الذهب الأسود

91FzEllN83L.jpg

للوتشانو فاسابوللو

عزالدين عناية

ساد على مدى عقود تصوّرٌ ضبابيٌّ وأحيانا مضلِّل في أوساط الباحثين السياسيين والإستراتيجيين الغربيين عن منطقة الخليج العربي؛ كون المنطقة قائمة على أساس الريع النفطي لا غير، إلى حِين غَدَت تلك الرؤية بمثابة الأسطورة السياسية؛ كون كتلة الدول المتكونة من العربية السعودية وسلطنة عُمان ودولة الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين، هي دول تطفو فوق بحر من النفط، وعلى صلة وثيقة في السياسة الخارجية بالولايات المتحدة. وفي الواقع، اختزنت تلك الرؤية جُملة من المبالغات التي تتنافى مع الحقائق على أرض الواقع، واحتاجت عقودا للتصحيح، ولتنقشع عن المخيال السياسي الغربي.. يُعيد كتاب "الذهب الأسود" الذي نعرضه للقارئ تشكيلَ "المقاربة السياسية للخليج العربي"، ضمن منظور واقعي ورؤية محايدة، ويحاول الخروج من الأسْطورة التي سادت في التعاطي مع السياسات الخليجية إلى نوع من الرصانة في التحليل والفهم. وهو مؤلَّف من إنجاز ثلّة من الباحثين الإيطاليين المهتمّين بالشأن السياسي الدولي عامة والشرق الأوسط خاصة.

وفي دراسة تمهيدية مطوَّلة بعنوان: "الخليج في غمار التحولات الدولية" بقلم مُعدّ الكتاب، لوتشانو فاسابوللو أستاذ مناهج الأنظمة الاقتصادية وقضايا التنمية في جامعة روما، أبرزَ أهمّ التحولات الجيوستراتيجية التي جعلت من دول الخليج قوةً معتبرةً، ويُحسَب لها حساب في الشرق الأوسط. تَلتْها دراسة أخرى معمَّقة بعنوان: "التحولات الرأسمالية في بلدان الخليج"، حاول فيها الباحث جوسيبي مارانو المهتمّ بالتنمية والتعاون الدولي، تسليطَ الضوء على ظاهرة "المركزية النفطية" والتحولات الرأسمالية لبلدان الخليج، مُبرزا صاحبها تنوع السياسات في المنطقة رغم ما قد يبدو ظاهرا من تماثل بينها، جراء ما تقوم عليه تلك البلدان من عناصر متشابهة، وما يجمع بينها من روابط جامعة ميّزت المنطقة طيلة عهود. أعقبتها دراسة أخرى بعنوان: "النفوذ الخليجي على نطاق واسع وعلى نطاق ضيّق" لِلوكا أَلْتاري، مبرزا فيها خروج النفوذ الخليجي من الإطار الضيق إلى الإطار الواسع صوب الساحة الدولية؛ لتشهد تلك الدول -بموجب ذلك- دورًا مؤثرًا في الساحة الدولية؛ سواء ما تعلق منه بالشرق الأوسط، أو ما له صلة ببعض الخيارات الإستراتيجية الشاملة، وهي تحوُّلات ما كانت عفوية حسب الباحث، بل جاءت جراء سعي إرادي لتلك الدول ليكون لها حضور فاعل على مستوى دولي.

وفي دراسة أخيرة بعنوان "أركيولوجيا الاستعمار" لِفيفيانا فاسابوللو، تسلكُ فيها الدارسة مسارا مغايرا في النظر إلى الجزيرة العربية، مبرزة أن المنطقة جنب كونها خزانا لثروة نفطية، تقف على ثروة أثرية أيضا ما زالت في طور الكشف. فلاشك أن المنظورَ السائد إلى اليوم في الدراسات التاريخية، هو منظور توراتي عامة ضمن المقاييس الغربية. وأن إزاحة الستار عن المخزون الأثري في الجزيرة من شأنه أن يصحّح عديد الأحكام المتداولة، وأن يعيد رسم الخرائط الفكرية والتاريخية لمنطقة الشرق الأوسط برمتها.

