أمجد سعيد
في المقال المُعنون بالتَّعارف في الإسلام الغاية والمنهج، قدَّم الأستاذ مُحمد السماك المنهج الواضح والجلي في التشريع الإسلامي من حيث المصدر ألا وهو تشريع القرآن الكريم، واضعاً إياه مصدرا أولياً للتشريع، ومنبعاً مُهماً لكل الرسالات والإشارات الدالة على الوحدة والمساواة بين الخلق. وفي بداية الأمر يبدأ بالاستدالال بآيات قرآنية من القرآن الكريم ليُبين أنَّ هنالك مصدرًا واضحًا وربانياً في مسألة الخلق المتساوي رغم اختلاف الأعراق والأجناس، ولكن يدعو أيضًا إلى تقبل هذا الاختلاف والتمسك بمبدأ المساواة، فجميع الناس دون استثناء خلقوا من نفس واحدة. ومن هذا المنطلق نجد أنَّ رسالة الإسلام وعالمية الدعوة التي أتى بها، تستمدان قوتهما ودعائم أسسهما من مبدأ المساواة التامة بين النَّاس، ويجب ألا نغفل عن التكريم الذي وضعه الله في الإنسان والذي استأمنه على خلافة وإعمار الأرض. غير أنَّ الحكمة الإلهية شاءت أن يكون الناس رغم وحدانية الخلق ووحدة الخالق، خلقاً مختلفين مصنفين ومقسمين إلى أمم وشعوب؛ فالوحدة الإنسانية هنا تقوم على الاختلاف والتنوع وليس على التطابق والتماثل؛ لأن الاختلاف آية من آيات الله ومظهر واضح من مظاهر الإبداع في الخلق، ومن ثم فإنَّ الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لتراتبية دونية، فهو اختلاف في إطار الأسرة الإنسانية الواحدة، يحتم على الفرد احترام الآخر كما هو، وعلى الصورة التي خلقه الله عليها.
إذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولسانًا، يشكل قاعدة ثابتة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فإنَّ احترامه كما هو عقيدة وإيمانًا إقرار بمبدأ تعددية الشرائع السماوية، واحترام لمبدأ حرية الاختيار، والتزام بقواعد عدم الإكراه في الدين، ومعنى ذلك كله، أنه مع اختلاف الألسن والألوان، كان من رحمة الخالق اختلاف الشرائع والمناهج، فالاختلاف الثقافي والعرقي والديني والمذهبي باق حتى النهاية، والتعامل مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرف عليه وتقبله واحترامه والتعايش معه كسنة دائمة من سنن الحياة والكون، وهذا ما يحيلنا إلى غائية التعارف بين الأمم والشعوب، وهو ما لا يتناقض مع الوحدة الإنسانية؛ فالعلاقة التكاملية بين الوحدة والاختلاف تبرز من خلال بعض المبادئ السامية التي أتى بها القرآن الكريم، ومن تلك المبادئ مبدأ التداول، إذ لو كان الناس كلهم شعبًا واحداً أو ملة واحدة أو على عقيدة واحدة وفكر واحد لما كانت هناك أية حاجة للتداول، ولأنهم مختلفون، لأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلفين، كان لابد من التداول. والتداول يعني تواصل الإنسانية واستمرارها. وهناك مبدأ آخر وهو مبدأ التدافع، وهو بعيد كل البعد عن فكرة التحارب والتصادم، بل هو تنافس ارتقائي ومطور حقيقي للمجتمعات الإنسانية المُختلفة، فمن دون الاحتكاك الفكري والتلاقح الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس المختلفين والمتنوعي الثقافات والخلفيات، يفقد الذهن تعطشه للمعرفة والتي هي عود الثقاب الذي يلهبه. إن الاختلاف بين الناس وما يشكله الاختلاف من تدافع هو أحد أهم مستلزمات عدم فساد الأرض. ومن هنا فإنَّ أحد المبادئ ذات الأهمية القصوى هو مبدأ التغاير، فالتغاير والاختلاف هما القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الإنسانية منذ البدء وحتى النهاية. ولذلك أرسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف والتغاير، والقاعدتان معًا تشكلان الأساس الذي تقوم عليه الأخوة الإنسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها.
لقد أمر الإسلام بالتعارف بين الجماعات الإنسانية، لا بالتسامح، وهذا ما نجح فيه بحق الفيلسوف الألماني نيتشه عندما قال بأنَّ التسامح إهانة للآخر، لما فيه من فوقية المسامح على المسموح. إن علاقة الإسلام بالرسالات السماوية التوحيدية ليست علاقة تسامحية ولكنها علاقة إيمان؛ ذلك أنَّ الإيمان لا يكتمل إلا بالإيمان بكل الأنبياء والرسل وبكل الرسالات التي أوحى بها الله، وشتان مابين العلاقة القائمة على الإيمان، وتلك القائمة على التسامح، فالأولى هي علاقة ندية وتنافسية إنما تقوم على أساس الاعتراف بالحق واحترام الاختلاف والآخر، أما الثانية فهي علاقة قائمة على أساس فوقي متعال، تستند على إنكار الحق والاستعلاء. إنَّ من شأن التعصب للدين أو المذهب أو الجماعة أن يقيم جزراً من التنوع متباعدة وجاهلة بالآخر، وتكون متشككة فيه ومستنفرة دائماً لمواجهته. وهذا تنوع خارج إطار الوحدة؛ بل رافض لها. أما التعارف فإنِّه على العكس من ذلك يُقيم وحدة في إطار متنوع، تعرف الآخر وتعترف به، وتبادله الاحترام والثقة والمحبة، وهذه وحدة في إطار التنوع. إن التعارف القائم على المعرفة، هو إحدى هبات الله للإنسان، والأساس الذي تقوم عليه أخوة إنسانية غنية بالاختلاف ومحترمة له، تجعل منه قاعدة للائتلاف والتوافق ليس للخلاف والتنابذ.
التعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة. ولكن لا أساس لأي تعارف من دون معرفة، ذلك لأن التعارف يقوم أساساً على المعرفة، ويفترض في الآخر أن يكون مختلفاً حتى نتعرف عليه. ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى تتم عملية تعارف تبادلية. ومن هنا فإنَّ الدعوة القرآنية للناس ليتعارفوا هي في حد ذاتها دعوة لهم للتعرف على ما بينهم من اختلافات وللاعتراف بهذه الاختلافات، ولإدراك حتمية استمرارها، ولبناء مجتمع إنساني واحد متناغم على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم.
