مصحف فلوغل ومصحف القاهرة: بين التاريخ والمقدَّس

ناصر بن مُحمد الكندي

رُبَّما يتفاجأ الكثيرون أنَّ المصحف المطبوع المتدَاوَل بين أيديهم يعُود أساسُه فقط إلى الربع الأول من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1924م، والمعروف بمصحف الملك فؤاد، الذي تمَّ إصدارُه في القاهرة، إذ لم تَكُن هناك مصاحف مُعتمدة على هذا النحو، على الرغم من بعض المحاولات في نهاية القرن العشرين، بما يُعرف بمصحف المخلّلاتي عام 1890م. ولكنْ قد يندهش البعض أيضًا أن هذا المصحف القاهري لم يكن سبب ظهوره الحاجة إلى إيجاد مصحف مطبوع أو موحَّد، بل كان تصحيحًا لطباعة عربية سابقة للقرآن أنجزها المخلّلاتي، وقبله طباعة قام بها المستشرق الألماني "فلوغل" عام 1834م في مدينة لايبتزج الألمانية، والتي ذاعت في أوروبا لعقود، وفقا لما توصَّل إليه الباحث "إسلام دية" في مقاله -بمجلة "التفاهم"- "طباعة المصحف بين فيلولوجيا الاستشراق وفيلولوجيا علم القراءات: موازنة بين مصحف فلوغل 1834 ومصحف الأزهر 1924".

يقدِّم الباحث إسلام أدية العامل في جامعة برلين الحرة، دراسة مُقارنة بين مصحف فلوغل المنشور عام 1834م، ومصحف القاهرة المنشور عام 1924م، مثيرا عدة أسئلة عن: أسبابه، والسياق الثقافي للطباعة، وأثر هذه السياقات في إخراج الطبعة النهائية للنص، وكيف حصلت طبعة القاهرة على الاعتراف والقبول بين علماء المسلمين وغيرهم من الدارسين في الغرب.

ويُشير الباحث في البداية إلى أن فلوغل يعترف بسبق المستشرق الألماني هنكلمان بطباعة أول مصحف في أوروبا عام 1694م بهامبورج، واعتمد فلوغل على هذه الطبعة وكذلك من خلال العودة إلى مخطوطات قرآنية ورجوعه إلى مفسّرين؛ مثل: الزمخشري، والبيضاوي، وأبي السعود. وقد تعاون فلوغل مع تاوخنتر إذ يُعدُّ الأخير أحد المبتكرين البارزين في مجال الطباعة بذلك الوقت، واعتمد الاثنان على الخطوط العربية للطباعة التي ابتكرها أنتون فون همّر، وقبله المستشرق الألماني جوزيف فون همّر. إلا أنَّ هذه الطبعة لم تنل قبول العديد من المستشرقين؛ وأبرزهم: كارل لورك في كتابه "المرجع في تاريخ الطباعة"؛ إذ يدرج انتقادات المبشّرين الأمريكان على طبعة فلوغل وعدم اعتمادها على الحرف العربي الأمريكي (American Arabic Font)، الذي ابتكره المستشرقون العاملون في سوريا، ناهيك عن رداءة الطبعة. ويعزو الباحث أسباب عدم تعديل طبعة فلوغل على الرغم من شيوعها بين الدارسين في أوروبا إلى وفاة تاوخنتر، وانتهاء العقد، وإنهاء الشراكة لغياب فلوغل في مركز الجامعي في لايبتزج.

أما بشأن مصحف القاهرة، فقد كانت ردَّة فعل على مصحف المخلّلاتي الذي طبع عام 1890م الذي اتَّسم بمحافظته على الرسم العثماني واتباعه لقواعد القراءات، إلا أنَّ رداءة الطبعة الحجرية ووجود عدة أخطاء مطبعية كانت محفزة إلى تشكيل لجنة في جامعة الأزهر عام 1923م ضمَّت عالم القراءات عبدالفتاح القاضي ومحمد علي الحداد وحفني ناصف ومحمد الاسكندري. وقد رُوعِي في إنتاج النص الالتزام بالرسم العثماني بقراءة حفص عن عاصم، وعدّ الآيات والتنقيط وفق كتاب "الطراز على ضبط الخراز" للتسني. وبسبب بعض القصور في هذا العمل، تم تشكيل لجنة أخرى عام 1924م لتصحيح عمل اللجنة الأولى، وكانت النتيجة طبعة حجرية ثانية أصبحت المرجع الأساسي لكل الطبعات خارج مصر؛ ومن أهمها: طبعة مجمع الملك فهد عام 1985م.

وتجدُر الإشارة إلى أنَّ الطبعة المصرية لم تستند في عملها إلى مخطوطات سابقة للقرآن للمقارنة، مثلما فعل سلفهم فلوغل، وغيره من العاملين في طباعة القرآن، بل على علم القراءات الذي يجمع بين العناية بحفظ النص في الصدور وحفظه في السطور.

