النظام العالمي الحديث دينامية التحولات

T285451.jpg

يوسف شحادة

يُعالج كتاب "النظام العالمي الحديث.. دينامية التحولات" مجموعة مُهمَّة من القضايا المنضوية تحت لواء مسار التحولات الكبيرة، التي يشهدها العالم الحديث؛ من خلال سلسلة من التدابير تسيِّر حركته، وتشكل منظومة، أو نظاما مدروسا، لكنه مُعقَّد في كثير من جوانبه. وما يُثير الانتباه أنَّ مباحث الكتاب تدور حول نقطة جامعة، مآلها الشأن الأمني الذي يغدو شأنا عالميا شاملا، وإنْ كانت مُنطلقاته أوروبية الملامح والسمات. وإن كان الأمن الأوروبي مرتبطا أوثق ارتباط بأمن الدول الواقعة في جوار القارة العجوز، وعلى تماس بمجال تأثيراتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فقد أضحت البلدان الإسلامية والعربية في مُقدِّمة تلك الدول التي تُوْضَع تحت مِجْهَر الرؤية الأمنية الحذرة. ومن الجلي، والمفهوم، أن طروحات هذا الكتاب تستعرض صورة النظام العالمي الحديث المتكئ على هذه الجزئية الأمنية المهمة، والمتتبع، لدينامية التحولات في المجتمعات غير المستقرة، وفي العلاقات الدولية المتغيرة باضطراد.

يتألف الكتاب من أربعة أقسام تندرج تحت العناوين التالية: "آليات الأمن العالمي"، و"دور الاتحاد الأوروبي في بناء النظام العالمي الحديث"، و"العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف في منظور النظام العالمي الحديث"، و"التحديات أمام النظام العالمي الحديث".. يضم القسم الأول ثلاثة فصول؛ أولها بقلم بافيل كافاليرسكي ويغلب عليه الطابع النظري، ويتناول فيه الكاتب شروطَ وظروف التحكم بأمن الدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى عبر الاستناد للسيبرانية الاجتماعية، التي تعني علم القيادة والتحكم في الأحياء والآلات، ودراسة آليات التواصل في كل منهما. ومن خلال معالجة علمية تحليلية يصل إلى استنتاجات مثيرة للاهتمام؛ منها ما يتصل بمناحي العلوم المتنوعة المرتبطة بعمليات إنتاج المعلومات.

 

وفي الفصل الثاني، يتناول داميان جيرجينسكي مسألة تدمير المسار المعلوماتي، في ظل السيطرة العالمية، واضعا ما يسميه "الصراع الهجين" في أوكرانيا نموذجا، ومتخذا من علم التحكم نقطة انطلاق لدراسته. وقد اعتمد في مبحثه تحليلا نبيها، يستقصي مناهج وسائل التفاعل المعلوماتي، مبينا بعض مجالاتها بمحددات تعريفية تستدعي التفكير في إدراك معانيها بشكل دقيق. ومن ذلك وقوفه على بعض المفاهيم التي تدخل في باب التفاعل السيبراني؛ مثل: تحطيم المستقبلات، وخلخلة عمليات الترابط والتوازن وإرباكها، واختلال نظام تدفق المعلومات بين عناصر المنظومة الواحدة. وفي الفصل الثالث، يعالج دافيد ديمكوفسكي طابع التحطيم المعلوماتي لمسار الطاقة في نظام السيطرة؛ أي: التحكم والتوجيه، العالمي. وبالاستناد لأمثلة تاريخية يشير إلى الطريقة التي يمكن أن تؤثر بشكل مدمر في نظام مساعدة المعلومات ضمن اقتصاد الدولة. وقد حدَّد ستة مناهج للتأثير التفاعلي؛ منها: تصغير القوة الحرة كنتيجة لتضخيم القوة التأمينية الضامنة، وخلخلة تدفق الطاقة في مسارها المرسوم. لا بد من القول هنا: إن المباحث الثلاثة الواردة في هذا القسم تفرض نوعا من التلكؤ في قراءة محتواها، يتأتى من صعوبة إدراك مصطلحات شائكة، ومفاهيم معقدة عديدة، ظلت عسيرة على الفهم، رغم أن المؤلفين تناولوها بالشرح والتحليل. ومن الملاحظ أن هذه الفصول الثلاثة قد أشبعت بالرسوم البيانية والمعادلات الرياضية، التي سعى الباحثون من خلالها لإيضاح طروحاتهم بصورة علمية دلالية.

