ملاحظات هابرماس حول مشروع السلام الدائم لكانط

فاطمة بنت ناصر

هذا المقال يعرض ما قاله الفليسوف الألماني هابرماس عن مشروع السلام الدائم الذي طرحه كانط، وتأتي أهمية ما قاله هابرماس من كونه صادرا عن شخص عميق المعرفة بكانط وأطروحاته الفلسفية بل يعده البعض امتداداً لفلسفة كانط، وهو ملخص لمقال محكم نشر بمجلة التفاهم  للأستاذ السيد ولد أباه وهو باحث وأكاديمي من موريتانيا.

نقاط التوافق والاختلاف بين هابرماس وكانط

لا يخفى على المتخصص والقارئ المطلع على كتابات هاذين الفيلسوفين أن يدرك مدى ارتباط هابرماس بكانط. ففي أولى خطواته الفلسفية اقتبس هابرماس مبدأ العمومية publicite  من كانط ووظفه في نصه الذي يتحدث عن التنوير. وعلى الرغم من تأثر هابرماس بكانط وإعجابه بتوجهاته لتجاوز الميتافيزيقيا إلا أنه يختلف معه لتشكيل محكمة تحاكم العقل لتمكين "الاستخدام الشرعي للعقل" وهو يميل إلى نقد الاستخدام التاريخي والاجتماعي للعقل، أما الخندق الكبير الذي يجتمع فيه كانط وهايبرماس فهو ذلك الذي يواجه عدوين يتمثلان في الآتي:

١- نظريا: مواجهة التقليد الميتافيزيقي

٢- عملياً: مواجهة أشكال التعصب بصنفيه الديني والسياسي.

فالتنوير هو المشروع الذي يؤمنان به وفيه يريان كل الحلول والأدوات الصالحة لمواجهة النزعات التفكيكية وما بعد الحداثية الغارقة في الراديكالية الرافضة لمساحات البرهنة والنقاش العمومي.

ملخص عن مشروع كانط حول السلام الدائم

 

تعد رسالة كانط حول السلام الدائم من آخر كتاباته فقد تم نشرها عام ١٧٩٥ وهو كتابه الوحيد أعيد نشره ١٢ مرة في حياته، وموضوعها حول ما يُمكن وما يجب على الإنسان ممارسته في ممارسته العملية للحرية. وفيها يحدد كانط ثلاثة أسئلة يتناولها ويشرحها باستفاضة في محاولة للإجابة عنها لنفهم السؤال الجوهري (ما هو الإنسان؟) وهي:

١- ماذا يمكنني كإنسان أن أعرف؟

٢- ماذا يجب علي أن أفعل؟

٣- ماهو المسموح لي بأن أرجوه؟

هناك القانون الذي يحيط بهذا الإنسان ويقنن تصرفاته. غير أن كانط يرى القانون بصفته "الفعل العادل الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد مع حرية الفرد الآخر حسب قانون كلي، حيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا التعايش"[1]، وهو لا يرى بجدوى القوانين المحلية ولكن يرى في "القانون الكوسموبولتي" حلاً وأملاً لإيجاد السلم الدائم بين كافة الشعوب.

تفاعل هابرماس مع السلام الدائم لكانط

حاول كانط الإجابة عن الأسئلة التي طرحها كانط عبر تبسيطها إلى ثلاثة محاور هي:

١- غاية الفكرة: السلام الدائم

٢- وصف المشكلة القائمة: الصيغة القانونية الفيدرالية بين الشعوب

٣- الحل التاريخي والفلسفي: تحقيق فكرة الدولة الكوسمبولوتية

الحرب تمثل التهديد الأبرز في تحقيق فكرة السلام الدائم إلا أن هذه الحرب تغيرت منذ كتابة كانط لكتابه حيث لم تكن الحرب حينها مجرمة لذاتها ولكن التجريم كان للممارسات التي تقع فيها. أما الزمن المعاصر الذي ينتمي إليه هابرماس فهو يحرم الحرب العدوانية. كما لا ننسى أن آثار الحروب المعاصرة أكثر فتكاً من سابقاتها بسبب تطور التقنيات القتالية. وإن كانت الحروب تغيرت فكذلك هي الشعوب وسلوكيات الدول تغيرت أيضاً وأثرت على سير الأحداث: فزاد حشد النزعات الوطنية التي تسبب أفظع الصراعات، والأنظمة الديموقراطية باتت تستخدم القوة لتفرض أيديولوجياتها، وزادت الهيمنة الرأسمالية والصراعات الاجتماعية المصاحبة لها، وعولمة التجارة التي سلبت الدولة قدرتها على التحكم بالعنف، وسادت وسائل الاتصال والعوالم الافتراضية وأثرت على النقاش العمومي الذي وقف عاجزاً عن السيطرة على العنف والإقصاء. إن هابرماس يؤمن بنجاعة فكرة كانط حول الكوسمبولوتية ولكن مع وجوب مراجعة صياغتها بسبب تغير الظروف العالمية، وقد كان للحرب العالمية الأولى والثانية دور كبير في إعادة نظرية كانط للساحة الدولية وظهور التنظيمات الدولية كرابطة الأمم وهيئة الأمم المتحدة.

