الاختلاف: نعمة أم نقمة؟

عاطفة  المسكرية

كُنت أقرأ مقالًا للدكتور محمد المنتار بعنوان "القرآن الكريم وحق الاختلاف"، فتذكرتُ بعض المقتطفات التي وردتْ في أحد كتب الدكتور لويس آر آيكن، الذي مرَّ عليَّ سابقا، وله مؤلفات في مجال الاختبار والتقييم النفسي.. على الرغم من اختلاف الخلفيات التي نشأ فيها د. المنتار ود. آر آيكن، فإن الأفكار التي وردت في كتاب الأخير تشبه الأفكار التي ذكرت في مقال "القرآن الكريم وحق الاختلاف" للدكتور محمد المنتار؛ حيث إنَّ القضية التي ناقشها كلا الطرفين تتعلق بالاختلاف، وواقع معايشته بين جنس البشر، وتحديدا في الأمور التي لم يكن للإنسان يد في اختيارها. يبتدئ المنتار مقاله بالحديث عن معنى الاختلاف لغويا والذي اختلف فيه المفسرون، إلا انهم أقروا جميعا أن إرادة الله في الاختلاف تكمن في أن يستمر الكون، ودعموا ذلك بالعديد من الآيات التي جاء بها القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ".

 

أما آر آيكن، فقد سر ذلك في فكرته التي جاء بها أثناء ذكره لأهمية تقبُّل التنوع البشري، وكونها مسألة مهمة في فهم وتقدير الأفراد من ثقافات أخرى. إضافة لذلك، ذكر بعض وجهات النظر التي يمكن الدفاع عنها، وهي أن التجانس والتهجين لهما قيمة بقاء أكبر من التجانس والاستنساخ، فينبغي تشجيعها بدلاً من أن نجعل منها أسبابا للاحتكاك الاجتماعي.

إذا تعمَّقنا كثيرا في مسألة الاستنساخ والتهجين، فقد يصبح الأمر أكثر تعقيدا؛ حيث يعكس ذلك تداخل مزيج من المفاهيم والنتائج من علم الأحياء وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، والعديد من العلوم الطبيعية والاجتماعية الأخرى، والفكرة المراد إيصالها هنا بسيطة يمكن استيعابها بمنأى عن التعقيدات. يذكر المنتار أيضا في مقاله وتحديدا عند استناده للأدلة المفسرة لطبيعة الاختلاف، وكونه واردا في كل ما خلق الله، طبيعة الاختلاف بين الليل والنهار التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في آياته؛ حيث قال تعالى: "وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً"، ويتضح المعنى المراد أو مبرر الاختلاف هنا. لا ريب أن الله سبحانه وتعالى أوجد الاختلاف، لكنه حرم استخدامه مبررا للتنازع، وقد يقودنا هذا لطرح التساؤلات حول ماهية الحكمة الإلهية المتمثلة في ذلك. يُعيدنا هذا الأمر لمسألة التخيير والتسيير ومسألة المكافأة والعذاب الأخروي. لا يخفى على أحد أن بعض الفئات أو بعض الجماعات تتقبل الاختلاف لكن البعض الآخر يتناحر بسبب هذه الاختلافات سواء كانت اجتماعية، أو عقائدية، أو مذهبية، أو عرقية…إلخ، وتطول القائمة.