وبالعودة للدراسة الافتتاحية في الكتاب لِلُوتشانو فاسابوللو، يتبيّن القارئ أن تكتّل دول الخليج ما عاد تكتّلا نفطيا فحسب، بل قطبًا للطاقة المتجدّدة، والبحث العلمي، تدعمه مساع اقتصادية جادّة لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة وتفعيلها، والتي ينضوي بعضها ضمن ما يُعرف بـ"الطاقة الخضراء"، وهي مشاريع واعدة بالفعل. ناهيك عن تحول المنطقة إلى منصّة حاضنة للألعاب الرياضية الدولية، وإلى حقل للمنجزات الهندسية، وللجذب السياحي بكافة أشكاله الديني والمدني. إضافة إلى ذلك، اقتحمت دولُ الخليج قطاعات مهمّةً في السوق العالمية، ممّا خوّل لها حضورا معتبَرا. انعكست هذه الأنشطة في السياسة الخارجية الخليجية، من سياسة منكفئة على ذاتها إلى سياسة حاضرة في المحافل الدولية، وربما من سياسة محايدة أحيانا إلى سياسة فاعلة لها شروطها وإملاءاتها كما يقول لُوتشانو فاسابوللو.

من جانبه، يتطرّق جوسيبي مارانو إلى "التحولات الرأسمالية في بلدان الخليج العربي"، ويرصد الكاتب تحوّلا راديكاليا في الإستراتيجيات السياسية الخارجية في تلك البلدان، خلال العقد الأخير. فقد شهدت الأوضاع تبدّلا مجاراةً لمشهد عالمي يستشعر عمق تأثير الأزمات الهيكلية. يكفي النظر إلى الإمارات العربية المتحدة التي شهدت تحولا في الاستثمار العقاري من نسبة مئوية تعادل 81 بالمئة خلال العام 2008 إلى نسبة 9 بالمئة خلال السنة الموالية.

ناهيك عن تحولات ديموغرافية جوهرية، وأخرى طارئة تواجه بلدان الخليج عامة؛ ففي دولة مثل المملكة العربية السعودية مرّ عدد سكانها، سنة 1953، من ثلاثة ملايين إلى ثمانية وعشرين مليون نسمة في الوقت الحالي. بات الألوف من خرّيجي الجامعات في انتظار الدمج في الدورة المجتمعية، فضلا عن احتياجات سوق العمل التي تقتضي تنوّعا في التخصصات ودربة عالية في التكوين. كما برزت أجيال شبابية جديدة لا تعيش هواجس الآباء والأجداد، وهي أجيال واعدة لِما يميزها من مستويات تعليمية راقية تتطلب رؤية جديدة خصوصا مع العنصر الأنثوي في تلك البلدان. هذه التحديات ليست محصورة بدولة معيّنة من دول المنطقة، وإنما تنطبق على سائر الدول. ولكن كما يشير الباحث مارانو، فضلا عن التحولات الديموغرافية الأصلية، تحضر تحولات ناتجة جراء العمالة الوافدة، وهي في الحقيقة مؤثرة وترهق كافة بلدان الخليج على حد سواء، ينبغي الاستعداد للتحكم بآثارها عبر الوعي الصائب بالظاهرة والتحكم العلمي بآثارها. يقِيم الكاتب مقارنةً خاطفة في الشأن بين أوروبا وبلدان الخليج بشأن التعاطي مع ظاهرة الهجرة، مبرزا في الوقت الذي تتكثّف فيه داخل بلدان أوروبا الغربية الانشغالات الأكاديمية، المعرفية والبحثية، بأبعاد الهجرة السياسية والدينية والمجتمعية فضلا عن دورها الاقتصادي، من خلال إقامة عديد المراكز وتأهيل الباحثين المختصين في الشأن، لا تزال بلدان الخليج العربي دون التنبه بما يكفي إلى ذلك؛ حيث لا نسمع بمختصين خليجيين بشؤون الهجرة، أو بمعالجات رصينة للظاهرة بكافة أبعادها وآثارها.

