محمد الشيخ
في زمن المخاوف والهواجس من عودة القوميات والهُويات والخصوصيات والأصاليات إلى أوروبا، لا يملك المثقفون الأوروبيون سوى التذكير بماضي الفكرة الأوروبية. وهذا ما فعله بالذات الكتاب جماعي التأليف "فكرة أوروبا في عصر الأنوار"، والصادر في العام 2017 بثلاث لغات، تحت إشراف كاتريونا سيث وروترود فان كوليسا، صدر تباعا بالفرنسية، وبالإنجليزية (مع ضميمة خاصة بالطبعة الإنجليزية)، وبالألمانية.. وهو تأليف جماعي اشترك فيه أساتذة، إلى جانب طلابهم، في تعاون بديع.
في ديباجة الكتاب، تم بسط حيثيات تأليفه؛ فهو يتزامن مع الذكرى الستين لمعاهدة روما (تم إحياؤها في يوم 25 مارس 2017)، والتي -للتذكير- كانت قد أرست دعامة الوحدة الاقتصادية الأوروبية (كانت قد وقعتها ست دول في البدء). وبعد سنين من هذا الحدث تحولت "السوق الأوروبية المشتركة" إلى اتحاد أوروبي يعد اليوم بين أعضائه 28 دولة (27 بعد انسحاب بريطانيا). على أن المشروع الأوروبي أمسى يثير بعض التحفظ والجدل والارتياب. وقد غذت ذلك كله النزعة الشعبوية الداعية إلى عودة الخصوصيات والأصاليات والقوميات، والساعية لتحقيق الخلاص لطائفة من الساكنة تجاوزتها العولمة. وأمام هذا التحدي، أبدى باحثون متخصصون في القرن الثامن عشر الأوروبي -عصر الأنوار- رغبة في العودة للتعابير القديمة عن القيم المشتركة والتساؤلات الأوروبية الماضية التي لا تزال ذات راهنية. ذلك أن طائفة من حملة القلم في القرن الثامن عشر كانت قد تصورت مستقبلا للقارة بغاية التشجيع على إحلال السلم بأوروبا.
والنصوص التي تمَّ تجميعها في هذا الكتاب، وتبادل الأدوار في ترجمتها فيما يكاد يشبه سوقا للترجمة فرنسية-ألمانية-إنجليزية، نصوص ممهورة بأقلام أكبر كتاب ذلك الزمان: لوك (1632-1704)، ومونتسكيو (1689-1755) الذي كان قد سماه رفاعة الطهطاوي في رحلته: "ابن خلدون الغرب"، وهيوم (1711-1776)، وفولتير (1694-1778)، وروسو (1712-1778)، وهردر (1744-1803)، وكانط (1724-1804)، كما هي موقعة أيضا من لدن مفكرين ومفكرات وكتاب وكاتبات منسيين ومنسيات في التاريخ الفكري والسياسي الأوروبي (شارل إريني كاستل دو سان بيير، مكسيمليان دو بيتوم، دييجو دو توريس فيلارويل، لويس أنطوان كاراتشيولي...) كان منهم ملوك كتبوا كتابات سياسية ظلت مجهولة (شأن نابليون). وهي نصوص تستعرض أنظار هؤلاء وأولئك في أوروبا وفي تاريخها وفي تنوعها، لكنها تعرض أيضا لما تشترك فيه الأمم التي تكون أوروبا في تعددها وفي جملتها الجغرافية. فضلا عن أنها نصوص تبرز الأصول التاريخية لفكرة "الاتحاد الأوروبي"، كما تبلورت في متون شأن "مشروع استدامة السلام بأوروبا" (1713) الذي كتبه الكاتب والدبلوماسي والأكاديمي الفرنسي الممهد لحركة التنوير لابي سان بيير (1658-1743)، مقترحا من خلاله طرح حل مبتكر من شأنه التقليل من أثر الرجات العنيفة التي هزت بلده فرنسا والدول المجاورة لها زمن حرب خلافة العرش بإسبانيا. وهو اتحاد يرتئي صاحب المشروع أنه ينبغي أن يقوم على بديل مبتكر لتوازن القوى، كما ضمنه دعوة إلى الشراكة مع تركيا ومع بلدان المغرب العربي لكي يدمجها في الشبكات التجارية بالبدل من إقصائها. ويدافع صاحب المشروع عما يسميه "معاهدة إيالة عليا أو تحكيم أوروبي يجعل كل أعضاء أوروبا جملة متراصة في جسد واحد". وتماما مثلما فعل هذا الرجل، اقتُرحت مشاريع أخرى لتصور مستقبل أوروبا في إطار الوحدة، بعضها حلم صاحبه بحلم عريض طويل لكنه مستحيل، على نحو ما يتبين عليه الأمر اليوم، وبعضها كان أكثر واقعية، وبعضها تجوزت أحلامه التجاوز. لكن ما اشتركت فيه هذه المشاريع هو إرادة التفكير في ما يجعل من أوروبا زركشة بديعة في إطار فرادة فريدة، وفي طرائق تصور مستقبلها، وفي احتفاء هذه المشاريع بتعدد أوروبا، وفي أملها بوحدتها.
