أثر الاستشراق في دراسة الفلسفة العربية والحاجة لمقاربة علمية جديدة

فيصل الحضرمي

في مقاله الذي حمل عنوان "دراسة الفلسفة العربية في القرن العشرين: مقال في التأريخ للفلسفة العربية"، والذي في معظمه -عدا بعض المراجعات وحواشي المراجع- نصُّ محاضرةٍ كان قد ألقاها في المؤتمر السنوي بجامعة كامبريدج سنة 2000، يستعرض أستاذ اللغة العربية بجامعة ييل الأمريكية البروفسور ديمتري غوتاس، الأسبابَ التي أدت لاستصعاب المؤرخين الغربيين مهمة تأريخ الفلسفة العربية، وعزوفهم عنها، مبيناً أنَّ تلك الأسباب لا تمُت بصلة إلى طبيعة الفلسفة العربية، بل هي عائدة في المقام الأول إلى المؤرخين أنفسهم؛ حيث تحول قلة معرفتهم بالثقافة العربية وعدم تمكنهم من اللغة العربية -التي هي أداة تلك الثقافة وقناتها- بينهم وبين القدرة على فهم الفلسفة العربية فهماً سليماً يمهد لهم الطريق لوضع تأريخ لها. كما أسهمت الأفكار المغلوطة حول الفلسفة العربية -من قبيل أن الفلسفة لم تكن أكثر من ممارسة هامشية في الحضارة العربية الإسلامية، أو أنها لم تزد على أن تكون استنساخاً للفلسفة اليونانية، وهي أفكار كان قد تبناها المستشرقون في أطروحاتهم بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر- في رفد هذا العزوف عند المؤرخين.

ومنذ البداية، يُشير كاتب المقال إلى تقصُّده استخدام اصطلاح "الفلسفة العربية" عوض "الفلسفة الإسلامية". ونجد الكاتب هنا يخوض في السجال المستمر بين الباحثين العرب وغير العرب حول أي التسميتين أدق. واختلافهم في مسألة النعت والنسبة إلى اللغة والثقافة العربية أو إلى الإسلام لا يقتصر على مفردة الفلسفة وحدها، بل ينسحب أيضاً على مفردات أخرى تنتمي للسياق نفسه كالحضارة والفكر والعقل؛ فمن الباحثين من يلحق بهذه المفردات صفة العربية، ومنهم من ينعتها بالإسلامية، وآخرون في المنتصف يسمونها عربية إسلامية.

وبالعودة للمقال والأسباب التي حدت الكاتب لترجيح مصطلح "الفلسفة العربية"، وهي أسباب لا تخلو من وجاهة، يقول الكاتب: إنَّ اللغة العربية كانت لغة الحضارة الإسلامية، وعبرها كانت مكونات الثقافة تصل إلى كافة أفراد العالم الإسلامي بمختلف معتقداتهم الدينية، كما أنَّ الذين أسهموا في الفلسفة العربية لم يكونوا مسلمين فقط، بل كان منهم مسيحيون ويهود ووثنيون، إضافة للرازي الذي كان مُلحِداً. من هنا، يرى الكاتب أن وصف هؤلاء بأنهم فلاسفة مسلمون وفق المعنى الديني الذي يؤكد عليه المستشرق الفرنسي هنري كوربان ينطوي على "سماجة وظلم". ثم إن هؤلاء -بحسب الكاتب- عبَّروا عن آرائهم الفلسفية باللغة العربية التي صارت لغة فلسفية بفضل جهود المترجمين عن الفلسفة اليونانية، وحتى أولئك الذين كتبوا باللغة الفارسية لم يكن لهم بُد من استخدام المصطلحات الفلسفية التي ظلت عربية، كما تشف أساليبهم التعبيرية عن أنماط تفكير عربية في جوهرها. والأهم من هذا وذاك، من وجهة نظر ديمتري غوتاس الموفقة، أن نعت الفلسفة العربية بأنها إسلامية يترتب عليه "ربطها بالمعطى الديني والروحي للإسلام" مما يسوغ لمن أراد الحط من قيمتها عبر اتهامها بأنها محض تصوف أو علم كلام، بينما يؤكد الكاتب أن البعد الديني لم يكن له قط وجود في مباحث الفلسفة العربية.

والحال أن الاعتقاد بأنَّ الفلسفة العربية ليست إلا تصوفاً ما هو إلا تمظهر واحد من تمظهرات كثيرة للفهم الخاطئ وقلة التقدير، اللذين تعاني منهما الفلسفة العربية في أوساط الباحثين الغربيين والشرقيين على السواء. وبحسب الكاتب، فإن سوء الفهم هذا ناجم عن المقاربات الثلاث التي استبدت بدراسة الفلسفة العربية عبر تاريخها، وهي المقاربات الاستشراقية والإشراقية والسياسية. يعني الكاتب بالمقاربة الإشراقية مقاربة المستشرق هنري كوربان لفلسفة السهروردي الإشراقية، والتي هي في أصلها نسخة أفلاطونية للسينوية، إلا أنَّ كوربان عدها فلسفة صوفية، ثم عمَّم حكمه هذا على كامل الفلسفة العربية. في حين يعني الكاتب بالمقاربة السياسية، والتي يصفها بالمصيبة، تطبيق ليو ستراوس لمناهجه التأويلية على النصوص الفلسفية العربية، زاعماً أن الفلاسفة المسلمين اضطروا لعدم كتابة آرائهم بشكل صريح خوفاً من الملاحقة.

