ليالي قليلة وليلة

11237.jpg

 لليوناني إيسيذوروس زورغوس

ذيمتريس سيليكوس *

تعدُّ ثسالونيكى أهم مدينة فى الإمبراطورية العثمانية، بعد القسطنطينية. إنها الميناء متعدد الثقافات بمنطقة البلقان بما لها من ريادة اقتصادية وتجارية حتى العقود الأولى من القرن العشرين. إنها المسرح الرئيس للأحداث التى تسردها رواية الأديب إيسيذوروس زورغوس وعنوانها "ليالي قليلة وليلة"، التي صدرت في شهر مارس من العام 2017.

تتناول الرواية فترة 70 عاماً، منذ ربيع عام 1909 حتى صيف عام 1979، وتدور حول محورين للسرد: تاريخ المدينة المضطرب فى القرن العشرين وعلاقته مع قصة حياة ليفتيريس زيفغوس، هذا الصبي الذى يبلغ من العمر تسعة أعوام وينتمي لأسرة يونانية فقيرة. إن ليفتيريس -ابن بستاني في فيلا ألاتيني- كادح فى حياته، سوف يكون شاهداً على جميع الأحداث المدوية التى أثرت بشدة على المسيرة التاريخية لمدينة ثسالونيكي المعروفة بلقب "عروس خليج ثرمايكوس"، من خلال تجاربه الشخصية، وغرامياته، والكفاح في الحياة. فبينما كان مثل "الفأر" المتطفل داخل فيلا ألاتيني، التي استضافت السلطان عبدالحميد -آخر سلطان للإمبراطورية العثمانية- أثناء إقامته الجبرية، حتى وصوله إلى رجل أعمال مهم، يتأثر ليفتيريس بحُبه إلى فتاة مسلمة من أصل يهودي (من طائفة الدونمة)، اسمها ميرزا، إضافة لتعجُّله للفرار من الفقر وتحقيق النجاح.

إنَّ الخلفية التاريخية التى تتناسب مع مكونات طابع بطل الرواية، تتعلق أساساً بمدينة ثسالونيكي، التى تتميز بالتسامح، وتعددية اللغات والثقافات التي توفر الإمكانية لجماعات مختلفة في اللغات، والأصول، والديانات أن يعيشوا ويموتوا بها. أتراك، ومسلمون، ويهود من طائفة السفارديم أو الدونمة، ويونانيون مسيحيون -أرثوذكس أو كاثوليك- وبلغاريون، وأرمن، وصرب، ولاجئون، وتجار أثرياء، وصيارفة، وكادحون، وبيروقراطيون، ومحتالون، ووشاة، وأرباب منازل، وعاهرات، جميعهم يشكلون المدينة المحبوبة للكاتب وبطل روايته، الذى يشبه "زوربا" آخر أو "أوديسياس" آخر من نتاج خليط التعددية الذي يميز هذه المدينة. إن ليفتيريس زيفغوس -في كثير من الأحيان- داخل الرواية، يختار بنفسه من يريد أن يكون وما المسيرة التي سوف يتبعها، دون تردد أو شعور بالذنب. ربما نظراً لانتهاجه الحياة الطبيعيية متأثراً بنموذج والده، الذي تحول من أرثوذكسي إلى كاثوليكي، بسبب الحب، فيقوم هو الآخر بتغيير اسمه، وجنسيته، ولغته، وحاميه، ووطنه، متبعاً ذات القوى المحركة فى حياته: الحب والحاجة إلى تحقيق النجاح.

لا تمتدُّ رحلة ليفتيريس فقط على مدار الزمن، بل تمتد وتشمل أيضاً مناطق مختلفة في أوروبا واليونان، عندما تتغير الظروف وتضغط من أجل إحداث تغييرات. إن "رجل الرخاء الفردي"، الذي لا يتوانى عن تغيير عقيدته من أجل حبه، يمثل النسبية في الحركات القومية التي اندلعت في أوروبا في بداية القرن العشرين. إن حدود التحمل الإنسانى تتجاوز أيديولوجيات طبقية أو قومية في "بوادي أوكرانيا". يصبح الهروب أمراً للبقاء على قيد الحياة، وتزييف الهوية نهجاً عملياً، بينما تقصف الحروب بحياة ملايين الأبرياء. مارسيليا، وبيريه، ومنطقة فثيوتيذا الجبلية، وأنتويرب، وثسالونيكي من جديد. إن دائرة المكان عند البطل تمر من خلال غراميات، وثراء، ودمار، وحروب جديدة، من زاوية شخص تجعله مصادفة الأوضاع دائماً في حالة تأهب. يتخلى عما يمكنه أن يحتفظ به ثابتاً لمدة ما. الشيء الوحيد في المكان والزمان الذي يعد بمثابة المرجعية، الحبل السُّري لوجوده، هو شارع "إكسوخون" في النصف الثانى من القرن العشرين.