إعادة صياغة هابرماس لنظرية السلم الدائم

اشتغل هابرماس في إعادة صياغتها على ثلاثة أصعدة:

أولاً: السيادة الخارجية للدول التي لا يرى هابرماس أنها تستقيم كما تصور كانط عن طريق التحالفات الدولية ووجود السيادة الخاصة بكل دولة. هابرماس يعتقد أن الأجدى هو الجمع بين الروابط الخارجية التعاقدية بين الدول وبين السيادة الداخلية التي تستوجب وجود ضوابط دستورية مشتركة بين كافة الدول. وبالتالي تحترم كافة الدول القانون السيادي الذي تشترك فيه.

ثانيا: السيادة الداخلية. في حين يقول كانط إن الاتحاد الكوسمبولوتي بين الدول يكون على شكل تحالف فيدرالي، فإن هابرماس يعتقد أن هذا التحالف غير كاف، وليكون فاعلاً فإنه يجب أن يكون تحالفاً كوسموبولتياً. وهو بذلك يتفق مع كارل شميت في ضرورة وجود قانون كوسموبوليتي فهو الذي يحقق ترابط البشرية بشكل حر ومتساو. ثالثاً: الهيكلة الجديدة للمجتمع العالمي. تخيل كانط ائتلاف الدول على شكل تحالف بين الدول المسالمة. وما تحقق اليوم هو وجود نظام دولي يجمع كل بلدان العالم على اختلاف توجهاتها السياسية. وقد تسبب ذلك في وجود مجتمع عالمي تتجذر فيه الفوارق التنموية وتسود فيه أنظمة السوق العالمي، ولكن هناك توحد في مجابهة المخاطر المشتركة مثل: الإرهاب، وتجارة السلاح والمخدرات. وهي بذلك تؤسس ما يمكن اعتباره "المجموعة غير الإرادية" المتوحدة ضد المخاطر والمهددات الجماعية.

الدفاع عن فكرة الكوسموبوليتية

ينهي هابرماس قراءته بمواجهة من ينتقدون فكرة الكوسموبوليتية وجدواها في تحقيق السلام العالمي. و أبرز المعارضين لهذه الفكرة الفيلسوف الألماني كارل شميث الذي يرى أن نظرية السلم الدائم الكانطية ليست سوى خديعة التصورات السلمية التي ستفضي في النهاية إلى شن حروب عادلة تحت راية القانون الكوسموبوليتي. وهو بذلك سوف يشعل الحروب وسيتم التدخل فيها تحت ذرائع أخلاقية وسيحول الخصم إلى عدو متجرد من الإنسانية. بينما يؤكد هابرماس أن حقوق الإنسان تنتمي للحقل القانوني وهذا ما يمنحها الصفة الإلزامية. و أن الحروب ستنحسر حين يتم تضمين حقوق الإنسان بداخل النظام القانوني لكل دولة بحيث تكون جزءا لا يتجزأ من كيانها القانوني. في حين يظن شميث أن تجريم الحرب بشكل كلي دون التفريق بين الحرب العدوانية والدفاعية هو السبيل للحد من الحروب. نرى في المقابل أن هابرماس يصر على أن بقاء القانون الكلاسيكي وعدم تغييره وعدم تضمين القانون الكوسموبوليتي فيه سوف يمكن الدول من استخدام العنف متى ما ارتأت ذلك، والحل هو تعويض ذلك بخيار العقوبة والتدخل الذي تفرضه المنظمات الدولية.

خاتمة

إن نظرية كانط في تمكين السلم الدائم بواسطة القانون الكوني الكوسموبوليتي وضرورة تطويرها وإعادة صياغتها كما يرى هابرماس يحمل الكثير من الأمل والوعود البراقة والتي إن تمكنا من تحقيقها فهي بلاشك سوف تحقق السلام الدائم. غير أن الواقع بماضيه وحاضره ينسف إمكانية تحققه. فهل ستتخلى الدول العظمى عن إجابة رغبات السوق وجشعه وجوعه الدائم؛ فهي حتى اليوم وإن كانت ترعى حقوق الإنسان في قوانينها وتحالفاتها إلا أنها تطلق على العالم فك السوق المتوحش الذي يكون في الغالب سبباً في الحروب واستخدمت الذرائع الإنسانية لشنها. كما حدث في العراق مثلاً فحين انجلت الحرب لم نر حقوق الإنسان؛ بل رأينا شركات تتصارع على آبار النفط.

 


[1] Kant :la logique Vrin, 1989 p 25.

9- kant: Métaphysique des mœurs

Flammarion, 1994 t 2 p 17.

أخبار ذات صلة