من جانب آخر، بيّنَ مارانو أن "مجلس التعاون الخليجي" المتأسِّس خلال العام 1981 قد شكّل بحقّ حاضنة مهمّة لتلك البلدان ومنصة إستراتيجية بالغة التأثير، لكن هذه المنصة قد اعتراها نوعٌ من الارتباك في السنوات الأخيرة بسبب الخيارات المنفردة لبعض الدول في المسائل الاستراتيجية. يشير الكاتب إلى الدور العماني لاجتياز هذا الارتباك الطارئ، من خلال محاولات رأب الصدع داخل البيت الخليجي ومع بلدان الجوار على حد سواء.

وفي دراسة ضمن الكتاب بعنوان: "النفوذ الخليجي على نطاق قريب وعلى نطاق بعيد" لِلوكا أَلْتاري، وِفْق ما يطلق عليه "التحول داخل المتابعة"، أن دول الخليج التي تميّزت بعلاقات وطيدة مع قوى غربية، لم تغيّر سياساتها بشكل جذري مع تلك الدول، ومع ذلك وفّقت في إحداث نقلة في طبيعة وشكل علاقاتها معها. يضع لوكا أَلْتاري التحولات السياسية الاقتصادية التي لحقت بمنطقة الخليج والدول المجاورة، على مدى العقود الأربعة الأخيرة، ضمن إطار عام، مبرزا أن مجتمعات الخليج رغم التشابه البنيوي مع غيرها من المجتمعات المجاورة وفّقت في تفادي العديد من الهزات التي عجزت دول أخرى عن الصمود أمامها. ففي قراءته للثورة الإيرانية (1979) يعتبر الحدثَ نتاجا لتحولات مجتمعية عميقة من مجتمع شبه إقطاعي إلى مجتمع يتطلّع إلى التحديث والتطور. بلدان الخليج الشبيهة بنيويا، وفق منظور الكاتب، استطاعت أن تحقّق هذا التحوّل بأقلّ التكاليف وبشيء من السلاسة وبمأمن من الهزات الكبرى، وهو ما راكم في هذه الدول آثار الاستقرار السياسي، الذي بات يتترجَم في حضور فاعل على المستوى الإقليمي والدولي. إذ لم تدخل بلدان الخليج في مغامرات إيديولوجية، أو في تحالفات عسكرية بعيدة عن مصالح المنطقة؛ مما ضمن لها استقرارا ودورا معتبريْن وحوّلها إلى منطقة جاذبة بدلًا من أن تكون منطقة طاردة بفعل قساوة الطبيعة وشحّ الموارد غير النفطية والغازية. فمما لا شك فيه أن بلدان الخليج قد عانت، عبر التاريخ الحديث، من التدخلات الأجنبية ومن القوى الطامعة ومن أشكال الانتداب، إلا أن هذه الدول استطاعت رغم ما مسّ حرية قرارها أن تحافظ على هويتها الوطنية والقومية إلى أن حقّقت سيادتها التامة. ويبرز لوكا أَلْتاري قائلا: لم تغامر بلدان الخليج بخوض تحولات جذرية على الطراز الثوري الذي شهدته بلدان عربية أخرى، واستطاعت أن تسلك تحولات هادئة مكّنتها من تحقيق إنجازات معتبَرة، ما كان لها أن تبلغها لولا النظرة البعيدة والرصينة. لا شك أن العامل الأجنبي الغربي هو عاملٌ حاسم في تاريخ دول الخليج، لكن هذا العنصر برغم وطأته في المنطقة وقوة حضوره، لم يتحول إلى عنصر معرقل أو كابح لسير المنطقة نحو بلوغ التنمية وتحقيق السيادة التامة. إذ غالبا ما تحولت الصّلة الرابطة بين المستعمِر والمستعمَر في دول أخرى إلى علاقة إشكالية، تخيم بظلالها على المسار التنموي وترهق النهوض المجتمعي. كانت دول الخليج من هذا الجانب واعية، كما يقول الباحث، بالتحرك وفق مستلزمات التوازنات الدولية، واجتياز هذا الاختبار السياسي بأقل التكاليف، وهو ما شكّل عنصر دعم لهذا البلدان.