النور والظلام، الحلم والواقع، قطبان يتبادلان الوجود في الرواية بشكل فعليٍّ أو مجازي، وتترك للقارئ شعوراً عميقاً بالبحث الوجودي عند الكاتب. إن عادة إشعال النيران فى عيد القديس يوحنا، من العادات الوثنية القديمة التي استمرت في الديانة المسيحية، تصنع الرابط الأول بين الأبطال. الحريق الكبير الذي اندلع في ثسالونيكى عام 1917 يدمر المدينة، إضافة لجميع مقتنيات ليفتيريس. إلا أنَّ ذلك يُقرِّبه أكثر من الغرام فى حياته، ويصير مُحدداً حاسماً لبداية جديدة. إن "نار" الحربين العالميتين تقتلُ وتقوم بإحياء حياة الاثنين. الظلام في المصنع المهجور أو في بدروم الفيلا، يحمي حياتهما من عيون النازيين وتنقذها. إن إصابة ليفتيريس بالعمى لا تلغي حياته مع حبيبته. تتجاوز الأحلام في فيلا ألاتنيي الواقع الاجتماعى الصعب.

على امتداد الرواية، نجدُ فى سردِ الكاتب زوغوس تعدد المستويات، مع تبديل الذهاب والإياب في الزمن على فترات قصيرة منتظمة. إن القارئ لا يقرأ كتاباً يروي قصةً ما، بل يقرأ رواية بداخل رواية أخرى. تتوافر بذلك إمكانية قيام الكاتب الطبيعى بمناقشة، موسعة، لموضوع العلاقة بين الفن والحياة. لا يمكن للفن أن يعيد تشكيل الحياة. إن ليفتيريس أو إفجينيوس زيردو يكرر ذلك مراراً وبوضوح إلى الشاب الذي يكتب رواية سيرته الذاتية: لم تحدث الأشياء بهذه الصورة. لا يمكن أن "تُقال" الحياة إلا من خلال إعادة التعبير عنها من خلال الفن، أو بالأحرى كحياة جديدة. وبالتالي تفقد -بصورة حتمية- ما نتخيله عن "الموضوعية". إلا أنها فرصتها لتشكيلها بحرية بأيدي الفنانين. في هذه المساحة من الحرية تكتسب علاقة أخرى مع الزمن. بينما توجد لحياة شخص ما حدود زمنية ضيقة، عندما تصبح عملاً أدبياً فإنها تتجاوز هذه الحدود. بإمكانها أن تنتصر على الموت الطبيعى للبطل وأن تكتسب الخلود، طالما هناك بالطبع من يقرأ سطور الكاتب.

