لأناتولي تيريشينكو
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
برغم ارتباط روسيا العضوي بأوكرانيا، ومع قوة الوشائج الروحية والعرقية التي تلاحم شعبيهما، إلا أن هذا الارتباط نفسه كان ولم يزل سببا في إحداث الشقاق بين الإخوة. فبدل أن يكون ما يجمع بينهما مدعاة للتواد والتراحم، أصبح جرحا يتعمق ويباعد بين البلدين الجارين. وفي الميزان التحليلي لقضية أوكرانيا وروسيا يجد المتابع المدقق أن التوتر القائم بين البلدين مفتوح على جهات خارجية وجدت في الاتصال الطبيعي بين روسيا وأوكرانيا مدخلا للسيطرة على مقدرات البلدين الهائلة والتحكم بها. هذا أمر له جذور في التاريخ الأوروبي وتجاذبات كثيرة في حلبة صراع القوى بين بلدان القارة. فها هو مستشار الامبراطورية الألمانية أوتو فون بسمارك (1815 – 1898) يحرض على تفكيك روسيا والسيطرة عليها من خلال أوكرانيا ومن بين ما قاله في هذا الأمر: "ثمة طريقة واحدة وحسب لتقويض القوة الروسية وهي فصلها عن أوكرانيا (...) من الضروري أن ننتزع منها أوكرانيا، ولكن أيضا أن نشيطن أحدهما على الآخر. ومن أجل تحقيق ذلك يلزم البحث عن العملاء بين النخب ورعايتهم ومن ثم معاونتهم للتأثير على الوعي الجمعي في هذا الجزء من تلك الأمة العظيمة، بحيث يضمر الأوكراني الكراهية لكل شيء روسي، يكره عائلته وقومه الذين يمتون إلى الروس بصلة وذلك من دون أن يدرك ما يفعله، بعدها نترك للوقت إتمام المهمة".
في ظل هذا الوضع المتناقض وعلى ضوء الصراع السياسي والعسكري الراهن في جنوب شرقي أوكرانيا، واستمراره وتفاقمه، تظهر بين الحين والآخر دراسات باللغتين الروسية والأكرانية يعتمد جزء منها على جوانب الخلاف بين البلدين والشعبين، فيرتكز على المسار التاريخي للدولة الأوكرانية المنفصل عن روسيا، وينافح عن استقلال أوكرانيا كدولة ووصفها كأمة موحدة، بينما يؤكد الجزء الآخر من الدراسات على الارتباط الوثيق بين شعبي البلدين ولحمتهما القومية التي لا تتجزأ.
أحد الأعمال ذات الخصوص الصادرة مؤخرا جاءت بقلم العقيد السابق في جهاز أمن الدولة السوفيتية، عضو اتحاد كتاب واتحاد صحفيي موسكو أناتولي تيريشينكو، أوكراني المولد والمنشأ، بل إنه من غرب أوكرانيا الذي تتصاعد فيه حدة المواجهة مع روسيا. أما لحمة كتبه وأفكاره فتنحاز إلى الجانب التاريخي والروحي الذي يجمع بين الشعبين الأوكراني والروسي، فيؤكد أن حبه للشعب الأوكراني البسيط هو ما يدفعه للكتابة والتأليف.
