لباسكال بروكنر
مُحمد السماك
يمكن تتويج الحكمة من الكتاب في عبارة أساسية واحدة؛ هي: إن المال يتقدم من حيث الأهمية؛ حيث تتراجع الحكمة كفضيلة.. بمعنى أنه كلما تراجعت الحكمة وتقلص دورها، تقدم المال في احتلال مواقع التأثير الأولى. ويدعو المؤلف في دراسته الجامعية المعمقة فكريًّا وفلسفيًّا إلى التعامل مع الثروة بالشكر والامتنان. وفي الوقت ذاته تقبّل الحقيقة التالية: وهي أن كل ما حصلنا عليه يمكن أن يُسترجع منا أيضاً.
ويقدم المؤلف أمثلة على تضخم ثروات بعض الأغنياء في العالم إلى ما يتجاوز القدرة على الاستيعاب. فيذكر مثلاً أن بيل جيتس -الذي تقدّر ثروته بحوالي 43 مليار دولار- تنفق مؤسسته سنوياً أربعة مليارات دولار على الأعمال الخيرية في الولايات المتحدة والعالم. وهو ما يعادل موازنة منظمة الصحة العالمية. ويذكر مثلاً آخر يصف فيه منزلاً في نيويورك يملكه أحد الأثرياء يتألف من 137 غرفة، إلا أن هذا الثري ينام في غرفة واحدة وفي سرير واحد.. ويُفرد المؤلف صفحات يتحدث فيها عن تشجيع التملك في المجتمع الأمريكي إلى حد أنه يصف الاقتصاد بأنه أصبح جزءاً من "العقيدة". ويقول المؤلف إن بعض الأغنياء، فاحشي الثراء، قرروا الانصراف إلى جمع المال لأنهم لا يعرفون أن يفعلوا أي شيء آخر.
والواقع أن التحول من الفقر إلى الغنى ليس مسألة شخص. إنه مسألة نظام حياة. ففي كتاب "ثقافة النمو" للمؤرخ الأمريكي جويل موكير، صدر عن جامعة برنستون في العالم الماضي (2016)، يقول المؤلف: إنه في عام ألف ميلادية كان حجم ثروة الفرد في أوروبة أقل قليلاً من حجم ثروة الفرد في الهند أو الصين. ولكن في عام 1900 انقلبت الأمور رأساً على عقب، وأصبحت أوروبا أغنى خمس مرات أكثر. وتوالى هذا التطور إلى أن دخلت الصين -وكذلك الهند- في عالم الصناعة الحديثة. ويعزو المؤلف الفروق الشاسعة التي كانت قائمة إلى الثقافة التي تغيرت بشكل أساسي في أوروبة منذ العام 1500.
ولا تزال عملية التغيير متواصلة، على النحو الذي يلقي كتاب " ثقافة المال" الضوء عليه.
غير أن نزوع الإنسان نحو التملك ليس جديداً، فهو مرتبط بعمق بالنزعة الإنسانية. ويروي المؤرخ غريغ شتاينمتز في كتاب جديد ممتع له صدر في العام الماضي (2016) قصة أغنى رجل على الإطلاق عرفه العالم، يدعى جاكوب فوغر، ونشرت هذا الكتاب مؤسسة سايمون وشوستر، وهو يقع في 283 صفحة.
في الفصول الأولى من الكتاب، يقدم لنا المؤلف جريج شتاينمتز بطل القصة على أنه يتحدر من عائلة ألمانية ثرية كانت تعيش في مدينة أوكسبورج في جنوب ألمانيا. وكانت تمارس تجارة الأقمشة وتدير مجموعة من المصارف. وهذا يعني أن صاحبنا ولد "وفي فمه ملعقة من ذهب"، كما تقول أمثالنا العربية.. وعاش حياة طويلة حتى قضى نحبه "على فراش من ذهب" أيضاً.
