بين تسييس الدين وتديين السياسة

قيس الجهضمي

يتناول الكاتب ياسر قنصوه في مقالته "إشكالية التسييس والتديين- رؤية نقدية في الفكر العربي المعاصر" والمنشور بمجلة التفاهم وضع الدين والسياسة بصفتهما المحركين لكثير من أنشطة الحياة، وفي تداخلهما الكثير في أغلب القرارات والأنشطة الإنسانية. ويرى قنصوه أنه يتحتم علينا أن نحدد من له الأولوية في توجيه الآخر. وقد انطلقت النهضة العربية بعد صدمة الحداثة التي أصابت المفكرين العرب خلال الحملة الفرنسية على مصر وكانت هذه النهضة بمثابة المقاومة لقوة خارجية "الغرب"، وقامت هذه الحداثة بالسعي للانتقال من معرفة الكيف عبر التأمل إلى المعرفة التقنوية القائمة على التجريد والملاحظة من خلال العقل، ويرى الكاتب أن الغرب تركزت قوته في نتاجات الحداثة وليس الحداثة نفسها، لذا كتب مجموعة من المفكرين العرب عن حال القوة لدى الغرب لا عن حال الفكر والمعرفة، ومنذ وقت قصف الطائرات الإسرائيلية عام 1967م بدأ العرب باتخاذ الغرب خصما تاريخيا وانقطعوا عنه معرفيا، فلجأوا للماضي والتراث للبحث عن حل لهذه الإشكالية، فكانت أطروحتا تسييس الدين أو تديين السياسة هما أطروحتا الحل والإشكالية للإنسان العربي.

فذهب سيد قطب إلى أنّ الشفاء من هذه الصدمة تكون بعزل المفاهيم المستحدثة في المجتمع الإسلامي والتي تحاول ترسيخ أفكار الجاهلية، وعلى المسلمين العودة إلى النهج الرباني في معالجة هذه القضية بحيث تكون النتيجة هو تطبيق الشريعة بدل الشرعية السياسية، لأنّ الشريعة تلزم المسلم على اتباعها قبل الشرعية السياسية، فهي تستمد شرعيتها من الحاكمية لله، ويرى قطب بأنّ هذه الحضارة لم تكن يوما "عربية قومية" وإنما كانت "إسلامية عقدية"، فكانت أيديولوجيته المتمثلة في رؤية الحاكمية لله تفرق بين المسلمين وصارت معيارا لإيمان جماعة ما أو انعدامه، كما تصل للتشكيك في الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات، فكان لحضور رؤية الحاكمية لله أيضا بُعد آخر غير التصدي للحداثه فقط بل يمتد للتصدي للنزعة القومية العربية، ويرى قنصوه أنّ قطب يتجاهل الوجود الحضاري للغرب في العصر الحديث ويضعه في إطار قيمي لمحاكمته، فقطب يرفض إجراء مقارنة بين النظام الإسلامي المستمد من النهج الرباني وبين كل الأنظمة الأخرى، ويرى أن الحل هنا بالعودة للإسلام الأول الذي قامت به الحضارة الإسلامية، وأن الصلاح بالعودة للماضي وحده غاضا طرفه عن الحاضر والمستقبل، وأنه يمكن تأسيس المعرفة المعاصرة لهذه الحضارة بقيامها على القياس الفقهي.

