علي الرواحي
منذ البدء ينبغي الإقرار بأن ترجمة عنوان هذا العمل محاطة بالالتباس والتداخل مع الكثير من المعاني والسياقات والمرجعيات، وبشكل خاص مع مرجعية الفيلسوف الألماني هيجل، ذلك أن هذا العمل يعود من جديد لمناقشة هيجل؛ اذا أخذنا في الحسبان أطروحة الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك التي كانت عن هيجل في العام 2012م، والتي حملت عنوان "أقل من اللاشيء: هيجل في ظلال الجدلية المادية"، يأتي هذا الإقرار من الفيلسوف السلوفيني بشكل مباشر، فهو في مطلع هذا العمل يعود لللأطروحة الهيجلية المركزية "فينومينولوجيا الروح" والتي يضعها هنا كمرجعية في التفكير، والتعبير أيضا؛ ذلك أن هذا المفهوم مشتق منها بالمعنى الحرفي، وبالمعنى الرمزي على حد سواء.
في هذا العمل، يناقش جيجك بواسطة "العيون" الهيجلية ثلاثة مواضيع رئيسة مختلفة: الأنطولوجي: على ضوء الاكتشافات العلمية التي تُظهر بشكل مستمر التناقضات والنقص في تصورات الإنسان عن الكون، والحقيقة، والذات، والمقدس...وغيرها من المواضيع، كما يناقش الجزء الثاني الجانب الجمالي: وعلاقته بالحداثة، والجمال، والقُبح، والجانب الموسيقي من المنظور الهيجلي، في حين أن الجانب الثالث يناقش اللاهوت السياسي ويتطرق للتحولات المختلفة في جوانب السلطة، والعادات، والعلاقات الاجتماعية. وهو في ذلك يُعرّج كعادته على الكثير من المواضيع المتداخلة، والأسماء التي تبدو متباعدة، والتخصصات التي تُعتبر تقليديا بدون روابط، وهنا مكمن قوة وأصالة أطروحات الفيلسوف السلوفيني، "التي لم تبق ِ موضوعا على الأرض لم يكن قمحا لمطحنة جيجك الثقافية" كما قال ذات يوم الناقد الانجليزي الشهير تيري إيجلتون.
اختلافات الحقيقة: الذات.. الموضوع والبقية
في سعيه لتجذير الاختلاف، وتأصيله إلى أعمق مدى من الممكن الوصول إليه، يطرح جيجك ضرورة التعددية في رؤية الوجود (ص:19)، وتسميته، والحديث عنه، كما هو لدى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز؛ وذلك بدءا بالتسمية القائمة على التراتبية الوجودية العلوية الأفقية، واستبدالها بالحديث عن الوجود فقط من خلال البنية الاقتصادية الواقعية التي ترتبط كثيرا بالأيديولوجيا التي تعتبر "الأقل واقعية"، والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية المختلفة كالسينما والرقص والعزف على البيانو...وغيرها من التفاصيل التي تنبع من الحياة، وفي المقابل تمنح الوجود أبعادا مختلفة؛ الأمر الذي يجعل كل الظواهر الحياتية متساوية من حيث المبدأ، فالفرق بين القديم والجديد يبقى معُلقا، وغير واضح المعالم، فنحن نعيش في "خط عام" كما يقول آينشتاين، وهي أيضا -وبشكل أساسي- ضد الرؤية الأرسطية للوجود. بشكل فلسفي عميق نجد هذه الرؤية المتعددة تجاه الوجود، لدى الفيلسوف الهولندي سبينوزا، الذي علّق وبشكل مدهش وجذري البُعد الانطولوجي وذلك في كتابه "الأخلاق"، فالاختلاف أو التعددية هنا لا تُحيل إلى وجود فراغ بين الفضاءات الواقعية، بل تُعيدنا إلى الفاصل بين الشيء واللاشيء. ذلك أن "أ" هنا ليست نقيض "ب"، لكن "أ" أيضا ليست مكتملة. من هنا، نجد أنفسنا أمام اختلاف وجودي لا يمكن ردمه، أو التقليل منه، بل هو جزء أساسي ومكون من مكونات الوجود البشري.