ولكن ذلك ليس مهمًّا في حد ذاته. فالمهم هو نجاحه في تغيير المفاهيم الاقتصادية والمعاملات المالية، وإرسائه أسساً جديدة لا تزال قائمة ومعتمدة حتى اليوم.
فالمؤلف يخبرنا أن جاكوب بدأ المغامرة المالية-السياسية الأولى بتقديم قروض مالية كبيرة إلى الإمبراطور الألماني فرديريك الثالث، رغم أن الإمبراطور كان يتمتع بسمعة لا تشجع أبداً على المغامرة بمنحه هذه القروض. ومع ذلك، ذهب فوغر في المغامرة إلى مدى أبعد عندما واصل منح القروض إلى ابن الملك مكسيميليان الأول الذي أنشأ الإمبراطورية النمساوية الهنغارية. ومقابل هذه القروض كانت الدولة تقدم له التسهيلات التي كانت في الوقت ذاته تحجب عن منافسيه في السوق المالي. وهكذا كان يعطي (قروضاً) بيد، ويأخذ تسهيلات ممنوعة من الآخرين باليد الثانية. وبذلك؛ تمكّن صاحبنا جاكوب فوغر من احتكار إنتاج النمسا من الفضة وإنتاج المجر من القصدير. وأنشأ مصنعاً لصهر هذه المواد والاتجار بها على مدى الأسواق الأوروبية.
لم يكن فوغر وحده سيد تلك الأسواق. في ذلك الوقت كانت البندقية عاصمة التجارة والمال في أوروبا. ولتجنّب المنافسة، دخل في شراكة مع كبار رجالاتها الصناعيين والتجار.
وقد وجد هؤلاء في انضمامه إليهم فرصة سانحة لاستغلال احتكاره إنتاج الفضة والقصدير وتسويقهما، فقرروا استجابة لجشعهم، رفع الأسعار من خلال تخفيض الإنتاج ليرتفع الطلب على العرض. غير أن فوغر الذي شجع تجار البندقية على التورط في هذه العملية، سرعان ما انسحب من هذا الترتيب واستقل بنفسه معتمداً أسلوباً معاكساً تفرّد به. وهو إغراق الأسواق بالإنتاج مما أدى لتخفيض الأسعار بشكل كبير.. وتخفيض الأسعار أدى بدوره إلى إفلاس الشركات المنافسة له في البندقية، وكذلك المصارف التي كانت تتعامل معها.
وعندما أدرك فوغر أن منافسيه (شركاءه السابقين) جثوا على ركبهم من جراء تبعات الإفلاس، أعاد فرض سيطرته منفرداً على السوق الأوروبي؛ فرفع الأسعار من جديد، وهيمن على الأسواق، إنتاجاً وتسويقاً وتسعيراً.
وكانت تلك العملية، التي أصبحت شائعة في عالم المال والأعمال اليوم، الأولى من نوعها في ذلك الوقت. وهي العملية التي أرست قاعدة "المضاربات" في عمليات الصفقات التجارية التي تعتبر اليوم، رغم الطعن في أخلاقيتها، ركناً من أركان النظام الاقتصادي الحر.
كانت البندقية عبر تواصلها مع الشرق، خاصة مع الاسكندرية في مصر، تحتكر تجارة التوابل في أوروبا. وقد تمكن فوغر -كما يذكر المؤلف في كتابه- من كسر هذا الاحتكار عن طريق تمويل مشروع التوسع البحري البرتغالي باتجاه غرب إفريقيا والشرق الأقصى. وقد نجح البرتغاليون في التوسع والانتشار، وسيطروا على تجارة التوابل بفضل هذا التمويل الذي وفره لهم فوغر، مما وجّه ضربة قاتلة لاقتصاد البندقية.. ومنح فوغر مصدراً جديداً لتضخيم ثروته واحتكاراته.