ومن السلطات التي تمارسها الأيديولوجيا علينا تحديد نمط التفكير في المعتقدات والأفكار الجاهزة، فهي في الدين تحاول إخراجه من مضمونه الروحي، وإظهار الأفكار والمعتقدات بصبغة من التوجه السياسي، وبهذه الطريقة تصبح الأيديولوجيا السياسية أيديولوجيا دينية، وبالتالي نستطيع استخدام هذه الأيديولوجيا في تحريض العاطفة والانفعالات في اتجاه معين، ومثلما سعى قطب إلى تديين السياسة عن طريق العودة إلى مناهج الإسلام الأول وترك المفاهيم والأفكار المستحدثة ينطلق حسن حنفي إلى تسييس الدين عن طريق تثويره من خلال أيديولوجيا دينية ثورية قائمة على محاكاة للاهوتيي التحرير للإنجيل كما يذكر الكاتب، فهو يتخذ من التمييز بين الدين والتراث المدخل لمشروعه النهضوي، بحيث يحاول الهروب من الاتهامات بالتشكيك في العقيدة باستخدامه التراث مما يضمن لأيديولوجيته الاستمرار، وهو يسعى من خلال التراث بهذه الطريقة لإضافة مسحة اجتماعية وسياسية على الأفكار الدينية بحجة أن الدين أصبح عِلما يمكن دراسته، وفي جانب آخر يقرر أن الدين لا يقبل إلا مرجعيته ذاتها وهو مثالي لا يمكن إخضاعه للدراسة، فمن هذا التناقض تتجلى الصورة المصطنعة للأيديولوجيا المؤمنة، حيث يصبح التراث حيا متى تم استدعاؤه في الحاضر، بمعنى أن مهمة القائم على التراث تحويله من أساسه المادي إلى أساسه الفكري والشعوري، ويذهب حنفي إلى رؤية التراث من خلال أيديولوجيته بأنّه مجرد أداة فاعلة للتعبير عن الصراع القائم بين الحاكم والمحكومين وأن المعركة كانت قائمة بين أيديولوجيتين "التحرير" و"الرجعية".

إنّ التشريعات الإسلامية هي عبارة عن قواعد قام بوضعها العقل بتوجيه من القرآن الكريم الذي أعطاه المبادئ العامة لصياغة هذه القواعد، فـ"إن أهم خصائص قوانين القرآن هي مرونة أحكامها" كما يقول طه حسين، ويعبر الكاتب عن التشريع الإسلامي بأنه هو الخط الواصل بين مبادئ التشريع الديني وبين الشرعية أو المشروعية في الجانب الأخلاقي، لكن الإشكالية تكمن في هذه الشرعية هل يمكن أن يتم توجيهها بالتوجهات الدينية أو أنها تكون فقط خاضعة للممارسة الديموقراطية؟، فيرى علي بن الحاج على لسان حال جبهة الإنقاذ الجزائرية: "من بين الأسباب التي تجعلنا نرفض المذهب الديموقراطي أن الديموقراطية تقوم على رأي الأغلبية، فمعنى ذلك أن رأي الأغلبية هو المعيار لمعرفة ما هو عادل ومعقول" و"هذا الحق لا يرجع إلى الحاكم أو الشعب، بل يرجع إلى علمائه الذين يعرفون قوانين الاجتهاد"، لذا يجب التفريق بأن الشريعة الإسلامية في المجال السياسي ليست هي السياسة الشرعية القائمة على الشرعية الدستورية والشرعية القانونية، فالشريعة -بحسب رأي الكاتب- "هي جملة من المبادئ الخاصة بالسلوك والمعاملات التي يشرحها الفقه ويختلف حولها الفقهاء، والشرعية هي "التوافق أكثر من كونها اتفاقا أو اختلافا إنها السبيل إلى تحقيق قدر ممكن من العدالة بمفاهيمها السياسية والاجتماعية والاقتصاديه والقضائيه" ، فالشرعية هي أداة إنسانية في يد الشعب لتحقيق أهدافهم في الصالح العالم، وكذا القرآن فهو دستور سلوك لا دستور سياسية.

 ومن وجهة نظري إن هذه الإشكالية قائمة على الوعي المعرفي للمجتمع ومدى انفتاحه لآفاق الآخر في ميادين الحداثة والعولمة، فالدين لا يتعارض مع الصالح العام لقرارات مجموعة ما طالما تندرج هذه القرارات تحت مبادئ وقيم إنسانية دينية تستفيد من الآخر وتحترمه، لإن هذا الأمر حتمي للوصول للوعي الكوني الذي يأخذهم إلى مراحل من التقدم والحضارة دون المساس بجوهر الدين وقيمه، فالسياسة قائمة على الوعي الإنساني وسلوكه بما يخدم جماعة ما ويجلب لها الخير، بينما الدين يسعى للارتفاع بهذا السلوك والوعي الإنساني لقيم عليا من الرقي والتحضر.

أخبار ذات صلة