في كتابِه الجديد، حاول إيسيدوروس زورغوس تقديم تاريخ ثسالونيكي بالتوازي مع قصة بطله؛ وبالتالي تكثيف تاريخ المدينة في القرن العشرين وتحويله إلى رواية. إذا كان هذا حقا أحد أهداف زورغوس، فإنه بالتأكيد يحقق نجاحا كبيرا. والهدف من ذلك صعب ومفرط في الطموح. هناك توازن دقيق وتقنية السرد مُركَّبة تتطلب الإتقان والمعرفة والمهارة والموهبة. زورغوس يمتلك هذه القدرات بوفرة والكتاب دليل على ذلك. في بعض الأحيان، يبدو أن التاريخ يهيمن على الإبداع الأدبي حيث إن دمج المعلومات التاريخية في السرد ينمو أكثر من سرد الرواية. ويبدو أن تاريخ المدينة يحمل جاذبية أكبر لزورغوس من قصة أبطاله. وهكذا، ينقطع سرد قصة ليفتيريس/يوجينيوس وميرزا على فترات منتظمة من خلال سرد أحداث ليلة واحدة في يونيو 1979، عندما تنتهي القصة. على مدار تلك الليلة أوريستيس، المؤلف الشاب، يقرأ على المُسِنِّيْنِ ليفتيريس/يوجينيوس الروايةَ التي كتبها وتناول موضوع حياته. الكتاب الذي يبدأ بقول أحداث أبريل 1909 هو مجرد سرد مغطى في إطار تعاون المؤلف أورستيس و"الحقيقي" ليفتيريس/يوجينيوس تجري أحداثه في يونيو 1979. في هذا الفضاء الروائي يمكن رصد مستويين متميزين: الانطباع الروائي لحياة البطل التي كتبها أوريستيس، والحياة "الحقيقية"، وهذا يعني الظروف الحقيقية لحياة البطل. ونظرا لأدبية هذا العمل، فإن قارئه يتخيل أنه يقرأ كتابا يحتوي على حياة ليفتيريس/يوجينيوس في نفس الوقت كما يفعل البطل نفسه، حين يشهد ردود فعله وتعليقاته. وفي الوقت نفسه، فإنه يشهد أيضًا قلق المؤلف بشأن استقبال الكتب من المستمع الأول لها، الذي سيؤكد له صدق السرد. يستخدم زورغوس هذا الأسلوب الأدبي للتحقيق في رد فعل الحياة والفن ومشكلة تمثيل العالم الحقيقي في عالم الرواية.

تُترك نهاية الرواية مذاقاً متفائلاً لانتصار الحب، رغم مرور الزمن والتغييرات العملاقة فى المجتمع. العنصر الذى يذهب ويأتى في نقاط عديدة، يتعلق بالحب الذى يستطيع أن يتجاوز الحواجز بين الديانات الرسمية، والمحظورات؛ وذلك بواسطة عقد الزواج بين أشخاص ينتمون إلى عقيدة مختلفة، من أجل الطرف الآخر. إن الصدى الذي يرتبط بسرد هذه الرواية هو صدى التعايش السلمي بين الأديان، واحترام الاختلاف فيما بينها، والحوار الصادق بروح التفاهم والسلام.

إن رواية "ليالي قليلة وليلة" -وهو تحوير لعنوان القصص العربية الشهيرة- تقوم بالتقريب بين الشرق والغرب في البيئة النموذجية لمدينة ثسالونيكى في القرن العشرين. نأمل أن تتُرجم قريباً إلى لغات أخرى حتى تنجح فى الإسهام بصورة أفضل في التقارب بين الثقافات.

إيزيدوروس زورغوس مؤلف يوناني.. ولد في ثيسالونيكي في عام 1964، وحصل على بكالوريوس في التربية والتعليم، ويعمل مُدرِّسا في مدرسة ابتدائية في ثيسالونيكي، له إسهامات شعرية ونثرية، فضلا عن كتابات ببليوغرافية نقدية نشرها في مجموعة مختلفة من المجلات والدوريات. كما شارك أيضا في القضايا المتعلقة بتدريس الأدب في المدرسة الابتدائية وتاريخ التعليم.

من أعماله الروائية المنشورة: فراوست (2010م) مقتطفات من كتاب المحيط (2000/2007م) نواة ذلك الصيف (2002/2010م)، في ظل فراشة (2005م)، فطيرة العندليب (2008م)، كلمات لا أهمية لها، وروايته مشاهد من حياة ماتياس ألموسينو (2014م) واحدة من أروع كتاباته. إنها رواية متعددة الأنواع تظهر مهارة استثنائية؛ لأنها تمتد على عوالم العلم، والتاريخ، والفلسفة، والطب، والدين، والفن، واختراع الكتابة، والنمو العاطفي.

------------------------------------

- الكتاب: "ليالي قليلة وليلة".

- المؤلف: إيسيذوروس زورغوس.

- دار النشر: باتاكيس، أثينا، 2017م، باليونانية.

 

* مدرس اللغة والأدب اليوناني في جامعة ثسالونيكي

أخبار ذات صلة