ووفقاً لما جاء في الكتاب أيضاً، فإن فوغر الذي كان مولعاً بتتبع الأخبار -خاصة المالية والاقتصادية منها- أنشأ شبكة خاصة من المراسلين الذين كانوا يجمعون المعلومات ويرسلونها في تقارير دورية إلى مكتبه في أوغسبورغ. وكانت تلك التقارير تطبع وتوزع على زبائنه. وبذلك يكون فوغر أول مؤسس لوكالة أخبار في العالم.
وفي تلك المرحلة من التاريخ الأوروبي عام 1515م، كانت الكنيسة الكاثوليكية معنية بصورة مباشرة بكل تفاصيل الحياة العامة. وكانت تحرك الربى الفوائد المصرفية. ومع ذلك، فإن فوغر كان يستثمر الودائع المالية الشخصية في المصرف الذي كان يملكه لتمويل أعماله التجارية الواسعة. ومقابل ذلك كان يدفع فائدة لأصحاب الودائع تبلغ خمسة بالمائة سنوياً.
وعندما رفعت هذه القضية أمام الفاتيكان بتهمة انتهاك قانون التحريم، وظف فوغر علاقاته الواسعة مع رجال الكنيسة وحتى مع البابا ليو العاشر نفسه. حتى إن البابا وافق على إعادة تعريف الربى بأنه "الربح الذي يتحقق من غير عمل، أو من غير رأسمال أو من غير مخاطرة". أما الفائدة المصرفية فإنها تقدم بدل استثمار الرأسمال.
ويقول مؤلف الكتاب شتاينمرز: إن الاقتصاد الحديث بدأ انطلاقته منذ ذلك الوقت"، أي عندما اعتبر الودائع المصرفية والفوائد عليها عملاً مشروعاً.
ويُوحي عنوان الكتاب بأنه قصة حياة رجل ثري، بل فاحش الثراء. غير أن الواقع غير ذلك. فالكتاب يروي أحداث ووقائع مرحلة من التاريخ عرفت بداية التحولات الاقتصادية والمالية في أوروبا؛ وكانت أساساً ومنطلقاً للتنظيمات التي اعتُمدت فيما بعد.. كما يلقي الضوء على الدور غير المعروف لتلك التحولات في التأثير المباشر على العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان تحديداً) وقيام الحركة البروتستنتية.
ويصف الكتاب شخصية جاكوب فوغر المغمورة تاريخياً بأنها الشخصية التي لعبت، من حيث لا تريد ولا تدري، دوراً أساسيًّا ومحوريًّا في تحقيق هذه التحولات التي استحدثت أسساً وقواعد تقوم عليها المجتمعات الأوروبية حتى اليوم، والتي فرضت نفسها على المجتمعات العالمية الأخرى التي تبنت أو تأثرت بالأفكار الدينية والاقتصادية والمالية الأوروبية.
ولعل أكثر ما يبعث على الاستغراب في هذا الكتاب هو ما أورده المؤلف عن علاقة فوغر بالفاتيكان. ففي ذلك الوقت كانت ثقافة "صكوك الغفران" منتشرة على نطاق واسع. وكان المؤمنون البسطاء يعتبرون أن الحصول على صك منها موقّع من البابا، يضمن لهم دخول السماء دون حساب. ولذلك كانوا يدخرون الأموال لشراء هذه الصكوك التي كان يصدرها الفاتيكان ويوقّع عليها البابا نفسه.
ويذكر الكتاب أن فوغر عمل "سمساراً" لتسويق هذه الصكوك من خلال اتفاق تعاون عقده مع رئيس أساقفة مدينة ماينز في ألمانيا. وبموجب الاتفاق كان فوغر ورئيس الأساقفة يحصلان على نصف ثمن الصكوك التي يتمكنان من بيعها للمؤمنين. ويرسلان النصف الثاني إلى البابا ليو في الفاتيكان. ويذكر الكتاب أيضاً أن البابا وظّف أموال عائدات صكوك الغفران تلك في بناء كنيسة القديس بطرس ( الفاتيكان اليوم).
