قيس بن حمود المعولي
العدل مفهوم رئيس ومهم في حياة البشرية وهو جزء لا يتجزأ من حياة المرء اليومية التي تحمل في طياتها وأوقاتها حركاته وسكناته واتصاله مع غيره وإتمام معاملاته وحاجاته وقضاياه. ولقد جاء الإسلام لينسق وينظم حياة المجتمع البشري وعندما جاء وضع تصوراته ومفاهيمه وسياقاته لكل أحكام الإنسانية، وفي هذا المقال نستعرض هذه التصورات والمفاهيم وتفصيلاتها بصورة مبسطة تعقيباً على مقالة للدكتور معتز الخطيب "العدل في التفكير الإسلامي: المفاهيم والسياقات".
لقد استهل الكاتب مقالته بعرض بسيط للعدل وأوصافه العامة والخاصة من منظور الإسلام والفلسفة والسياسة، وقد أورد أن المجتمع الحديث يفتقر للنقاش الفلسفي الذي لا ينظر تفصيلا في الأمور بل أصبح المجتمع يعرضها سطحيا فقط دون إبداء رأي أو طرح فيها بناءً على تأثير الفلسلفة الفرنسية الحديثة. إنْ نظرنا إلى الفلسفة في العدل لوجدنا أن هناك الكثير من النظريات والآراء القديمة منها والحديثة التي في مجملها ترى أن العدل هو أساس التشريع والقانون والإنصاف ومن أشهر هذه النظريات نظرية "العدالة كإنصاف" لجون رولز التي صدرت في مطلع السبعينيات التي أشار لها الكاتب في أطروحته.
وإن رأينا موضوع فلسفة العدل من جانب عقلي لحكمنا على ذلك بموجب الحياة اليومية والعملية وما قد حوته عقول البشر القاصرة، ولكن يجب على العقال أن يربطوا الأمور بأصولها وأساسها؛ فمنشأ الخلق من الخالق ومنشأ العدل من العادل فلذلك فليبتصر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن ينظر إلى العدل في الإسلام وكيف جاء مساوياً لحقوق البشر معطياً كل ذي حقٍ حقه، كما ورد في كتاب الله المحفوظ من الضياع، وسنة نبيه الكريم الذي لا ينطق عن الهوى "إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ".
العدل لغة كما ورد في معاجم العرب هو ضد الجور في القاموس المحيط، والإنصاف في معجم الوسيط، وقد ورد أيضًا أنه العدالة والاستقامة، وعدّل الشيء أي قومه وأصلحه. أما اصطلاحاً فقد ذكر أنه استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير وقيل أيضاً العَدلُ هو الاستِقامَة على طريقِ الحق بالاجتِناب عمَّا هو مَحظورٌ ديناً. وقد ورد ذكر العدل في القرآن دليل على أنه اسم من أسماء الله الحسنى وأنه مما أمر الله به فقال " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(سورة النحل:90).
وقد أُوْرد أن العدل يتشكل من ثلاثة عناصر هي حقوق الله، وحقوق العبد، وحقوق مشتركة بين الله والعبد. ولكن ليعلم المرء أن من أقام حقوق الله فقد أقام الحقين الآخرين، وإن ابتعد عن حقوق الله لما وجه للعباد حقوقها ولا نظر للحقوق المشتركة في الأصل ومن الأساس، ولكن هل العدل من الله، والظلم من البشر، أم أن العدل من الله والظلم أيضًا؟ يجب التفصيل في هذا الأمر إن الله قد تنزه عن العباد وتعالى الله أن ينزل بنفسه العلية إلى مقامهم، فهو العزيز المتكبر، ولكن الله عندما أوجد العدل أوجد معه الظلم لأنه إن لم يكن هناك ظلم فلن يكون هناك فائدة للعدل أصلاً، ولأصبح العدل
أمراً كالجماد لا ينظر حتى إليه فلذلك يمكن أن يوصف الظلم أنه الشرك بالله، والعدل هو الإيمان به، وأن الظلم هو سلب حقوق الناس، والعدل هو إرجاع الحقوق والمظالم لأهلها ومستحقيها، وغيرها من النقائض والمتضادات التي تفصل الفرق بين العدل والظلم. وبناءً على هذا، فإن عدل الإسلام هو الحق والصواب والحقيقة والأصل، ومن اطلع على ذلك لأبصر الحقيقة من عند الله العدل؛ لأنه أوجده ليقضي أمراً كان مفعولا.
إن بُعد الناس عن العدل وانحيازهم لتفكيرهم وأهوائهم إنما حصل بعد ابتعادهم عن الحق واختراعهم لأسس ومنظمات وتقديرات سياسية كالاشتراكية والشيوعية والليبرالية والرأسمالية والديموقراطية وغيرها التي جعلت للعدل في كل منها مفهوماً وتصوراً وسياقاً تعتد به وتنظر إليه وتشد الخطى نحوه، مما جعل لذلك تأثيراً على عدل الإسلام لا في أصله؛ فأصله باق إنما في واقعه وتطبيقه، فقد أدرج كثير من الناس قواعد وآراءً لا تمت للإسلام بصفتها ركائز اعتبرها البعض في عدل الإسلام، مما جعل الكثيرين يرون أن العدالة في الإسلام هشة قابلة للتغيير عن أصلها. ولكن عدل الدين لايتغير وإنما تضاف عليه أحكام لتناسب العصر والزمن وطبيعة البشر؛ لأن من طبيعة هذا الدين أنه هيأ لجميع الأزمان قديمها وحديثها متأخرها ومتقدمها. ولهذا دعت الحاجة إلى وضع بعض الأسس والقواعد والأصول تفصل العدل السياسي وتحده عن الإنجراف نحو تيارات الفساد والضلال، وقد أورد الكاتب عشرة منها للغزالي وأخرى مثلها للشيرازي، لربما تكون مختلفة عن بعضها قليلاً ولكنها تؤدي غرض الاستقامة السياسية والعدل والإنصاف في الحكم والولاية والإمامة، وأيضًا ربما يرتبط بعضها بالعدل الاجتماعي الذي يمكن أن يركز على أنه الإنصاف وإعطاء من يستحق الحق، ورد الظالم عن الظلم ومعاقبته على ظلمه. ومن هذا المنطلق، فإنَّ العدل الاجتماعي يمكن أن يصنف على أنه الإنصاف.
الإسلام دين شامل فلذلك جاء تفصيلا لجميع الأحكام من عدل واستقامة وحق وعبادة وتشريع وفقه وحديث وكلام إلخ… فلذلك إن أردنا تفصيل الأمر وجعل النقاط على الحروف لقلنا إنَّ الدين الإسلامي فصل العدل تفصيلا وأوضحه بصورة تناسب فهم عقول البشر القاصرة مما يهيئ للناس أن يتعرفوا على الحقيقة في أبسط معانيها وصورها، ولكن اختلاط المفاهيم السياسية بشمولية الإسلام أوجب علينا أن نستقي المعاني من أصولها وأساسها ونبحر فيها ونتمعن في أصولها ومعانيها؛ ليكون عدل الإسلام محافظاً على ثباته وتصوره لا تحده الحدود ولا تخالفه الوقائع، وإنما يكون أساسًا لدولنا ومجتمعاتنا وشعوبنا وأسرنا أيضًا. ولتحقيق ذلك، يجب أن نرسخ معنى العدل الحقيقي في اجتماعنا وسياستنا واقتصادنا وثقافتنا وعلمنا وعملنا؛ فنسعد بتحقيق العدل والإنصاف والمساواة لجميع أفراد المجتمع.
