فيصل الحضرمي
في مقاله "المعروف والمنكر: الأصول والتطورات والمشكلات المعاصرة" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- يبحث المفكر رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، نشأة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة، وتطورها عبر الحقب المتوالية، وصولاً إلى الأزمنة الحديثة، ثم يدرس بعدها القضايا السياسية المتصلة به في الواقعين العربي والإسلامي.
يستهلُّ الكاتب مقاله باستعراض الأصول الأولى للمفهوم، مورداً الصيغ الثلاث التي وردت بها مفردتا "المعروف" و"المنكر" في القرآن الكريم؛ ففي الصيغة الرئيسة: "الاقتران"، يرد ذكر المفردتين سويًّا في آيات؛ مثل: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة:71)، و"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران:110). وفي الصيغة الثانية، يرد ذكر مفردة "المعروف" دون ذكر مفردة "المنكر"، من قبيل: "فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" (البقرة:231)، أما الصيغة الثالثة ففيها يقتصر الذكر على مفردة "المنكر" دون مفردة "المعروف"؛ مثل: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" (المائدة:79).
وتتسم صيغة الاقتران، والتي هي موضوع مقالة الكاتب، بشموليتها وعموميتها؛ إذ يذكر الكاتب أنها تصبح الإسلام نفسه أحياناً، أو تكون الدعوة التي جاء بها الأنبياء جميعهم، وهي دائماً مقرونة بأل التعريف، أو بكلمة "العهد" لاشتهارها بين الناس كما لو كانت أمراً فطريًّا لا خلاف حوله، أو عرفاً عامًّا مُتفقاً عليه كما يرد في "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني. لكن بينما كان الاتفاق مُنعقداً حول أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ تعريف اللفظتين ظلَّ موضع خلاف في أوساط المفسرين وعلماء الكلام والفقهاء. فمِنهم من قال بأنَّ المعروف هو ما وافق الشريعة، وأن المنكر هو ما خالفها. وارتأى الفقهاء في مُصطلحيْ المعروف والمنكر تعبيراً عن المصالح والمفاسد. أمَّا المتكلمون فقد ذهبوا إلى أنَّ المعروف هو ما حسنَّه الشرع، وأنَّ المنكر هو ما قبَّحه الشرع، بينما أوكل المعتزلة أمرَ التحسين والتقبيح للعقل دون الشرع.
ويرى الكاتب أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنة جاءا في الغالب موجهين إلى الأمة أو جماعة المسلمين لا الأفراد، إلا أن المسلمين عموماً اعتبروه واجباً فرديًّا أيضاً. ولما كانت الخلافة منذ القرن الأول للهجرة قد أصبحت ممثلة الأمة والجماعة، فقد راحت تحد من تدخل الأفراد في مسألتي الأمر والنهي، وقد نجحت في الحد من الجهاد الفردي المتمثل بجهاد الطلب، الذي هو شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكنها لم تستطع منع الأفراد من الحسبة بالداخل، والتي تطورت عن عملية مراقبة الأسواق لضبط سلوك التجار وأصحاب الحرف؛ مما دفعها للالتفاف حول الأمر عبر تحويل الحسبة إلى مؤسسة رقابية تخضع لإدارة السلطات العامة، موظفة لخدمة غرضها هذا حديث المنازل الثلاث المشهور: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان"، والذي يوفق بين حق النهي عن المنكر وحق الخصوصية، وبين الحق وهيبة السلطات، كما يؤكد على وجوب تقصد أخف الضررين.
لكنَّ أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تقتصر على جهاد الطلب ومراقبة الأسواق، وإنما تعدتها لتصبح ذريعة للمعارضة السياسية والخروج والثورة على السلطة القائمة. إذ يورد الكاتب مثالين على ذلك هما الاحتجاجات التي واجهها أمير المؤمنين عثمان بن عفان من قبل وفود مصر والكوفة والبصرة، وكذلك ما وقع بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والمحكمة الذين خرجوا عليه رافعين شعار "الأمر شورى، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والذي سيصبح أصلاَ عقدياً عند الزيدية والمعتزلة فيما بعد.