في فصلي الكتاب "روسيا وعاصمتها كييف" و "الأمراء الروس والفتنة" يكرس المؤلف جهده على مسألة تشكل الأوكرانيين كوحدة عرقية مستقلة نشأت ضمن الدولة الروسية القديمة، مثلما هو متعارف عليه عند المؤرخين، ولكنه، بالمقابل، أمر تتجاهله وتنفيه الدولة الأوكرانية الحديثة. وفي فصل "الأصول اللغوية واشتقاق كلمة أوكرانيا" يطرح الكاتب مسألة أولية عن أصل كلمة أوكرانيا، معضدا استنتاجه بالقاموس الشارح الذي وضعه اللغويان بروغهاوس وإفرون في نهاية القرن التاسع عشر ومازال مرجعا علميا يعتد به حتى اليوم. ففي مادة أوكرانيا يقول القاموس: "في نهاية القرن السادس عشر انضم الجنوب الروسي إلى دوقية ليتوانيا الكبرى، وبعدها أصبح جزءا من الكومنولث البولندي الليتواني، وهكذا إلى أن اكتسب هذا الإقليم الروسي الواقع في الأجزاء الأوروبية في القرون الوسطى اسم أوكرانيا (أي الأرض الحدودية أو الضواحي باللغات السلافية) وهي تسمية غير رسمية. وكانت تلك الأراضي تمتد بطول حدود الدولة البولندية، فكما لو أنها واقعة على حافة بولندا. بناء على ذلك جرت تسمية أهالي هذه المناطق بأناس الضواحي أو أناس الحافة، أي الأوكرانيين". ويؤكد المؤلف على أن هذه التسمية إنما صارت بحكم الجغرافيا ولا تقوم على البنية العرقية الواحدة البتة. يقول في هذا الصدد: "أطلقت تسمية الأوكراني على الشعب الذي كان يقطن تلك الأماكن، وهي تسمية تشمل طبقة النبلاء البولنديين واليهود والقوزاق. وبمرور السنين ازداد عدد سكان المنطقة وانسحب اسم أوكرانيا على أماكن خارج الموقع الأصلي (...) وأصبحت البلاد كغطاء خِيط من أقمشة مختلفة الألوان. مع ذلك فقد تنامى الشعور القومي وتعزز الوعي بالهوية الأوكرانية. ومع الوقت بدأت في الظهور أصوات تقطع مع النطاق الجغرافي لصالح التأكيد على الطابع العرقي لتلك المساحة" (ص 51 – 52).
كرس المؤلف جهدا في إيجاد الحجج لتعزيز قناعته في وحدة المجتمع الروسي والأوكراني وتأكيد رؤيته التي تدحض الخطاب الرسمي لساسة أوكرانيا الحديثة عن وجود أمة أوكرانية قديمة تحدثت دائما بلغة خاصة تخصها؛ فالواقع التاريخي – مثلما يؤكد المؤلف مرارا وتكرارا - لا يجيز مثل هذه المقولات. وبحسب المؤلف فالحوليات التاريخية التي دونت على لحاء البتولا لا تحتفظ بنص مكتوب باللغة الاوكرانية، وبأن أحدا لا يعرف بأي لغة تَخاطب الناس شفهيا في كييف القديمة، في حين أن المؤكد أنهم استخدموا اللغة السلافية والروسية القديمة في كتاباتهم. أما اللغة الأوكرانية التي يزعمون أصالتها فإن أقدم أثر لها يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر" (ص 54).
وإذا فالكاتب يؤكد على أن جذور الصراع الحالي في جنوب شرق أوكرانيا تعود تاريخيا إلى التباين بين مناطق البلاد: المنطقة الغربية التي كانت على مدى قرون ضمن مجال الدول الأوروبية المركزية واعتنق سكانها الكاثوليكية تحت وصاية الكنيسة البابوية (اتحاد الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية)، في حين أن سكان الأراضي الشرقية لأوكرانيا الحديثة، ناهيك عن شبه جزيرة القرم، ارتبطوا بحبل وثيق بأرومتهم الروسية وذلك إلى أن ضمت الحكومة البلشفية في العشرينيات من القرن الماضي تلك المنطقة إلى الجمهورية الأوكرانية السوفيتية. وفي هذا السياق يعلق الكاتب بقوله: "في ظروف صعبة قرر زعيم البروليتاريا العالمية (لينين) استرضاء وتهيئة كييف فاقتطع جزءا صغيرا من أراضي روسيا العظيمة، سوية مع هيكله الصناعي المتطور، ومنحه للجمهورية الأوكرانية السوفيتية. وهكذا أصبحت دونباس، الهدية القديمة، سببا لنزاع دموي بعد انقلاب عام 2014. ويشير استمرار الأحداث الدامية في الجنوب الشرقي من أوكرانيا إلى أن هذه المنطقة غالبا ما تنجذب إلى روسيا في محاولة منها لإثبات هويتها العرقية الثقافية، ويكون ملاذها الطبيعي إلى الشرق لا إلى الغرب" (ص 12). ويخلص المؤلف إلى أن الصورة الراهنة تشير بوضوح إلى وجود شعبين في أوكرانيا: الغربي مع تراثه الذي تشكل في ظل إيهام من البابوية البولندية والامبراطورية النمساوية المجرية والشعب الشرقي الذي استمر في هواه الروسي.