وفي الجانب الإنساني والمتعلق بجانب الحقيقة وعلاقتها بالذات والموضوع (ص:21)، يتطرق جيجك منطلقا في ذلك من رؤية الفيلسوف الألماني هايدغر وما تشهده الطبيعة البشرية للكثير من التحولات والمتغيرات من حقبة ما بعد الإنسان، إلى الإنسان العابر وإلى الإنسان المتوحش، ذلك أن هذه الحضارة العلمية التكنولوجية تؤدي للكثير من المخاطر، والمخاوف غير المتوقعة، غير أنها من الجانب الآخر فإنها تعتبر "طفرة"، وتعُبّر عن إمكانات جديدة غير متوقعة من التفرد، والقوة، والتميز، كما أن هذه الطفرة لا تقتصر فقط على الجانب النظري بل تصل أيضا إلى الجانب العملي والتطبيقي التي تشمل الجانب البيولوجي والجسدي، وإلى حد كبير الجانب العقلي والتشريعي أيضا؛ حيث تتعايش أو تتزامن في هذا الجانب الكثير من وجهات النظر المختلفة، والتي تؤثر على الوضع الثقافي البشري، والهوية الشخصية، متجاهلة بذلك الوضع البشري المتفرد الذي يعيشه الإنسان؛ فالدروس المختلفة التي يتلقاها هذا الكائن، وبشكل خاص من البيئة تتلخص في أنه واحد من الأنواع الحيوانية في الأرض، وبأنه جزء من الطبيعة، كما أنه لا يوجد فرق أو تفاضل بينه وبين مختلف الكائنات في مملكة الحيوان الواسعة. فعن طريق التطورات العلمية المختلفة وبشكل خاص العصبية يكتشف الإنسان الكثير من الحقائق عن نفسه، وعن أعصابه، وإمكاناته المختلفة التي تزعزع الثقة بكماله، ومثاليته من جهة، كما أنها في المقابل تجعل الجسد بكل أعضائه مختبرا لمختلف العلوم والنظريات.
تقودنا هذه التطورات حسب جيجك للحديث عن الذات البشرية في عصر الإنثروبوسين (ص:30) أو عصر التأثيرات البشرية على المناخ والبيئة بشكل مباشر، وكبير، حيث اكتسبت مؤخرا المسألة البيئية والمناخية الكثير من الأهمية، وذلك من خلال البحوث والدارسات المختلفة، والمؤتمرات الدولية التي تقام بين فترة وأخرى على أعلى المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية، والتي تعتبر هنا -حسب جيجك- بمثابة معركة أيديولوجية تسعى للتشويش على الكثير من القضايا الأخرى المهمة، كما أنها تسعى للعودة بالإنسان إلى الطبيعة الأم، وذلك على إثر التصنيع الذي يقوم به الإنسان بشكل متزايد، حيث إن هذه الدعوات ليست جديدة، فهي متوفرة منذ زمن ليس بالطويل، وهو ما يعتبر توقعات لها نصيب كبير من الصحة والواقعية.
