تاريخ الهجرة الجزائرية إلى فرنسا

9782707175977.jpg

إيمانويل بلانشار

سعيد بوكرامي

إيمانويل بلانشار، مؤرخ مرموق، وأكاديمي بارز، فهو صاحب دراسات عديدة رصينة ومثيرة تهتم بالعلاقات الفرنسية الجزائرية وقضاياها، نتذكر كتابه "الشرطة الباريسية والجزائريين بين 1944 و1962 "(إصدارات النوفو موند) الذي كشف فيه عن قضايا مثيرة ومسكوت عنها تخص تعامل الأجهزة الأمنية مع المهاجرين الجزائريين تعاملا فيه الكثير من التمييز والإجحاف. ها هو يعود في كتابه الجديد إلى الموضوع نفسه، لكن هذه المرة سيقتفي موضوع تاريخ الهجرة الجزائرية النوعية، إلى فرنسا منذ بداية بداياتها وإلى اليوم. سنكتشف في هذا البحث الزخم بالمعلومات والوثائق والحقائق بأن المنفى الجزائري أقدم بكثير مما نعتقد. فقد عرفت فرنسا منذ القرن السادس عشر، هجرة مئات من مواطني العاصمة الجزائر، في ظل حكم الإمبراطورية العثمانية، الذين كانوا يشتغلون في صناعة وترميم سفن المملكة الفرنسية، وقد استقر هؤلاء المسلمون في المدن الفرنسية الكبرى، وكان يطلق عليهم آنذاك لقب "الشرقيون".

إنه تاريخ طويل متداخل ومتشابك بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط، يمتد على مدى قرنين من الهجرة ويتغذى على مائة وثلاثين سنة من الاستعمار. لقد ظل الجزائريون لأكثر من ثلاثين عاماً، أول مجموعة من الأجانب تستقر في فرنسا. ولم تكن لديهم وجهة للمنفى ولفترة طويلة سوى موانئ مرسيليا، وتولون ونيس. حتى اليوم، هناك أكثر من 400 ألف منهم لديهم تأشيرة دخول لفرنسا كل عام. وعلى الجانب الآخر، ستظل الجزائر بالنسبة للفرنسيين الفردوس الضائع والجرح الصامت.

ولهذا السبب نجد إيمانويل بلانشار يتحدث في كتابه (تاريخ الهجرة الجزائرية إلى فرنسا) عن العلاقات الحرجة والمضطربة بين فرنسا والجزائر" بسبب العبء التاريخي الجسيم لسنوات الحرب ما بين (1954-1962). كما يعرض الأسباب الحقيقية التي تعود إلى إرث استعماري ودمويّ يتمثل في مائة وثلاثين سنة من الاستعمار وما يقرب من قرنين من الهجرة المتعددة الأسباب والروابط: في البداية من فرنسا إلى الجزائر، قبل أن تتضاعف المعابر من الجزائر إلى فرنسا مع بداية القرن العشرين وإلى اليوم، الجزائريون هم المجموعة الرئيسية من الأجانب الذين يعيشون في فرنسا على الرغم من أن أجيالاً من المهاجرين قد اكتسبت الجنسية الفرنسية. وقد تميز هذا القانون إلى حد كبير بقانون الجنسية، وسياسات الهجرة المتواصلة، لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية. لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار الوضع الاستعماري، ثم ما بعد الاستعماري، الذي يتحكم في نوعية هذه العلاقات ونتائجها. وهذا يُفسر التمييز البنيوي وحركات النضال التي واكبته. وقد ترك مكانة رحبة للتاريخ الاجتماعي لممارسات التنوع والاختلاف (الديني والثقافي والمهني ...) يحاول الكاتب أن يدرس تنوع الهجرة التي تختزل في كثير من الأحيان إلى صور نمطية أو إلى تاريخها السياسي فقط.