يرصد المؤلف في فصول مختلفة من كتابه تاريخ حركات الانفصال الأوكراني عن الجسد الروسي، ويتوقف عند محطات من هذا التاريخ الذي اتسم معظمه باللجوء إلى الخارج لنيل الدعم وتحقيق الحلم المنشود، كالاعتماد على الامبراطورية النمساوية المجرية وعلى البولنديين والألمان ومن ثم الرومانيين. وفقط عند انفراط الاتحاد السوفيتي عام 1991 تحقق المُبتغى بشكل سلمي ومن دون مطالبة بأية تعويضات من قبل روسيا.
ينثر المؤلف في كتابه آراء ومقولات لشخصيات تاريخية شهيرة تحدثت عن العلاقة بين روسيا وأوكرانيا ومصير شعبيهما، والمثير أن جميع تلك الآراء تؤكد على وحدة الثقافة والمصير بين البلدين، فها هما الكاتب الروسي الأوكراني الكبير نيكولاي غوغول والكاتب الأوكراني الذي يرجع إلى غرب أوكرانيا: إيفان فرانكو ها هما يتفقان على تسمية أوكرانيا "روسيا الصغرى" ويعتقدان عميقا بوحدة الشعبين، دما وروحا وعقلا. ولكن الأكثر حصافة ما دونه الكاتب الروسي الكبير فيودر دوستوفيسكي، إذ كان كما لو أنه يلقى بنظرة تنبؤية على ما سيؤول إليه الحال بعد أكثر من قرن عن وفاته؛ ويورد المؤلف مقولة دوستوفيسكي التي يذكر فيها الآتي: "لم يكن لروسيا، ولا في أي وقت مضى، ولن يكون لها أبدا مثل هؤلاء الحاقدين والحسودين والنمامين، بل والأعداء الصريحين من القبائل السلافية. فبمجرد أن ينفصلوا عن روسيا وتعترف أوروبا بسيادتهم سيبدأون حياتهم المستقلة الجديدة على التسول عند أبواب أوروبا وسيطرقون أبواب الإنجليز والألمان من أجل ضمان وحماية حريتهم، وبرغم وجود روسيا في هذا المحفل من القوى الأوروبية، إلا أنهم سيرفعون شعار الحماية من روسيا (...) بعد ذلك بقرن أو أكثر سيرتعشون خوفا على حريتهم من أطماع روسيا التواقة للسيطرة، وسيحاولون كسب الود الأوروبي بشتى الطرق وإن كان ذلك بالافتراء على روسيا وترويج الأكاذيب عنها والتآمر ضدها (ص 341).