هذا مع تقدم العلم أن الحلم بالوحدة الأوروبية حلم استمر يراود حتى كتاب القرن الذي تلا القرن الثامن عشر، شأن حلم الكاتب الفرنسي فيكتور هيجو (1802-1885)، مثلا، الذي كتب يقول: "لسوف يأتي على فرنسا يوم، وعليكم أنتم أيضا معشر الروس، وعليكم معشر الإيطاليين، وعليكم معشر الإنجليز، وعليكم معشر الألمان، كلكم، سيأتي عليكم يوم، يا أمم القارة، من غير ما أن تفقدوا سماتكم المميزة وفرديتكم المجيدة، تؤسسون فيه لوحدة أسمى متراصة، وتستكملون به الأخوة الأوروبية، وذلك مثلما كانت قد فعلت نورمانديا وبريتانيا وبرجونيا واللورين والألزاس، كل أقاليمنا هذه (الفرنسية)، التي انصهرت في بلد واحد موحد (فرنسا)". هو ذا ما كان قد سماه الكاتب "الولايات المتحدة الأوروبية". والرابط عنده الذي يحقق وحدة هذه البلدان إنما هو رابط التقنية: "بفضل من السكة الحديد لن تصير أوروبا قريبا أكثر مما كانت عليه فرنسا في العصر الوسيط. وها هو بفضل من السفن التجارية يتم اليوم عبور المحيط بعبور أيسر مما كان يعبر البحر الأبيض المتوسط في ما تقدم من الزمان ومضى".
وقد باينت الطبعة الإنجليزية من هذا الكتاب كلا من الطبعة الفرنسية -التي تعد بمثابة الطبعة الأصلية- والطبعة الألمانية، وذلك من حيث أنها ذُيلت فيها الديباجة بضميمة ذُكر فيها كيف أن الأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس في شهر يناير من عام 2015 دفعت الجمعية الفرنسية لدراسات القرن الثامن عشر، وقد راعتها الأحداث وجو الريبة والخوف الذي استبد بفئات عريضة من المجتمع، إلى إنشاء متخيرات من نصوص المفكرين التنويريين حول التسامح، وروجت للكتاب الذي ضم هذه المنتقيات من النصوص بثمن زهيد لكي يصل إلى أكبر عدد من الجمهور؛ مما حدا بترجمة الكتاب في حينه إلى اللسان الإنجليزي. وقد تضافرت جهود الطلاب والمشرفين عليهم من مختلف التخصصات بجامعة أوكسفورد لكي يصدر ثمرة هذا الجهد -كتاب التسامح هذا- في الذكرى الأولى للأحداث المومأ إليها سابقا (يناير 2016). وها هي الجهود تتضافر اليوم لإخراج كتاب "فكرة أوروبا في عصر الأنوار" (2017) من لدن فريق من الطلاب والأساتذة المترجمين والمتخصصين في تاريخ وفكر القرن الثامن عشر من مختلف البلدان بمن فيهم عرب وإيطاليون وإسبان وكوريون ويابانيون وصينيون... وذلك لربما بناء على فكرة الكاتب الألماني جوته (1749-1832) الشهيرة: من يعرف لغته وحدها دون سواها لا يعرف حقيقة لغته؛ إذ من شأن معرفة المرء بلغته ألا تتم بحق اللهم إلا من خلال مقارنتها باللغات الأخرى.
وتشير الضميمة الإنجليزية من الكتاب إلى أن الكثير ممن يدرسون اللغات الأجنبية أو يتحدثون بأكثر من لسان إنما شأنهم أن يكونوا من بين أولئك الذين يشعرون بأن المثل الأنوارية الأوروبية ـ شأن مثل "التسامح" و"العقلانية" و"الإيمان بمبدأ الاختلاف"... ـ تبقى صالحة في زماننا هذا؛ وذلك على الرغم من أن هذه المثل لطالما شكلت موضع نقد ومراجعة.
وبداية الكتاب أنشودة.. وهي أنشودة لأوروبا، أنشدها الشاعر الألماني فريدريش شيلر (1759-1805) وحملت العنوان "ترنيمة إلى أوروبا" أو "أنشودة لأوروبا" (1785).