 في عام 2013 كانت الجالية الجزائرية تتألف من 760 ألف مهاجر وأكثر من مليون مهاجرة على الأقل، من أصول جزائرية، وكان هذا العدد من السكان في فرنسا يشهد منذ عقود قديمة دينامية دائمة من تدفقات الهجرة من فرنسا إلى الجزائر خلال سنوات الاستعمار ومن الجزائر إلى فرنسا بعد الاستعمار. تعتبر الهجرة الجزائرية "فريدة" فيما يتعلق بالوضع الاستعماري الخاص بالجزائر، والعدد الكثير من تدفقات الهجرة إلى فرنسا. وفي نفس الوقت "مثالية" هكذا يصفها المؤلف في (مقدمة الهجرة الاستعمارية من القارة الأفريقية في السنوات 1950-1970 )، وهنا ناقش المؤرخ إيمانويل بلانشار العديد من أعمال المؤرخين وعلماء الاجتماع الذين اهتموا بتاريخ الهجرة في فرنسا.

وفي مقدمتها مؤلفات المؤرخين (جيلبرت مينييه) و(بنيامين ستورا)، وكذلك أبحاث الجيل الجديد من المؤرخين الأكثر اهتماماً بالتاريخ الاجتماعي. لهذا نجد أن جزءا مهما من الببليوغرافيا المعتمدة يعود إلى بداية الألفية، ويشمل مساهمات العديد من أطروحات الدكتوراه وأطروحات الماجستير الجديدة.

وتماشيا مع التأريخ الأخير للهجرة يبرز الباحث بلانشار الدور الهام للدولة في ديناميات الهجرة، وكيف أن الهجرة الجزائرية كانت باستمرار تحت إشراف ومراقبة الدولة، هذا التحكم بنفسه خبره أو عرفه المهاجر خلال الحرب الجزائرية أو من خلال التاريخ الشعبي الجزائري. وعلاقة بالموضوع يعترف المؤلف أيضًا بوجود تاريخ شفهي، يمكن تسميته بالتأريخ الاجتماعي "الشعبي" لهذه الهجرة، أي تلك الحكايات الجارحة المطروحة ندوبها على الطرقات الوعرة والمحفوفة بالمخاطر للهجرة الجزائرية التي "يُنظر إليها من أسفل" منبّهاً إلى "قدرات التصرف الذكية" لهؤلاء المهاجرين. في مقابل رؤية سياسية وشبه طبيعية للاندماج (الذي يحتاج إلى وقت فقط، لكي يتم الوفاء به)، يذكّر المؤلف وصمة عار التمييز الذي كان على الجزائريين تحمله طوال هذا التاريخ: التمييز في حياتهم. في الوضع القانوني (الفصل 1)، التمييز في الترقيات داخل الجيش (الفصل 3)، في مجالات العمل المتدنية (الفصل 5)، في تحقيق لمّ الشمل الأسري أو التوفر على السكن اللائق (الفصل 6).

ينظر بلانشار إلى هذا التاريخ وكأنه "سفر تكوين" لعصر جديد: تاريخ يمكن أن يُنير جوانب خفية من هذا التواجد الجزائري في فرنسا، الذي يستدعي مناقشات مستمرة، لكتابة تاريخ حقيقي. ولهذا السبب يعقد المؤلف حوارا جدليا بين الماضي والحاضر. يبدأ منذ مُقدمة الكتاب ويتم التذكير به في نهاية كل فصل وفي الخاتمة أيضًا. لكن يبدو، في بعض الأحيان، هذا المرور من الماضي إلى الحاضر سريعًا وقد يكون التركيز على الاستمرارية قويّا بعض الشيء. بيد أن المؤلف يتحيز إلى الفترة من 1914 إلى 1974، ويركز غالبًا على الفترة الأخيرة بسرعة للتوصل إلى نتائج عن الوضع المعاصر.

ينقسم الكتاب، إلى ستة فصول، مبنية على تصميم يهتم بالمواضيع أكثر من تركيزه على التسلسل الزمني. قد يكون من الصعب العثور على المراحل الرئيسية لسياسات الهجرة التي من المفترض أن تكون مألوفة لدى القارئ. لكن هذا التشويش الزمني يؤكد على الاستمرارية بين الفترة الاستعمارية وفترة ما بعد الاستعمار، ويدعو إلى التشكيك في التأريخ الانتقائي والسهل جدا الذي تقترحه مصنفات تاريخ سياسات الهجرة.