وعن العلاقة بين الشعوب السلافية (أي الروس والأوكرانيين والبيلاروس والتشيك والصرب...إلخ) ثمة مخزون وافر من المقولات والتأملات التاريخية العميقة، وربما يأتي الفيلسوف اللاهوتي والسياسي الروسي نيكولاي بيردياييف (1894 – 1948... وهو أوكراني المولد فرنسي المهجر) في مقدمة المحللين اللامعين لهذه العلاقة "الشائكة"، وقد أوفاه مؤلف الكتاب حقه حين استأنس بآرائه في الكثير من فصول الكتاب. وما يميز تفسيرات هذا العالم عدم اكتفاءه بالعوامل السياسية والظروف التاريخية والتدخلات الخارجية في تأجيج الخلافات بين الشعوب السلافية عامة وإنما يتناولها من منظور اجتماعي ونفسي لا يخلو من تعقيد. ومن بين استنتاجات خبير العقلانية السلافية والروح الروسي هذا أن الشعوب المتشابهة، متشابكة الأصول، تبدو أقل قدرة على فهم بعضها البعض وتغذي في داخلها نفورا تجاه بعض. ومن بين أمارات التنافر ما نجده في أصوات اللغة القريبة من لغتنا، فتبدو مزعجة للسمع ونحسبها تشويها للغتنا الأم. مثل هذا يحدث في الحياة الأسرية حيث نرى التجافي والتخندق بين أفرادها، ونراهم يبخلون بالعطف والصفح على أقربائهم بينما يتكرمون به على الغريب.
يرتكز المؤلف في كتابه على الوضع الراهن للدولة الأوكرانية وآفاق مستقبلها، وحسبنا أن نقتطع الفقرات التالية من الكتاب لنقف على النهج التأليفي العام وطبيعة الاستبصار الذي أخذ به الكاتب: "لقد انفصل القطار الأوكراني ووضعه السادة المحليين على طريق مسدود. قاموا بتغيير مقاييس سكة الحديد الأوكرانية بحسب المعايير الأوروبية الغربية وذلك من دون تفكير بالمنتج الذي ستنقله أوكرانيا إلى الغرب على هذه القضبان الجديدة والضيقة؟ أما النتيجة البادية للعيان فهي أن هؤلاء السادة، وبعد أن قطعوا العلاقات الاقتصادية مع روسيا، أصبحوا مفلسين. فبعد أن تسلموا البلاد بشكل سلمي غير مكلف أتوا على موجودات الاقتصاد وخربوها، وخلال ربع قرن من تاريخ أوكرانيا المستقلة، نهبوا الناس ودمروا الاقتصاد، ناهيك عن إطلاقهم حملة دامية ضد العمال البسطاء في المناطق الصناعية في جنوب شرقي أوكرانيا (...) وهكذا، لم تقطع أوكرانيا نصف الطريق إلى الغرب حتى وقعت في الحفرة. أما ثورة الكرامة، كما يسمونها، التي قامت عام 2014 فقد حرمت أوكرانيا من الوعي بماهيتها وجعلت منها دولة مهزومة لم تستطع الوقوف على قدمين حتى اليوم" (ص 17 – 333).
يحذر الكاتب في معرض نقده للحركة القومية الأوكرانية التي أصبحت اليوم طافية على السطح وتسببت في إلحاق الأذى بسكان الجنوب الشرقي لأوكرانيا حيث مارست القتل وتدمير المساكن وتعطيل المنشئآت الصناعية وإرهاق موارد المنطقة بسبب استنزافها الجائر، يحذر من مغبة تضخم المشاعر القومية في المجتمعات وما يتبعه من انبعاث روح التشفي والانتقام فيما بين الأخوة المختلفين. وليس من قبيل المصادفة أن يكرس الكاتب بعضا من فصول كتابه لتاريخ المنظمات النازية في أوكرانيا كمنظمة القوميين الأوكرانيين وجيش المتمردين الأوكرانيين اللذان تعاونا مع الغزاة النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد أخوتهم الروس، فما حدث من قبل يتكرر - برأيه - في حاضر يومنا.
------------------------------------------------------
الكتاب: أوكرانيا! وهل كانت هناك أوكرانيا؟.
المؤلف: أناتولي تيريشينكو.
الناشر: أرغومينتي نيدلي/ موسكو 2017.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 352 صفحات
*أكاديمية ومستعربة روسية