وفي القسم الثاني من الجزء الأول (ص:55)، يُلح جيجك على ضرورة العودة للموضوعية والذاتية في مقابل دعوات إعادة السحر للطبيعة، وهو في ذلك يقوم بالرد كعادته بالاستناد للمرجعية الهيجلية ومرجعية المحلل النفسي الشهير جاك لاكان، على الكثير من الأطروحات التي تذهب في الاتجاه المعُاكس للحداثة، والتي ترىبأن العالم لم يكن حداثيا في يوم من الأيام، ذلك أن المقدس بصيغه المختلفة ما زال حاضرا بقوة في الحياة العامة والشخصية للأفراد والجماعات على حد سواء، وربما يتجلى ذلك في جدلية الحضور والغياب التي تتصدر هذا المشهد، ففي الجانب التقليدي من المشهد يطغى الجانب المذكر أو الذكوري على جميع الجوانب، في حين نجد أن الجانب الآخر يشترك فيه الجانب الأنثوي بدون تمييز أو استثناء. وهذا يُجبر جيجك على العودة من جديد للأيديولوجيا ولكنها ليست تلك المنغلقة، بل تلك المنفتحة، والتي تحتمل تعدد الرؤى، والمستويات؛ حيث يعود لمناقشة كتاب "ديمقراطية الأشياء" الصادر عام 2011م للفيلسوف الأمريكي ليفي.ر.براينت، والذي يلخصه وبشكل معمق جدا، بأن الديمقراطية كطريقة تعامل، وأسلوب حياة، تتلخص في العلاقات بين الذوات المتساوية من حيث الأبعاد الوجودية.
وفي القسم الثالث من هذا العمل (ص:89)، يعود جيجك لمناقشة الوعي الذاتي وضد تنميط هيجل، حيث يقوم بالدفاع عن جنون هيجل رافضا ترويضه من خلال العودة لبعض المفاهيم الهيجلية مثل المعرفة المطلقة، وانتشار الوعي الذاتي وتوزعه على الأشياء المحيطة به، وذلك من خلال مناقشة مخطوطة كتاب روبرت براندون "روح الثقة: قراءة دلالية في فينومينولوجيا الروح"، حيث يعود لمفهومين هيجليين أساسيين تناولهما براندون وهما: عدم النفي، والتوسط، وفي ذلك يأخذ لنا مثال لون الكرسي الذي نجلس عليه، فلونه محدد وواضح للجميع، فهو أحيانا أبيض وليس أسود، كما أن التوسط يشير إلى تلك المادة المصنوع منها الكرسي والتي هنا البلاستيك ودورة حياتها والعلاقات المختلفة كالتصنيع، والثقافة المجتمعية التي تُحدد إلى حد كبير هذه المادة. ينطلق من هذه المفاهيم وهذه الأمثلة أيضا إلى مفهومين مهمين؛ هما: الإقصاء والتضمين، ففي المثال السابق -الكرسي- نجد أن التضمين يفضي إلى إقصاء الكثير من الأشياء والصفات المختلفة عن الشيء ذاته، غير أن المسكوت عنه هنا هو أن هذه الأمثلة تجعل المرجعية الذاتية هي الفيصل في ذلك، وهذا يقودنا إلى مفهوم مركزي آخر وهو مفهوم السلب، والذي لا يتحدد بصفات الشيء، بل بما هو ليس فيه، أو بالإقصاء الذي حدث، وهذا يجعلنا نتحدث عن مفهومي الهوية والاختلاف، حيث إن كل هوية يتوسطها الاختلاف، وهي تستمر عن طريق شبكة من الاختلافات؛ الأمر الذي يجعلنا نلتقي من جديد مع هيجل ونخرجه من التنميط المراد له أن يبقى فيه.