ويحتوي القسم الثاني على ثلاثة فصول؛ يضمُّ أولها مبحثا بقلم بوجينا كاليش، تعرض فيه أفكارها التي تخص إستراتيجية الأمن الأوروربية، سابرة حدودها، ومستقصية مدى مجاراتها الوضع الراهن. ومن خلال العنوان تطرح سؤالا وجيها يدور حول قدرة استراجية الأمن، تلك التي أقرها المجلس الأوروبي في ديسمبر من عام 2003 للوقوف على الأخطار التي تهدد الأمن الأوروبي. ويكون جوابها، المبني على تحليل الوثائق الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، أن تلك الإستراتيجية لن تصمد أمام المنعطفات الحادة التي تمر بها بلدان القارة العجوز. فحسب رأيها أن عجز الخطط الأمنية عن درء الأخطار المحدقة لا يتأتى من مقررات الإستراتيجية ذاتها، بل ينتج من اعتبارات تطبيقية؛ منها: انعدام اللقاءات المنتظمة، المواكبة لتلك الخطط، وغياب إستراتيجية موحدة للسياسة الاتحادية الأوروبية الخارجية. ويمكن إجمال معظم هذه الاعتبارات في حالة واحدة يحدد تضاريسها غياب الإرادة السياسية الفاعلة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ حيث إنها تسعى أولا -وقبل كل شيء- إلى تحقيق مصالحها الخاصة. وتصل كاليش إلى استنتاج صائب، يفيد بأن ثغرات عديدة اعترت إستراتيجية الأمن، وأدت لفشل السياسة الأمنية الأوروبية في توقع حدوث أخطار كبرى، هدَّدت استقرار أوروبا والعالم بشكل مباشر أو غير مباشر. وتقدِّم الكاتبة شواهد على ذلك مما وقع في أوروبا، أو على تخومها، كالحرب في جورجيا، والنزاع في شرق أوكرانيا، وإلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا، ومخلفات ما سمي "الربيع العربي"، والحرب في سوريا، وتدفق المهاجرين واللاجئين من الشرق والجنوب إلى الغرب. وهكذا يُستشف من استنتاجات الكاتبة أنها ترى أن مثل هذا الوضع غير المستتب لا يشي بالتفاؤل، بيد أنها تدرك أن الإستراتيجية الأوروبية الجديدة التي عرضتها، في يونيو 2016، الممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي -فيديريكا موغيريني- تقدم فرصة لكسر الجمود الذي ما فتئ يكبح حراك الإستراتيجية الأوروبية. وفي الفصل الثاني، يتناول أنتوني بينكوس خطة العمل الأوروبية المقدمة لصالح مسألة الدفاع، ويطرح في عنوان مبحثه سؤالا يثير الانتباه عمَّا يسميه "الوصفة الأوروبية" لتحسين القدرة الدفاعية المتناقصة لدول الاتحاد. ويصل إلى استنتاجات مشابهة لتلك التي أتت بها بوجينا كاليش فيما يخص التعاون العسكري بين دول الاتحاد الأوروبي، ورسم سياسة أمنية فعالة جامعة. يصبُّ جل اهتمام المؤلف على استقصاء قدرات أوروبا العسكرية الآخذة بالتضاؤل، ويضع سؤالا عن ماهية الأعمال الملحة التي يجب اتخاذها بخصوص الخطة الأوروبية لصالح الدفاع من أجل أن تتعاظم القدرات الدفاعية. ويرى أن الإستراتيجية الدفاعية يجب أن تُحكم مساراتها، وبها فقط يرتفع مستوى الأمن الأوروبي. وفي رأيه، يثبت التحليل التاريخي السليم أن السياسة الدفاعية تبقى إحدى أهم القضايا التي تسهر الحكومات الأوروبية على ضبطها، فهي تعد من منظور الدولة الحديثة إحدى أهم سمات السيادة الوطنية. وتبعا لذلك، يرى بينكوس أن المسار الصائب يكمن في تغيير مفهوم "السيادة الوطنية" من سيادة ذات قرار إلى ذات قدرة. وبالتالي؛ ينبغي وضع أمر المقدرة على توفير الأمن في المكان الأول، وهذا غالبا ما يتطلب تفعيل التعاون الدولي. وفي الوقت نفسه، يؤكد بينكوس أن إمكانيات التغيير تظل محدودة بشكل كبير، ما لم تُقر مشروعات السياسة الدفاعية المشتركة في خطة واحدة مُحكمة. فلا يمكن لهذه السياسة -كما يصفها المؤلف- أن تبقى مجرد مقررات أوروبية مكملة اتخذت بالإكراه. وفي الفصل الثالث، تبدي ماجدلينا كانيا رأيا مغايرا لما طرح من آراء قبلها، إذ إنها تتناول، من منظور مقارن، نماذج متنوعة لسياسة المساعدة التنموية التي تنتهجها دول الاتحاد الأوروبي. فنجدها تُقارن تلك النماذج المتبعة في ثلاثة بلدان منتمية إلى الاتحاد الأوروبي؛ هي: بريطانيا وألمانيا والسويد. ورغم اختلاف الدوافع المعيارية بين تلك الدول في إرساء تلك السياسة، يُمكن تلمس أوجه تشابه عديدة، ومهمة، بين برامج المساعدة المعتمدة. وتستعرض كانيا جوانب مهمة من آليات عمل تلك البرامج، فتؤكد أن الزيادة الثابتة لقيمة المساعدة عادة ما تترافق مع أمور أخرى؛ منها: ربط المساعدة بالشأن الأمني الذي يحرص على صيانة السلم والاستقرار، والتعويل على الرشاقة الاقتصادية عبر زيادة التصدير والمشاركة في المشروعات الاستثمارية القائمة في المناطق التي توجه إليها المساعدات. وترى المؤلفة أن البحوث التي تعنى بسياسة المساعدة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار سبل تحقيق الإفادة لتشمل طرفي المعادلة؛ أي: المعطي، والمتلقي.

