عاطفة ناصر المسكري
إنّ النصوص والكتب التاريخية تحتوي على الكثير من الدلالات التي تم الاستناد عليها في التحقق من الروايات المنقولة تاريخيًا وتصبح الأدلة أكثر قوةً وثباتًا عندما توجد بنفس التفاصيل في أكثر من مصدر واحد. تأخذنا هذه المقدمة للتأمل في كتابة الدكتور - حاتم الطحاوي في باب (مدن وثقافات) - لنص بعنوان "مكة المكرمة في السجلات الصينية في العصر الوسيط". كانت توجد فئة من الشعراء والكتاب الصينيين المسلمين عبر التاريخ، ولكن يندر ذكرهم في الكتب والنصوص التي تحدثت عن فئات المسلمين في مختلف الحضارات والشعوب. إلا أنّ التفاصيل تكاد لا تخلو من أمور تتعارض مع الحقائق المتعارفة لدينا اليوم كمسلمين. الصينيون كانوا يقومون بزيارات إلى مكة، المسلمون منهم وغير المسلمين، باختلاف أهدافهم. فالمسلمون كانت أهداف زياراتهم عقائدية، أما غير المسلمين فكانوا يقومون بالترحال رغبةً في الاستكشاف. وردت الكثير من التفاصيل التي تصف الكعبة ومكة والظواهر الطبيعية والبشرية التي حولها والهيئة التي كان يبدو عليها المسلمون. على الرغم من ذلك، تحتاج قراءة النصوص الصينية إلى فهم للّغة والرموز الصينية التاريخية، بالإضافة إلى القدرة على فك الشفرات التي كانوا يتبادلونها فيما بينهم لإيصال الرسائل. تذكر تلك النصوص وصول 39 سفارة من مختلف الدول العربية إلى الصين في أقل من 100 عام؛ وذلك لتوطيد العلاقات بين هذه الدول والصين. من ضمن هذه السفارات كانت سفارة مكة قادمة أيضًا؛ إذ أنها تعد رمزًا من الرموز الدينية الكثيرة - وفقًا للصينين - في ذلك العصر، إلا أنّ كافة المعلومات الواردة عن مكة – كرمز ديني – كانت خاطئة.
إنّ الاعتقاد السائد لدى الصينيين في ذلك الوقت أن الكعبة التي كانت في مكة تحتوي على ملائكة سماوية، وأنّ جد النبي صلى الله عليه وسلم قد دفن فيها، بالإضافة إلى وجود الكتب المقدسة داخل الكعبة حيث يتم الاحتفاظ بها هناك. ما يدعو للتساؤل حقيقة هي مسألة النقل هذه ما إذا كانت نقلت من الصينيين المسلمين أم الرحالة والمستكشفين؛ فقد كانت هناك مجموعة تخرج من الصين متجهة إلى مكة بنيّة الحج. من ضمن هذه الجماعة المسلمة كان جد الشاعر الصيني الذي كان يدعى بالحاج "ها تشي"، وكانت الرحلة إلى مكة تستغرق 80 يومًا كرحلة برية انطلاقًا من مدينة مرباط. وكان الاعتقاد السائد عن إله المسلمين "الرب" أنه بوذا، لكنه الخاص بالعرب حيث ولد في مكة. كما أن الفكر العقائدي السائد عن المسلمين لدى الصينيين كثيرًا ما يشبه أفكارا متعلقة بالوثنية والبوذية، حيث كانوا يعتقدون وفقًا لنصوصهم التاريخية بأن المسلمين يذهبون إلى الحج في ذكرى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم محمّلين بالهدايا والذهب والمجوهرات، ناهيك عن كون حكام العرب يرسلون أشخاصًا مخصصين لهذه المهمة محمّلين بنفس الأغراض متجهين بها إلى مكة. كان الصينيون يعتقدون بقوة إيمان العرب بعقيدتهم الإسلامية لدرجة أنه عندما يموت شخص ما، يدلِكُ صدره بحفنة من تراب قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ويعود للحياة. كما أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسطع منه ضوءٌ لا يستطيع أن يراه إلا من كان مؤمنًا صادقًا بإيمانه. واللافت للنظر في هذا الأمر، أن المعلومات التاريخية المغلوطة انتقلت إلى ثقافات وحضارات أخرى كالحضارة الأوروبية، حيث تذكر نصوصهم أن قبر النبي كان في مكة، تمامًا كما ذُكر نصًا في النصوص الصينية التاريخية، ولم يرد أنه في المدينة المنورة.
يجعلنا هذا الأمر نتساءل حول مدى صحة ما نقل من التاريخ إلى حاضرنا، سواءً من كتب تاريخية أو ما نقل عن فلان ابن فلان، فلا جدال على ما استطعنا إثبات صحته على مرأى ومسمعٍ منا، ولكن ما وضع التاريخ الذي وصلنا بمجرد أقاويل ونصوص غير مثبتة؟ من الجدير بالذكر في هذا السياق مسألة استحدثت لفترة من الزمن، حيث أجريت تجربة نقل حدث من شخص إلى شخص آخر يليه شخص ثالث وبعده أشخاص معدودون لا تتجاوز أعدادهم جميعًا 10 أشخاص، حيث كان الهدف المراد من هذه التجربة قياس مدى صحة انتقال الحدث بالتفاصيل الدقيقة الصحيحة من أول شخص بدأ التجربة إلى آخر شخص في التجربة، فإذا بالنتيجة تثبت أن التفاصيل التي ابتدأت بها التجربة اختلفت لدى آخر شخص، فكيف بأحداث حصلت قبل مئات وآلاف السنين ! يجب أن لا يعتبر هذا الأمر تشكيكًا بقدر ما هو تساؤل يأخذ بعين الاعتبار الأدلة التاريخية، بالإضافة إلى التجارب التي تثبتها المجتمعات ويثبتها العالم كل يوم سواءً عبر تناقل الأحداث بين عامة الشعب أو عبر القنوات الإخبارية التي تنقل صوتًا وصورةً حقيقية، لكن من الجانب الذي يخدم أجندتها الخاصة.
يقال أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فهل ينقل هؤلاء المنتصرون الحقيقة كاملة! فلنترك لأنفسنا مساحة للتفكير والتمعن حيث أن الأمر نسبيّ ويعتمد على أمور كثيرة للإجابة عليه. مثلاً، تعتمد حقيقة المواضيع التاريخية المنقولة على الناقل ومدى مصداقيته وقدرته على نقل الحقائق المطابقة للواقع. بجانب ذلك، مدى الإلمام يعد عنصرًا حاضرًا في تقييم عملية النقل، كما أنّ الحيادية مطلوبة في هذا السياق. إنّ حضور المشاعر في السرد التاريخي والانحياز منافيان للمصداقية أو القدرة على تحقيق مصداقية عالية في النقل سواءً كان ذلك بقصد أو بغير قصد. إن الطبيعة البشرية بما فيها من تعقيدات تحتم علينا أخذ التساؤل بجدية عوضًا عن مهاجمة طارحي السؤال واتهامهم بالتشكيك، فالظروف سابقًا والواقع بما فيه من أحداث اليوم تُثبت مدى أهمية إعادة التفكير بالأمر. نحن اليوم في غمرة ثورة الاتصال والتواصل وسهولة الانتقال، ومع ذلك تصلنا عشرات التفسيرات لحدث واحد فما بالك بالماضي!