والحال أنه لا توجد في الكتاب -على خلاف ما كانت درجت عليه أغلب الكتب- فصول، وإنما توجد فيه نصوص مرقمة من واحد إلى تسع وسبعين تكاد تتفرق بالتساوي بين أسماء معروفة وأخرى مجهولة. وذلك بدءا من نص نبوئي مبكر، لكنه مغمور، يؤرخ لرغبة الملك هنري الرابع (1553-1610) ملك فرنسا والذي كان في فترة مبكرة (1589) قد أعلن عن رغبته في رؤية أوروبا مسيحية موحدة، حيث يمكن ـ حسب عبارات الملك ـ "تصور نظام سياسي تُتشاطر فيه أوروبا وتُقاد كأنها أسرة واحدة". وقد اعتقد الملك جادا أن لا أحد بمكنته أن يستغرب من الفكرة بسبب مما سوف تحققه من نفع: "وهو النفع الذي من شأنه أن يضمن لهم [= لأمم أوروبا]، فضلا عن السلم الذي لا يقدر بثمن، أن يفوق بكثير التكلفة التي سوف يُحملون على تأديتها حملا". وقد ورد كلام الملك هذا في سياق من النزاعات التي كانت تشهدها أوروبا آنذاك، ولا سيما المشاكل التي نجمت عن مشكلة توريث الملك الإسباني، كما انساق في سياق الرغبة في تهدئة النزاعات الدينية التي اجتاحت أوروبا بعد حركة الإصلاح الديني. وختاما بنص من توقيع فيكتور هيجو يتحدث فيه حديث نبوءة عن الثنائي فرنسا- ألمانيا بحسبانه ضمانة للسلم بأوروبا ودعامة (1845). وما أشبه اليوم بالأمس!
وبين هذين النصين -النص المؤسس والنص المتنبئ- تُعرض على أنظار القارئ نصوص ثرية تدور على أمور عدة تخص فكرة "أوروبا" في عصر الأنوار: منها؛ فكرة مشروع استدامة السلم (لابي سان بيير) الذي أراد أن تصير أوروبا موحدة بتوحد عاهلي أوروبا، بينما أرادها جون جاك روسو -تلميذه وباسط فكرته- وحدة لشعوب أوروبا وليس لعاهليها، ذاهبا إلى أن من شأن أنانية الحكام أن تكون مدعاة للريبة في أمر تحقق حلم الوحدة الأوروبية. أما الفيلسوف الألماني كانط، فقد رأى -في كتيبه: "مقالة فلسفة في مشروع السلام العالمي"- أن السلم في أوروبا ينبغي أن يبنى على مبادئ "الحرية" و"المساواة" و"الأخوة". هذا فضلا عن نص للمؤرخ البريطاني الشهير إدوارد جيبون (1737-1794) حول تجاوز الحدود القومية، حيث يرى أن: "من شأن الإنسان ذي الحمية الوطنية أن يفضل، من غير شك، مصلحة بلده ومجدها، وأن يسعى جاهدا إلى تحقيق ذلك المبتغى، لكن من شأن الفيلسوف أن يوسع من آفاق أنظاره، وأن يعتبر أوروبا كلها وكأنها جمهورية واحدة". فإلى نص فولتير عن غنى أوروبا الذي يكمن -في نظره- في ميراثها الثقافي المتنوع، ونص الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه (1743-1974) حول ضرورة إيجاد القوانين لتحقيق السلم، ونصي مونتيسكيو حول التجارة بأوروبا، وحول نظرة الفرس إلى أوروبا؛ إذ يحكي في كتابه "الرسائل الفارسية" (1721) على لسان زائرين فارسيين لأوروبا -ريكا وأوزبك- كيف اكتشفا تعددية الأنظمة السياسية بأوروبا، وكيف تساءلا عن نظام الحكم الذي يكون مطابقا لمقتضى العقل أكثر من أي نظام آخر، وكيف تحسسا في أوروبا ريح الحرية القادمة من الشمال. فإلى نص الكاتب والناقد والفيلسوف الألماني أوجست فلهلم شليجل (1767-1845) عن دور ألمانيا في الثقافة الأوروبية، ونص أخيه الفيلسوف والناقد والكاتب فريدريش شليغل (1772-1829) عن أوروبا: أفولها وانبعاثها، وكلام فيلسوف التاريخ الألماني هردر عن تنوع أوروبا في وحدتها، وعن السعادة في أوروبا، وحديث الفيلسوف الإسكتلندي دافيد هيوم عن الحضارة الأوروبية وسماتها، فحديث المفكر السياسي الفرنسي بنيامين كونستانس عن نهاية الحروب بأوروبا.