وضمن الدراسة الأخيرة الواردة في الكتاب بعنوان: "أركيولوجيا الاستعمار" لِفيفيانا فاسابوللو، تبرِز الباحثة أن الأركيولوجيا الشرقية بشكل عامٍ لم تنشأ كعلم متفرّع له أصوله ومجاله، بل كمبحث يهدف لإثبات صواب الكتب المقدسة (العهد القديم والعهد الجديد)، وبهدف سياسي مرتبط بالتنافس بين فرنسا وأنجلترا على المنطقة. من هذا المأتى تُطلِق الباحثة "أركيولوجيا الاستعمار" على مبحثها. فقد ساد على مدى عهود في الذهنية الغربية أن المنطقة العربية ليست مجالا للدراسة والبحث والاكتشاف، بل هي مجال للاستغلال فحسب. هذه المعادلة حكمت نظرة مجمل الدارسين الغربين على مدى عقود طويلة.

فلا ريب أن الاهتمام بآثار الأرض المقدسة (فلسطين) وما جاورها، قد عرف انتشارا في الغرب بموجب الارتباط بالتوراة وبالمسيحيين، وازدادت العناية بالأبحاث الأثريّة في وادي الرافدين ومصر كلما كانت على صلة بوقائع العهدين القديم والجديد. وعندما بدأت أنشطة البحث الأثريّ في المشرق تشهد أولى خطواتها، في منتصف القرن التاسع عشر الميلاديّ، تشكّلت في كثير من البلدان هيئات انصرفت إلى تعزيز المعارف التاريخيّة والأثريّة بأرض فلسطين، وفي مجمل الحالات بمقرات عاملة هناك. كانت أولى المؤسسات بريطانية "صندوق استكشاف فلسطين" الذي تأسس خلال العام 1865، متبوعا بمؤسسة ألمانية "جمعية فلسطين الألمانية" (1878)، ثم "المدرسة التّطبيقية للدّراسات الكتابية" التابعة للآباء الدومينيكان الفرنسيين (1890م)، وفي مرحلة أخيرة "المدارس الأمريكية للبحث الشرقي" (1900م)، التي حازت على مكتب لها في القدس أيضا. وفي روما أنشئ "المعهد الحبري لدراسة الكتاب المقدس" خلال العام 1909م، بهدف تطوير البحث الأثري، بمكتب في مدينة القدس أيضا.

ولربّما من المفيد هنا التطرّق إلى قطبيْ علم الآثار الحضري في الشرق القديم، في مستهل انطلاق الأبحاث بين منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: نجد بابل ونينوى من ناحية، ومن ناحية ثانية مدينة القدس. لقد حملت بابل ونينوى وِزر المدينة الملعونة، فكانت كلتاهما موطنًا لإمبراطورية الشر، في حين كانت أورشليم/القدس المدينة المقدسة، مدينة شعب الله المختار. تنحو المؤلفة باللائمة على المؤرخين المهتمين بتاريخ بلاد المشرق، كيف أن المنطقة التي صنعت التوراة باتت ضحية رؤى التوراة التاريخية، المشحونة بالأسطورة والمركزية، خالصة إلى أن تصحيح تاريخ المنطقة لن يتيسّر سوى باكتشاف التاريخ السابق للتوراة، ومنطقة الجزيرة العربية، على حد تعبيرها، أحد أعمدته القوية.

ما يُلحَظ عبر فصول الكتاب اعتماد الباحثين في أبحاثهم التقصي والتوثيق في ما أوردوه من توصيف، أو متابعات، أو فيما خلصوا إليه من نتائج، وهو ما يجعل الكتاب مصدرا مهمّا لتصحيح عديد الرؤى عن بلدان لطالما عانت من الأحكام المغرضة.

--------------------------

- الكتاب: "الذهب الأسود.. كيف تؤثّر السعودية ودول الخليج العربي في الغرب".

- الإعداد: لوتشانو فاسابوللو.

- الناشر: بوردو (روما)، باللغة الإيطالية، 2018م.

- عدد الصفحات: 230 صفحة.

أخبار ذات صلة