لم تعتبر السلطات هذه المعارضة السياسية أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، بل عدتها "فتنة" وانشقاقاً في الدين والأمة اللذين تعد وحدتاهما مقصدين احتسابيين تقوم عليهما شرعية الاجتماع الإسلامي. ولم يسر الفقهاء في هذا الاتجاه في بادئ الأمر؛ إذ إنَّهم لم يعتبروا المعارضة السياسية فتنة أو شقاً لوحدتي الأمة والدين، بل اعتبروها مطلباً شرعياً في الأصل، وإن لم تكن أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر لوجود شبهة المصلحة الشخصية. ولكنهم سيوافقون على ربطها بالفتنة بعد ذلك بسبب من خوفهم على وحدتي الدين والأمة، خصوصاً بعد أن نجم عن المعارضة مقتل عثمان وعلي، وما تبع مقتلهما من ظهور الفرق والانشقاقات في الدين.
ويرى الكاتب أنَّ النقاشات الكبرى حول علاقة الإيمان بالعمل وعلاقة الدين بالدولة، قد تراجعت بعد القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي، بفعل سواد فكرة تقسيم العمل وظهور نظام المدارس القائم على الأوقاف، كما بفعل قوة مؤسستي القضاء والحسبة. وسيظل الوضع على هذه الحال إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي/الثالث عشر الهجري؛ حيث ستظهر في الهند الإسلامية فتاوى الهجرة التي تحض الناس على ترك ديارهم بذريعة أنها لم تعد ديار إسلام بسبب استعمار الإنجليز لها. ولم تمثل هذه الفتاوى ظاهرة جديدة؛ إذ إن لها سوابق عديدة في التاريخ الإسلامي، فقد ظهرت في صقلية إبان استعادتها من قبل النورمانديين في القرن الثاني عشر الميلادي، وفي الأندلس فيما بعد. ولم تقتصر هذه الفتاوى على الهند وحدها بل شملت أيضاً الجزائر والسودان وليبيا ودولاً إسلامية أخرى كانت حينها واقعة تحت الاستعمار.
ظلت فتاوى الهجرة شائعة حتى نهاية العقد الثاني من القرن الفائت؛ حيث سيشكل سقوط الخلافة العثمانية منعطفاً حاسماً في مسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ يذهب الكاتب إلى أن سقوط الخلافة كان بالنسبة لذوي الذهنية الدينية مرادفاً لسقوط دار الإسلام وانتفاء الشرعية عن كل مكان، وهو ما دفع بالصحويين الإسلاميين إلى محاولة شغل الفراغ المزعوم عبر تأسيس تنظيمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928، والجماعة الإسلامية في الهند سنة 1941. وقد دعا التنظيمان في كتاباتهما الأولى إلى السعي لإقامة الدولة الإسلامية التي تستعيد الشرعية والخلافة الزائلة، كما لو كان الاستعمار قد ألغى الدين ذاته.
وبحسب الكاتب، فإنَّ الأصوليات الاحتسابية لم تتقدم إلى قلب المشهد إلا بعد أن فقدت الدولة الوطنية، بفعل الفشل الذريع للعسكريات العربية، الشعبية الجارفة التي كانت قد حققتها زمن الكفاح ضد الاستعمار وإرساء أسس الدولة الحديثة في فترة ما بين الحربين. ويلفت الكاتب النظر إلى ثلاث تحولات خطيرة لم يكن لها وجود من قبل؛ وهي: خوف الناس من الدين بعد أن كان خوفاً عليه من قبل الصحويين، والخوف على الدولة الوطنية "الفاشلة والقمعية" بعد أن كان خوفاً منها، وأخيراً خوف العالم من الإسلام وخوف المسلمين من عدوانية العالم.
لكنَّ الكاتب رضوان السيد يبقى متفائلاً بخصوص إمكانية التغيير الذي يراه منقذاً للدين وللمجتمعات المسلمة على حدٍّ سواء؛ فنجده يقترح ضرورة النهوض بإصلاح ديني عميق ينتشل الدين من وهم الاستيلاء على السلطة باسمه، وهو اقتراح يتسم بالعمومية والإبهام فيما يخص الكيفية التي سيمكن بواسطتها تحقيقه. كما يدعو الكاتب النخب الدينية إلى التصدي لعمليات "تحويل المفاهيم" التي تحرف بها الصحويات والأصوليات مفاهيم الجهاد والهجرة والجماعة والشرعية. وأخيراً فإنه يدعو إلى قراءة نقدية للموروثات الدينية والخطابات المعاصرة حولها.