وقد حظي العالم الإسلامي والصلة به لدى الأوروبيين ببضع نصوص وإشارات في الكتاب، وذلك بدءا بنص شارل إريني كاستيل دو سان بيير حول أوروبا والإسلام. وهو نص مقتبس من كتابه الذي أشرنا إليه سابقا -مشروع استدامة السلم- يعكس، لا شك في ذلك، المركزية الأوروبية الناشئة المزدهية بنفسها، حيث يذكر المؤلف أن الحكام المسلمين يختبؤون وراء تعلة المعرفة بالحقائق الباعثة التي من شأنها خلق الفرقة والشقاق لكي يسدلوا على شعوبهم حجابا من الجهل، وأن بمكنة أوروبا أن تقدم إليهم درسا بليغا في التنوير بالمعرفة، حيث يمكن أن يتعلموا منها تربية الشبيبة وتهذيبها بغاية تقدم الفنون والصنائع والمعارف، وأن الكنيسة سوف تربح كثيرا من ذلك؛ لأنه كلما كسب من يسميهم باسم "المحمديين" [=المسلمين] أنوار ابتعدوا عن التعصب للعقيدة واستعدوا لتذوق جمال الدين المسيحي وكماله!
لكنَّ الموازنة بين هذه النصوص الاستعدائية ونصوص أخرى أكثر سلاما تتحقق في نص بليغ لخوسي كادلصو (1741-1782)، وهو شاعر وكاتب مسرحي ورجل عسكر إسباني كتب على غرار "الرسائل الفارسية" لمونتسكيو كتاب "الرسائل المغربية" تخيل فيها زوارا مغاربة يستكشفون إسبانيا ويحكون لبلديهم عما يكتشفون، حيث يكتب، مثلا، رجل إسباني إلى رجل من إفريقيا: "... أعلم أنك إنسان خيِّر وأنك تحيى في إفريقيا... وأنت بدورك تعلم أنني إنسان خيِّر وأنني أحيى في أوروبا. ولا أظن أننا بحاجة كبيرة إلى أن تكون لدينا فكرة طيبة عمن يكون الغير يا ترى. ونحن نقدر بعضنا البعض حتى من غير ما أن نتعارف، وذلك لدرجة أنه ما أن يلقى الواحد منا الآخر بأبسط لقاء حتى يصادقه...". كما يرى الأوروبي أن الإفريقي حتى وإن لم يكن ذا معرفة عريضة، فإنه ذو قلب طيب، وأن ما أحوج الأوروبيين إلى شيوخ أفارقة في الحكمة يعلمونهم ما الذي تعنيه طيبة النفس.
****
لهذا الكتاب مزايا عدة.. ففضلا عن كونه منجما لنصوص نادرة مستلة من أمهات الكتب في ذلك الزمان والتي صارت لفرط عواديه تكاد تكون نسية منسية للقارئ المعاصر، فإنه يشكل أمزوجة من النصوص التي لا توجد فيها عقيدة جامدة، ولا تجمد على رأي اعتباطي في الغير، وذلك على نحو ما تضمنه من منسوب عال من "النسبية الثقافية" الذي أسس لها الفيلسوف الألماني هردر، وهو المنسوب الذي لا يزال يفعل في فكر اليوم. كما أن الكتاب انطوى على "نبوءات" فريدة عجيبة، على نحو نبوءة الملك هنري الرابع ـ ملك فرنسا ـ بما سماه "مجلس عموم لأوروبا" تخيله بوفق بما يكاد يشبه البرلمان الأوروبي اليوم، وعلى نحو ما تخيله لابي دو سان بيير من "وحدة اقتصادية أوروبية" على شاكلة ما هو حاصل اليوم، بل وحتى على نحو ما تصوره شارل دو فيليي من "سوق أوروبية مشتركة" تحققت بعد ذلك بقرنين من الزمن ونيف.
والحال أنه ما نسي جامعو الكتاب مقاومة "ذكورية الفكر"، بحيث أوردوا هم نصوصا عدة لكاتبات أوروبيات من كاتبات وصاحبات صالونات عصر الأنوار الفكرية؛ نظير المربية والكاتبة والصحافية الفرنسية ماري لو برانس دو بومون (1711-1780) الحاثة في كتاباتها على تعليم البنات، والأديبة والكاتبة الفرنسية فرانسواز دو كرافيني (1695-1758) الناقدة في أعمالها للعوائد الأوروبية، والكاتبة الروائية الشهيرة مدام دو ستال (1766- 1817) المنبهة في ما ألفت على الأصول الإيطالية للثقافة الأوروبية.
---------------------------
الكتاب: "The Idea of Europe".
المؤلف: مجموعة مؤلفين.
الناشر: "University of Oxford"، 2017، بالفرنسية، والإنجليزية، والألمانية.
عدد الصفحات: 163 صفحة.