ويضمُّ القسم الثالث من الكتاب فصليْن، اشترك في كتابتهما الدكتورة ماجدة ليفيتسكا والباحث ميخاو داهل، يُعَالِجان فيهما شؤون العلاقات التركية-الإسرائيلية وشجونها. يُركز المبحث الأول على ما يُسمَّى الطابع "الجيبي" (والمقصود بالجيب هنا جيب الزاوية في الرياضيات) للعلاقات التركية-الإسرائيلية بعد عام 1949 وحتى بداية القرن الحادي والعشرين. يُشدِّد المؤلفان على أن تركيا كانت تنظر إلى علاقاتها بـ"إسرائيل" على أنها علاقات إستراتيجية، لا يمكن التخلي عنها، رغم حدوث اعتداءات إسرائيلية كثيرة على العرب عامة، والفلسطينيين منهم خاصة، ومن ذلك حرب السويس عام 1956. ويحلل المؤلفان الموقف التركي هذا على أنه يسعى من خلال ذلك إلى إرضاء الغرب، خاصة الولايات المتحدة، من جهة، ويحرص على تحقيق مصالح مشتركة بين تركيا وإسرائيل في الشرق الأوسط، من جهة أخرى. ويذكران بعض تلك المصالح؛ ومنها على سبيل المثال: الحرص على الاستقرار في لبنان، كما يزعم الكاتبان، رغم أن السياسات الإسرائيلية دأبت على زعزعة استقرار لبنان لإبقائه ضعيفا فتسهل السيطرة عليه. ويغلب على المبحث الثاني الطابع الاستعراضي للعلاقات بين تركيا و"إسرائيل" بعد عام 2002 وحتى عام 2014، مع التركيز على تحليل الرؤية السياسية الخارجية لرئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو. وقد استفاض الباحثان في الحديث عن الفتور الذي شاب العلاقات التركية الإسرائيلية، وتحوله إلى توتر اشتد أواره إثر العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2008. ومن الغريب أن المؤلفيْن يسميان ذلك العدوان بـ"التدخل الإسرائيلي في قطاع غزة"، ويشددان على أن تركيا بموقفها المناوئ للعدوان على الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يكن ناتجا عن حرصها على سلامة السكان الفلسطينيين، بقدر ما كان نابعا من رغبتها في إظهار نفسها على أنها الدولة القائدة الحامية للمسلمين جميعا. وقد يكون زعم الكاتبيْن صحيحًا أن أولويات السياسة الخارجية التركية قد تغيرت بوصول حزب العدالة والتنمية إلى سُدة الحكم في العام 2002، وأن مطامح تركيا العليا أصبحتْ مُرتبطة ببلوغها مكانة الدولة القوية في الإقليم. فكان من الضروري لتركيا الاسترشاد بالخطاب الإسلامي، والانعتاق من شرنقة العلاقات التي تربطها بـ"إسرائيل" بشكل ظاهري يُحبِّب العرب والمسلمين بها. ويرى الباحثان أن الأوضاع المتغيرة باضطراد، وبشكل سريع، في هذه المنطقة من العالم تستدعي عودة العلاقات بين الطرفين إلى حالها التي كانت سائدة قبل عام 2002، ولكن هذا يتطلب تغييرات عميقة في السياسة التركية. وبغض النظر عن صحة هذا الطرح أو عدمها، فإنه يشي بأن التغيير دائما، وفي جميع الأحوال، يجب أن يصب في مصلحة إسرائيل؛ وذاك ما يجعل مثل هذا الخطاب خجولا في توصيف السياسات الإسرائيلية، وينأى به عن شروط الموضوعية المطلوبة في البحث العلمي المتوازن.