وفي معرض مناقشة الباحث عن مدى تأثير الطباعة في علم القراءات، وفي الطريقة التي تلا بها المسلمون المصحف بعد الطباعة؟ ينوِّه الباحث إلى أن التأثير كان ضئيلا بسبب شيوع الأمية بين المسلمين في ذلك الوقت، وصلتهم بالقرآن هي صلة سمعية، وربما كان التأثير أكبر في السبعينيات والثمانينيات حين بدأت بعض الدول كالسعودية والمغرب وتركيا بنشره بشكل كبير. كما أنَّ شيوع المصحف كان له أثر عكسي من ناحية قراءته دون الالتزام بقواعده ورسمه وتجويده؛ مما جعل التسجيلات السمعية تنتشر كمحاولة لتغطية هذا النقص من خلال ما يُسمَّى بـ"المصحف المرتل" الذي أشرف عليه الأزهر.

ويبدو أنَّ أول اتصال عربي مع طبعة فلوغل كان من خلال زيارة المستشرق الألماني برجشتسر للقاهرة عام 1929-1930م، ومصادرة طبعة فلوغل في نقاط التفتيش، وإعادتها له من قبل شيخ المقارئ الحدّاد، بعد أن تمَّ تذييلها بالعديد من الملاحظات والتصحيحات؛ أهمها: عدم موافقته للرسم العثماني، واحتواؤه على أخطاء إملائية وأخطاء في عدِّ الآيات، كما صنّف المخطوطات إلى مصحّحة وتفسيرية وأوّلية بسبب الحواشي التي ذُيِّلت من قبل فلوغل على المصحف لغايات تعليمية. وأشار الباحث إلى استقبال العلماء المسلمين الطيّب لطبعة فلوغل دون رفضها من خلال مقال برجشترسر " قراءة القرآن في القاهرة" والمنشور في العام 1932م.

ولا يمكن إنكار جهد فلوغل بعمله الكبير "نجوم الفرقان في أطراف القرآن"، المنشور عام 1842م، والذي يُعدُّ بمثابة فهرس لآيات ومفردات القرآن. ولقد استقبل هذا العمل بترحيب شديد من قبل العلماء المسلمين؛ مما دفع محمد فؤاد عبدالباقي إلى محاكاته في كتابه "المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم" والمنشور في العام 1939م. وقد قام عبدالباقي بتعديل منهج فلوغل في عدِّ الآيات، وكذلك انتقاده له بخلطه بين جذور بعض المفردات. ويذكر عبدالرحمن بدوي في "موسوعة المستشرقين" هذا العمل، مُثنيا على فلوغل إنجازه، ومنتقدا عمل عبدالباقي.

كما أودُّ إضافة أنَّ هناك عملا آخر لفلوغل غير طباعة القرآن وفهرسته ألا وهو تحقيقه وطباعته للعديد من النصوص العربية؛ مثل كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لمؤلفه الحاجي خليفة، وهو من علماء القرن السابع عشر الميلادي، فقد قام فلوغل بتحقيقه وترجمته للاتينية أسفل الكتاب وطباعته ونشره في سبع مجلدات. وقد تناول هذا الكتاب أسماء لخمسة عشر ألف مصنف عربي، ويعلّق بدوي على هذا العمل في "موسوعة المستشرقين" بأنه يدحض الفكرة السائدة بأن الكتب العربية قد تم تدميرها في مكتبة بغداد أيام غزو هولاكو.

ومن خلال هذه القراءة، هُناك مقارنة ضمنية لم يذكرها الباحث ألا وهي مقارنة تأثير طباعة المصحف على المسلمين بطباعة إنجيل لوثر المترجم إلى الألمانية، ونشره في القرن السادس عشر؛ إذ كان الأخير سببا لنشر التعليم ومحو الأمية وإلغاء الوساطة البابوية. بينما لم يكن هذا هو التأثير المباشر لطباعة المصحف القرآني على أتباعه من المسلمين؛ وذلك لغياب المؤسسة الدينية على الطريقة الكاثوليكية، والتي أكّد على عدم وجودها الباحث المتخصص في الميثولوجيا فراس السواح في كتابة "الله والكون والإنسان"، حين ينفي صفة المؤسسة الدينية عن الأزهر، وهذا قد لا يرجح رأي الباحث بأن تأخُّر طباعة المصحف سيُهدِّد العلاقة التقليدية للشيخ بالطالب. إضافة إلى ذلك، تتّسم علاقة المصحف بالمسلمين بكونها علاقة نصيّة وليست فقط شفاهية كما يقول الباحث، فالرسم العثماني للحرف العربي في المصحف له سلطة ونفوذ على المخيّلة الدينية الإسلامية والفنية (أرابيسك)؛ باعتباره صاحب سر وليس فقط أداة لغوية. وربما يفسّر هذا تحفّظ العلماء المسلمين لطباعة فلوغل؛ كونها طباعة بأحرف مستقلة متحركة (غوتنبرغية) بأخطائها الإملائية تنال من الشكل المقدّس المخطوط.

أخبار ذات صلة