أما  المقاربة الاستشراقية، فتعد الأكثر تشعباً والأبعد أثراً بين المقاربات الثلاث. ويقصد بمصطلح "الاستشراق" ذلك التصور الكاريكاتوري الذي تشكل في الوعي الغربي عن العرب والمسلمين، والمستمد من كتابات المستشرقين منذ ظهور كتاب "ابن رشد والرشدية" للمستشرق أرنست رينان سنة 1852. وهو تصور قائم على تنميطات من قبيل أن أهل "المشرق" روحانيون، وشهوانيون، وغيبيون، وغير عقلانيين، ومولعون بالدين، إضافة إلى أنهم يعيشون في مجتمعات يسودها الاستبداد، وأن أنماط تفكيرهم غير قابلة للتغيير. وقد خلف الاستشراق -بحسب الكاتب- آثاراً جانبية لا تزال فاعلة في أوساط الباحثين الغربيين "رغم تظاهرهم بالتعددية الثقافية". ويورد الكاتب عدداً من هذه الآثار الجانبية للاستشراق، كالنظر إلى الفلسفة العربية على أنها فلسفة صوفية، واعتبار الفلسفة العربية مجرد وسيط بين الفلسفة اليونانية والفلسفة اللاتينية الوسيطة، وأن اشتغالها ينحصر في التوفيق بين الفلسفة والدين، وأنها، أخيراً، ماتت بموت ابن رشد.

نجد تمثيلاً على الأثر الأول عند المستشرق الدنماركي مهرن الذي تركزت أبحاثه حول ابن سينا؛ إذ يؤكد الكاتب أن ابن سينا كان قد ذكر في مقدمة كتاب "الشفا" أنه كتب كتاباً آخر أسماه "المشرقيون" -ضاع معظمه للأسف- ضمنه آراءه وآراء بقية فلاسفة المشرق في الفلسفة المشائية، وأن مهرن أساء فهم المقدمة، ملتجئاً إلى الخيال ليثبت فرضية وجود فلسفة "مشرقية" صوفية زعم أن ابن سينا كان رائدها الأول. أما الأثر الثاني القائل بكون الفلسفة العربية مجرد وسيط بين فلسفتين، فيمثله دي بور في كتابه الشهير "تاريخ الفلسفة في الإسلام". وبالنسبة للأثر الثالث، فإن كثيراً من المستشرقين الغربيين -بدءاً من أرنست رينان، وليس انتهاء بالدارسين المحدثين؛ مثل: ألان دوليبرا وموريس روبن هايو وأوليفر ليمان- اقتصروا عند دراسة الفلسفة العربية على دراسة موضوع العلاقة بين الدين والفلسفة، مفترضين خطأً أن الفلسفة العربية لم تشتغل إلا على هذه المسألة، ولم تضف جديداً فيما يخص المسائل الفلسفية الأخرى. أما فيما يتعلق بالأثر الرابع القائل بموت الفلسفة العربية بوفاة ابن رشد، فإن الكاتب يدلل على ذلك بالقول إنَّ ما نسبته تسعون بالمائة مما يُنشر عن الفلسفة العربية في العالم الغربي اليوم يقتصر على دراستها بدءاً بالكندي وانتهاءً بابن رشد؛ حيث يسود الاعتقاد الخاطئ بغياب أي اشتغال فلسفي عربي بعد ابن رشد، وهو ما ينفيه الكاتب بشدة، مُورِداً مثال الفيلسوف الموصلي أثير الدين الأبهري المتوفَّى سنة 1204، والذي ألف كتاباً مدرسيًّا في المنطق، ووضع عليه العلماء العرب والمسلمون عشرات الحواشي عبر قرون متواصلة.

غير أن المقولة الاستشراقية لم تكن حِكراً على من ذكرهم الكاتب في مقاله وسواهم من الباحثين الغربيين، بل نرى أثرها على كثير من الباحثين العرب والمسلمين الذين ربما كان على رأسهم أحمد أمين وعبدالرحمن بدوي ومحمد عابد الجابري، بحسب ما ذهب إليه جورج طرابيشي في كتابه "مصائر الفلسفة"، والذي يناقش أطروحات الباحثين العرب المتأثرة قليلاً أو كثيراً بالفكر الاستشراقي ذي المركزية الأوروبية.

ويختم الكاتب مقاله بإعلان أمله في أن يشهد القرن الحالي تحقيق وترجمة ودراسة مئات النصوص الفلسفية العربية المهمة؛ بهدف تمهيد الطريق لتأريخ الفلسفة العربية كما يليق بها.

أخبار ذات صلة