ويشتمل القسم الأخير من الكتاب على فصليْن، يتناولان التحديات التي يواجهها النظام العالمي الحديث، وتحديدا المشكلات التي ترتبط بما سُمِّي بأزمة الهجرة منذ العام 2015. في الفصل الأول تستعرض أوكتافيا إيفا برانيفيتش، منطلقة من منظور قانوني، ظاهرة الاتجار بالبشر، متتبعة شؤونها في سياق الأزمة التي نشأت مع تدفق سيل المهاجرين المسلمين إلى الغرب. ونظرا لاعتبارات رسمية، وكذلك عملية، تؤكد المؤلفة أنَّ عمليات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، على عكس الصورة العامة التي تضعهما في خانة واحدة، أمران مختلفان. أما حنا فيتشانوفسكا، فتتناول في الفصل الثاني الوضع الراهن للأقليات المسلمة في أوروبا، وتضع في صدر عنوان مبحثها سؤالا يتصل بمدى اشتداد حدة رهاب الإسلام في العام 2017. وهي إذ تؤكد تفاقم حدة ذلك الرهاب في دول الاتحاد الأوروبي، خاصة الوسطى والشرقية منها، تضع المسؤولية الكبرى في ذلك على عاتق السياسيين الأوروبيين ومجتمعاتهم المتوجسة. وترى أن السياسة الأوروبية تشدد على أهمية التعاون المؤسساتي مع المنظمات العربية والإسلامية المحلية، لكنها لا تفعل إلا القليل الأقل في محاربة العداء الظاهر للإسلام بصورة فعالة. تلجأ الباحثة إلى تحليل ظاهرة ذلك العداء، فترده إلى جذوره التاريخية في الماضي البعيد والقريب. وترى في التنافس السياسي بين أوروبا والعالم الإسلامي سببا من أسباب هذا التنافر، ولكن ما ينبغي قوله هنا، وتحديدا فيما يخص التنافس، أن هذا الطرح يفتقد إلى الدقة، نظر لضعف دول العالم الإسلامي التي فقدت قدرتها على التنافس في فترة الكولونيالية وما بعدها. بيد أن المؤلفة تلتفت إلى الجانب الأهم من جوانب هذا العداء، وتدركه واصفة إياه بانتباه وحذر، وهو ذلك الذي يتعلق بالاختلاف الثقافي بين الطرفين، وعملية "التثاقف" التي يراها الأوروبيون عصية على المهاجرين المسلمين.

وفي الختام، يُمكن القول إنَّ كتاب "النظام العالمي الحديث.. دينامية التحولات"، قدم مادة قيمة متنوعة الموضوعات والمحاور، تصبُّ في المجرى الرئيس الذي يرسمه العنوان. وقد أتى ترتيب المباحث موفقا، بالرغم من  تفاوت مستوياتها التحليلية، وتنوع محتوياتها الفكرية. وقد ظهرت نقاط ضعف عديدة في عملية البحث والاستنتاج، وعلى رأسها عدم التعمق في تحليل قضايا شديدة التأثير في تحديد الأخطار المحدقة بالنظام العالمي الحديث؛ ومنها على سبيل المثال، لا الحصر: خطر تغول رأسمال العالمي المعتمد على تسويق الحروب لضمان تجارته الرابحة في إنتاج مختلف صنوف الأسلحة الفتاكة. وفي المقابل، ضم الكتاب مباحث قيمة قد تحظى باهتمام القارئ، وقد تكون لها أهمية كبيرة في البحوث الجيوسياسية، لكنها ليست على تلك الأهمية في التأثير في مسار النظام العالمي الحديث، ومنها مسألة العلاقات التركية-الإسرائيلية، التي أفرد لها المؤلفون قسما خاصا من العمل. وأخيرا يجدر القول إنَّ الكتاب في معالجته أُسُس النظام العالمي الحديث ومنطلقاته الفكرية، أثبت أن الأمن العالمي مرتبط بمسيرة التحولات الكبرى التي تشهدها مناطق العالم قاطبة، وفي الصميم منها منطقتنا العربية.

--------------------------

الكتاب: "النظام العالمي الحديث.. دينامية التحولات".

- المؤلف: مجموعة من المؤلفين.

- الناشر: دار آدم مارشاوِك، وارسو، بولندا، 2018م.

- عدد الصفحات:  228 صفحة.

أخبار ذات صلة