يُمكن استخلاص الحكمة عبر المتناقضات؛ فعندما يخلق الله العصاة فإنه أراد بحكمته أن يستوعب بنو البشر أنَّ النفس قابلة للضلالة على الرغم من أنها فُطِرت على اتباع الحق، ولو خلقنا الله جميعا أسوياء طائعين فلن تصبح مسألة العقاب والمكافأة الإلهية ذات جدوى. إضافة إلى أنه لا حياة بين أقوام سارت كلها على نفس النهج؛ فاستمرارية الحياة تعتبر الاختلاف مطلبا. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق أحدا من البشر كاملا لا على سبيل النعم التي أنعمها عليه، ولا على سبيل توفير متطلبات الحياة الطبيعية للبشر. فمنذ الأزل، وقبل تكوُّن ما يعرف اليوم بالدول، دعت الحاجة لتعامل الجماعات مع بعضها البعض. كانت كل جماعة تجيد عمل شيء محدد، وفي الوقت ذاته ينقصها شيء ما من ضروريات الحياة. من هنا جاءت المنفعة لكلا الطرفين؛ حيث يستفيد كل طرف من الطرف الآخر حاجة لا يستطيع تلبيتها بنفسه. ومن هذا المنطلق نعيد النظر في تشكيلة خلق الإنسان بين الجماعات البشرية، ويتضح أنها لا تقوم ولا تستمر إلا على الاختلاف. فالجماعات البدائية التي تميزت بالقوة البدنية كانت تركز على توفير أدوات بناء السكن والاحتياجات الغذائية من الغابات. أما الجماعات التي كانت تتميز بمهارات الإبحار، فقد كانت تلبي الاحتياجات الغذائية عبر الصيد، ومن ثم تقوم عملية المقايضة على المنفعة المتبادلة بين الطرفين. ماذا لو جميعنا أصبحنا متشابهين! نتشابه في أذواقنا ومهاراتنا البدنية؛ وبالتالي في خياراتنا وتخطيطاتنا وأهدافنا…إلخ. فلن يصبح الأمر ذا معنى ولن تصبح الحياة ذات معنى، ولا يمكن استمراريتها. وتشير بعض السيناريوهات إلى أن ذلك قد يُحدث تركيز جماعات كبيرة على أمر محدد نتيجة التشابه في الأذواق والخيارات؛ وبالتالي يتقاتلون للوصول إليه، وهلمَّ جرا.

إنَّ الفطنة البشرية جبلت على استيعاب هذا الاختلاف بطريقة تخدم مصالح بني البشر، ومحاولة غض النظر عن هذه الحقيقة لن يجلب لهذه الأقوام إلا الهلاك والدمار. ومن زاوية أخرى إذا ما جئنا نتحدث بمنطق، فأين العدل في محاسبة الآخرين فيما لم يقوموا باختياره بالنسبة لمسألة الأعراق والألوان؟ وأين المنطق في إلزام الجماعات على اتباع ما نؤمن به نحن ونعتقد أنه الحق؟ فمثلما جبلت جماعة ما على أمر ما منذ النشأة نجد ذلك غالبا ما ينطبق على جماعات أخرى كذلك! وكحل لهذه الزوبعة لابد من استيعاب أن الاختلاف يصب في صالحهم حيث أنه يعطي تجديدا للحياة بسبب اختلاف منظورهم للأمور واختلاف الأذواق، ويحقق هذا الأمر اختلافا فكريا ناهيك عن أنه أمر واقع لا مفر منه. من منظور آخر، إن انقسامنا في جماعات هو واقع كذلك، لكن لا بد أن لا تعزلنا هذه الجماعات التي نشأنا فيها عن باقي الجماعات الأخرى؛ فالموازنة مطلوبة. وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن نلقي نظرة سريعة على واقعنا المعاش في المنطقة؛ حيث يقتل كل يوم ويصاب المئات لكونهم مختلفين، عرقيا، ودينيا، ومذهبيا! على الرغم من أن أوجه التشابه المشتركة بين الأطراف المتقاتلة أكبر وأهم، وقد تؤدي إلى تحقيق إنجازات على مستويات عليا إذا ما تم أخذها بعين الاعتبار. إنه لمن المؤسف الاستناد لنماذج غربية لتبيان النتائج الإيجابية لاستغلال الاختلافات كنقطة مثرية. إنَّ الاتحاد الأوروبي يعد أنموذجا مناسبا ليضرب به المثل في ذلك؛ حيث استطاعوا تحقيق عوائد سياسية، واقتصادية، واجتماعية لفترة زمنية طويلة بغض النظر عن استحداث مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الآن. مع ذلك، لا تزال طريقة الخروج ترقى لأن تحقق أقصى استفادة ممكنة للطرفين وبأقل الأضرار.. كل هذا يحدث بين دول شعوبها مختلفة اختلافا جذريا، لكنها وجدت نقطة الالتقاء وسعت لتطويرها واستغلالها.

أخبار ذات صلة