يشير الفصلين الأول والثاني إلى الأصل الاستعماري لهذه الهجرات، مؤكدا على أن منشأها من فوضى المجتمعات الريفية الناجمة عن الاستعمار. بالإضافة إلى الهجرة السياسية للفارين من الاحتلال الفرنسي، ومن وبال مصادرة الأراضي التي بلبلت المجتمع المحلي ودفعته إلى بداية حركة النزوح الريفي، أولاً إلى المدن الكبرى في الجزائر، ثم تدفقت تدريجياً إلى أوروبا. (الفصل الأول. الهجرة الاستعمارية (قبل 1914). إنَّ تعبئة الجزائريين المستعمرين في المجهود الحربي، كجنود أو عمال، سرّع هذه العملية، وأنتج أشكالا من التثاقف تتلاءم مع أساليب الحياة الحضرية، وعلاقات الهيمنة الأقل وحشية مما هي عليه في مقاطعات الجزائر (الفصل الثاني: الهجرة المستأصلة سنوات 1910-1930).

إن مشاركة "السكان الأصليين" في المجهود الحربي (خلال الحرب العالمية الأولى) أدى أيضاً إلى تخفيف مؤقت لظروف عبور المهاجرين بين مقاطعات الجزائر وفرنسا. في فترة ما بين الحربين. يحدد بلانشار إحصائيات عن "الهجرة الأولى" الجزائرية. إذا كان تواجد المسلمين الأصليين يقدر بحوالي مائة ألف مهاجر، فإن خمسمائة ألف جزائري هم الذين قاموا على الأقل، إقامة واحدة في فرنسا. ومع ذلك، فإنَّ هذه التسهيلات كانت مؤطرة بقوة، حيث قررت الدولة الفرنسية في عام 1924 وضع حد للتنقل الحر وفرضت على الراغب في السفر إلى فرنسا أن يقدم وثائق الهوية وشهادة التوظيف.

في الفصل الثالث (المسلمون في فرنسا، 1930-1960) وفي الفصل الرابع (الجزائريون السياسيون، 1920-1980) يتم التركيز على الفترة المفصلية التي تزامنت مع حصول الجزائر على الاستقلال. الفصل الثالث يتوقف عند فئة "المسلمين" كفئة من الدولة يطلق عليها اسم "السكان الأصليين" للجزائر أو "فرنسيو الجزائر المسلمين" وهذا يدل على تصنيف عرقيّ للمهاجرين. وبالعودة إلى تاريخ الإصلاح الإسلامي وسلطته على حركة الاستقلال الجزائرية، فإنَّ بلانشار يشير إلى تعددية الممارسات الإسلامية، بين إسلام مؤمن بالخرافة الراسخة بقوة في الجزائر آنذاك (وبين المهاجرين)، وبين الإسلام المحافظ الذي تتزعمه حركة الفقهاء في الثلاثينيات من القرن الماضي. وبالأخص، من خلال الإشارة إلى فرض إعداد وجبات تحترم المحظورات الغذائية للمسلمين في الجيش منذ الحرب العالمية الأولى، أو افتتاح قاعات للصلاة داخل الشركات والمصانع في العشرينيات من القرن العشرين.

يتناول الفصل الرابع ظاهرة تسييس هذه الهجرة في علاقة بالنضال من أجل الاستقلال. ويعود بلانشار إلى الدور الهام الذي قام به جزائريو فرنسا في عملية هيكلة حركة الاستقلال الجزائرية، سواء عن طريق المصالحات مع الحركات الأخرى المناهضة للاستعمار، والتي كانت تتعارض فكرياً وسياسيًا. وينبغي التأكيد على أن الدراسات التي توثق سياسة الدولة الجزائرية تجاه مهاجريها ما تزال قليلة.

كما يتناول الفصلان الأخيران فترة ما بعد الاستعمار - على الرغم من أن الحدود الزمنية غير واضحة وهي تشدد على استمرارية الحقبة الاستعمارية. وقد عرض بلانشار وجهين أساسيين للهجرة الجزائرية هما: العامل الجزائري المهاجر، والعائلة الجزائرية.

