحسن بن بابا بن سوار بن هنام، بغدادي المولد وحُمل إلى خوارزم ولم يكن مسلما فسمع هاتفا في المنام من رسول الله أن يسلم فأسلم. وذكر البيهقي أن له كتابا مفقودا وهو "امتحان الأطباء". وربما يكون هو إذ قال: "هو أقوم أهل الزمان بصناعته" وليس أهل زمانه، بمعنى أنه كان معاصرا لأبي الخير العماني.

وبالعودة إلى ابن الذهبي -إن صحّت مطابقته مع الطبيب العماني- فقد كان تلميذا للصيادلة؛ مثل: البيروني وابن سينا، وتلميذ تصانيف الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويذكر في "كتابه الماء" فضل ابن سينا والبيروني عليه كمعلمين، وله تعليقات طبية تتسم بالواقعية مثل جداله حول عمر الإنسان دون أي مبالغة! ويتحدث بجرأة عن بعض الخرافات في زمانه ويعيدها للمنطق والرأي السديد، ومنها عدم موافقته على شفاء المصروعين بالتدخّن من "ثمرة الصليب الرومي"، كما أن لديه وجهة نظر تتسم بالحداثة بشأن الإبصار، ويستعرض آراء الفلاسفة والرياضيين بأن الإبصار يأتي بسبب شعاع من العين، والثاني أن الجسم يسقط على العين فتراه وهو ما يذهب إليه، ويقترب في رؤيته الحديثة والواقعية جدا لحقيقة الإبصار من العالم العربي المشهور ابن الهيثم صاحب كتاب "المناظر" الذي يُعدُّ منظرا للتصوير لاحقا. كما أن ابن الذهبي شديد التجوال وسُمي بـ"السفّار"، وذهب إلى صحار مسقط رأسه إذ يقول عنها: "وصحار: قصبة عمان، مدينة طيبة الهواء كثيرة الخيرات، سميت بصحار ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام".

ويعود الباحث للتساؤل مرة أخرى في حال لم تثبت هوية الذهبي وتم ترجيح أطروحة محمد كرد علي؟ فقد ذكره البيروني في "الجماهر في معرفة الجواهر" بأن أبا العباس العماني كان يعرف الفارسية وعلم المعادن والطب، ومعاصرا للبيروني وابن سينا وهذا يقترب من صاحبنا، ولكن حتى ابن الذهبي يملك نفس خصائص أبي العباس؟ ليختم الباحث محمد الشيخ مقالته: عود على بدء: من يكون يا ترى الطبيب العماني؟

إن البحث في التاريخ العربي له وضع خاص جدا؛ إذ هو مثل البحث عن إبرة في كومة قش! فمجتمع الوحي لا يكترث بأسئلة التاريخ. ولكن لم يمنع هذا الغموض أن يفتح للغرب بابا حول لا تناهي الزمن والذاكرة الإسلامية وإمكانية تكرار شخصياتها في أزمنة مختلفة خالقة غموضا رومانسيا، كما هي الحال مع ألف ليلة وليلة مثلا! فقد كان هذا المجهول التاريخي العربي سببا لأن يتحول الشرق إلى مسرح جذاب وشائق للغرب. وعليه، فقد ذُكر أيضا في كتاب ألف ليلة وليلة -طبعة كلكتا- عن شخصية اسمها "أبو الحسن العماني" و"الرجل العماني"! لكنه اسم لتاجر وقيل لرحّال. إلا أن الزمن العربي الأبدي لا يستبعد أن تكون الشخصيات واحدة، خاصة أن شخصية أبي الحسن المذكور في الليالي العربية موجود في القرن الأقرب لابن الذهبي أو لأبي العباس العماني!! ولا يسعني سوى الانضمام إلى سؤال الباحث وفقا للأبدية العربية الإسلامية: من هو الطبيب العماني؟

أخبار ذات صلة