أما الجانب الآخر والأهم لتلك العملية فإنه يتمثل في ثورة مارتن لوثر في عام 1517 ضد هذا النسق من التعبير الإيماني. وهو ما دفعه إلى كتابة الوثيقة الشهيرة التي أطلقت حركة الاحتجاج الديني -الحركة البروتستنتية- والمعروفة بوثيقة 95.
وبذلك يكون هذا الرجل المغمور، جاكوب فوغر من حيث لا يريد، قد أضرم نار الانقسام داخل الكنيسة، وهو الانقسام المستمر حتى اليوم. إضافة إلى كونه قد أرسى من حيث لا يدري، القواعد المعتمدة في النظام المالي الاقتصادي العالمي.
كان طبيعيًّا أن تؤلب أعمال فوغر عليه الكثيرين من الأعداء، ليس فقط من أصحاب المؤسسات المالية والتجارية التي تمكن من سحقها وتدميرها.. ولكن حتى من الفلاحين البسطاء الذين استثمر ودائعهم.. واستغل حتى بساطة إيمانهم. وكان من بين هؤلاء راهب يساري يدعى توماس مونتزر الذي روّج رواية تقول إن الله سوف يقتل فوغر شرّ قتلة. ولقد تعرض فوغر بالفعل لعدة محاولات اغتيال، إلا انها فشلت كلها، ومات خلافاً لدعوات ولنبؤات مونتزر، على فراشه الوثير، كما يقول المؤلف.
أما المصادفة المثيرة التي يشير إليها المؤلف في نهاية الكتاب، فهي أنه خلال الحرب الباردة عندما كانت ألمانيا منقسمة على شطرين، شرقي (شيوعي) عاصمته برلين، وغربي (رأسمالي) عاصمته بون، صدر طابعان بريديان في كل من برلين الشرقية وبرلين الغربية. الأول يمجد الراهب اليساري مونتزر باعتبار أنه كان ضد الكنيسة وضد استغلال الفقراء.. ويمجد الثاني رجل الأعمال فوغر باعتباره واضع الحجر الأساس للاقتصاد الرأسمالي الحر!
ويبدو أن هذا المبدأ يتجسد اليوم في أن أقل من 10 بالمائة من سكان العالم يملكون أكثر من 90 بالمائة من الثروة. ولا تقتصر الثروات على المال والعقارات، بل تشمل التحف الأثرية والفنية أيضاً. ومن أجل حفظها في مواقع آمنة، تتولى مخازن خاصة في عدد من المدن هذه المهمات بكلفة تتراوح بين خمسة آلاف و12 ألفاً للغرفة الصغيرة في السنة. وفي مدينة لوكسمبورغ وحدها، ارتفع عدد المودعين إلى 200 ألف في عام 2013. وفي مركز واحد في مدينة جنيف السويسرية، تبلغ قيمة الودائع من التحف فقط مائة مليار دولار، حسب ما أوردته مجلة "إيكونوميست" البريطانية ( نوفمبر-2013).
ولقد وصف مؤلف الكتاب فوغر بأنه أغنى رجل عرفه العالم، ولكنه لم يذكر أي رقم حول حجم ثروته المنقولة وغير المنقولة. غير أن فوغر لم يعرف ذلك، ولعله لم يكن يعتقد ذلك. فقد كان يردد حتى وهو على فراش الموت أنه "يريد أن يعيش أكثر حتى يجمع ثروة أكبر". أما اليوم، فإن المجلات المتخصصة (فوربس) تروي للعالم ارتفاع وانخفاض أرقام ثروات الآلاف من أصحاب المليارات في العالم. حتى انتشر الاعتقاد بأن هؤلاء الأثرياء الذين يشكلون 1 بالمائة من سكان العالم يملكون ثروات تعادل ما يملكه 99 بالمائة الآخرون!
---------------------------------
- الكتاب: "الحكمة من المال".
- المؤلف: باسكال بروكنر.
- الناشر: جامعة هارفرد، 2017م.
- عدد الصفحات: 282 صفحة.