في الفصل الخامس يتوقف بلانشار عند ظروف العامل الجزائري. بحيث لم تكن الهجرة الجزائرية، بخلاف غيرها، هجرة عمالية تشجعها الدولة أو الشركات بنشاط. وقد سهل الوضع الخاص للمقاطعات الجزائرية في بعض الأوقات من وصول المهاجرين من الجزائر، ورغم ذلك، فقد نظرت إليه السلطات الفرنسية بقليل من الرضا والاستحسان، لأنها تجدها أكثر صعوبة في التعامل من مثيلتها من الهجرة الأوروبية. شهد المهاجرون الجزائريون معدلات بطالة كبيرة في الخمسينيات، قبل الإقلاع الصناعي الكبير في الستينيات من القرن الماضي والذي تمكن من استيعاب هذه القوة العاملة وطالب في فترات بالزيادة منها. وهكذا انتهى الأمر بالمهاجرين الجزائريين إلى تشكيل كثلة هامة وقوة عمالية لا غنى عنها، شاركت بدينامية في النشاط النقابي الفرنسي.

إذا كانت إضرابات العمال المهاجرين في السبعينيات تتعلق بالدرجة الأولى بمطالب العمّال العامة، فقد كان ينظر إليها من قبل الحكومة في الثمانينيات على أنها "صراعات مهاجرين". لكن الحقيقة الصارخة أن المهاجرين كانوا يُشغّلون تحديدًا في أكثر الوظائف إيلامًا والأقل أجورًا، مما أدى إلى نشأة مجتمع واقعي من العمال المهاجرين تم التعامل معه (وخاصة ما بعد الاستعمار) كمتغير للتكيف مع الأزمة الاقتصادية، فكان المهاجرون أول من تأثر من عمليات التسريح التي فرضتها سياسات العائد الاقتصادي. وبدأ تهميش هذه الفئة الاجتماعية العمالية أيضًا إثر مطالبة بعض الجهات النقابية بتوفير في مجالات العمل قاعات لائقة للصلاة. وهذا ما اعتبرته السلطات مطلبا شعائريا من فئة "الخطر الأخضر" (ص 86). في حين كانت في 1920، أماكن ممارسة الدين الإسلامي قد اقترحتها الشركات المشغّلة، للحد من عملية انخراط العمال القادمين من الجزائر في النقابات.

 يتناول الفصل الأخير مسألة الهجرة الأسرية أو ما يطلق عليه (سياسة لمّ الشمل الأسري) ليناقش نتائج معارضة هجرة العمالة الجزائرية إلى فرنسا التي كان من المفترض أن تستمر حتى عام 1974 لكن تعليق هجرة العمال "المؤقت" الذي قررته الحكومة الفرنسية، ومعها الهجرة الأسرية (التي بدأت مع مرسوم التجمّع العائلي عام 1976. يقارن بلانشار بين هذين الوجهين للهجرة الجزائرية. و قبل كل شيء، فإنه يذكر كيف تم النظر إلى الهجرة الأسرية الجزائرية على الدوام نظرة غير مرغوب فيها من قبل السلطات الفرنسية. على الرغم من أن اتفاقيات إيفيان لعام 1962 التي أعطت الجزائريين وضعا خاصا، مما سهل في بعض الأحيان سفرهم إلى فرنسا، منذ عام 1964، لكن الدولة الفرنسية سعت دائما للحد من الهجرة العائلية من خلال وضع إجراء خاص بالجزائريين، يبدو في الظاهر أكثر مرونة من الجنسيات الأخرى، لكنه في الواقع أكثر تشددا.

في النهاية، يعطينا إيمانويل بلانشار تركيبا ثريا حول تاريخ هذه الهجرة الفريدة من نوعها في حوض البحر الأبيض المتوسط، من نواح عديدة، لتسليط الضوء على الكثير من النقاشات السياسية الملحة الحالية معبرا عن تخوفه من سياسة فرنسا المتناقضة تجاه المهاجرين التي لا تحسن ظروفها بل تزيدها صعوبة وتعقيدا، بحيث تواجه فرنسا اليوم فشلا ذريعا في سياسة الاندماج وما سيترتب عن ذلك من توتر سياسي واجتماعي.

------------------------------------------------------------

الكتاب: تاريخ الهجرة الجزائرية إلى فرنسا

المؤلف: إيمانويل بلانشار

اللغة: الفرنسية

دار النشر: لاديكوفيرت. فرنسا.

تاريخ النشر: 2018

عدد الصفحات: 128 ص

أخبار ذات صلة