التباين الجمالي: القُبح.. الذات.. والاختلاف البسيط
في الجزء الثاني من هذا العمل (ص:143)، يناقش جيجك الفن بعد هيجل أو هيجل بعد نهاية الفن، وهو بذلك يعود لهيجل بوجهة نظر مضادة له، ومعاكسة لاتجاهه، لكنها منبثقة منه ومن رؤيته للفن بشكل عام؛ حيث نجد منذ فترة طويلة قد تم وضع الفن والدين كطريقتين أساسيتين من طرق التعبير البشري عن الوجود، والهموم، وطرق الحياة المختلفة، وكل ما يصاحبها من تساؤلات وجودية لا تنتهي، فالفن حسب تشخيص هيجل الشهير ومع بروز الحداثة وصعودها لم يعد حاجة ملحّة ومهمة للروح البشرية، بالرغم من وجود وإنتاج الكثير من الأعمال الشهيرة والمتميزة من أنواع الفنون المختلفة، بل أصبح العلم هو الذي يحظى بأهمية كبيرة، غير أنه وفي المقابل نجد أن الفن لم يعد منحصرا في الفن الجميل كما يقال، بل نجد ومنذ فترة طويلة أننا أمام تلك الجوانب التي لم يتم التركيز عليها كثيرا كالتحديقة القبيحة، أو تلك الفنون التي انتقلت من الجميل إلى المريع والقبيح، وذلك اعتبارا من أطروحة كارل روزن كرانز عام 1853م بعنوان "في جمالية القبح"، والذي كان يعتبر معارضا لهيجل، لكنه أيضا أول من كتب سيرة رسمية للفيلسوف الألماني، حيث نجد في هذه الأطروحة بأن كارل قد تخلى عن فكرة الحقيقة الواحدة المندمجة مع الجميل والخيّر، فمن الممكن أن نجد في القبح فكرة تتسم بالجمال، أو بتعبير آخر من الممكن أن يسرد لنا القبح قصة جميلة، فهما متلازمان، ولا يمكن لنا معرفة الجميل بدون القبيح، والعكس بالعكس، وهذا يقودنا للحديث عن العلاقة بين الهزلي والجميل والسخيف وكل الأذواق الأخرى الجمالية...وغيرها، كما أنها تقودنا للحديث عن الجوانب غير التصويرية أيضا، فبعض تجليات الفنون أو أشكالها المختلفة ليست تصويرية فقط، بل تتخذ جوانب أخرى. وفي مقابل ذلك، نجد أن هناك جانبا آخر من الجوانب البشرية والإنسانية التي لا يمكن تجاهلها أو تناسيها، وهو الجانب القبيح، والمخيف، والمقزز، لكأننا أمام نسخة أخرى من الطبيعة البشرية والتي تعتبر مغايرة تماما للجانب الجمالي، والجليل والرائع للإنسان، حيث تتجلى هذه الجوانب في تلك الهفوات والأخطاء والتفسخ والتقيؤ وغيرها من التصرفات والسلوكيات البشرية الإرادية وغير ذلك.
وفي كل الأحوال، نجد أن الإنسان باستطاعته التنصل أو إنكار الكثير من الأفعال والتصرفات التي يقوم بها وبشكل خاص الأفعال القبيحة والمخيفة (ص:171)، فهناك الكثير من الطرق المختلفة كعدم الاكتراث، أو الالتفاف حولها، أو خلق بدائل جميلة بمثابة تعويض لهذا القبح، كما هي الحال في الكثير من المفاهيم والموسيقى والرقص واللوحات والحب...وغيرها، وهذا لا يحدث بشكل كبير دون اجتياز الذات أو تجاوز الكثير من العقبات والكوابح التي تقف عائقا أمام ذلك، بما فيها العوائق الذاتية والموضوعية على حد سواء، وتنقية الذات من الكثير من الصفات كالدناءة والخسة وغيرها.
التباين في الخير: محنة النساء.. السلطة.. والصداقة
يناقش جيجك في الفصل الثالث والأخير (ص:233) من هذا العمل مسائل متنوعة سياسية، وفلسفية، على قدر كبير من التنوع والاختلاف، ففي البداية يتحدث عن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، مُبديا رأيه حول الدعوات الأخيرة؛ وذلك بعد صدور الجزء الأول من "المذكرات السوداء" في العام 2014م، ذلك أن الكثير من الدعوات والتي جاءت من الأحزاب اليمينية واليسارية على حد سواء، والتي تذهب بضرورة التعامل معه بوصفه مجرما ومتعاونا مع النازية، غير أنه في حقيقة الأمر فإن هايدغر كان مخدوعا إلى حد كبير، حيث تشير هذه المذكرات إلى وجود شك وعدم اطمئنان من قبل الفيلسوف تجاه النظام الألماني في تلك الفترة، وبشكل خاص مع ذلك التمجيد الكبير الذي بدوره يغرس الفخر الكبير بالذات والتاريخ مما ينعكس على رؤية الأفراد تجاه الآخرين، وتجاه ذواتهم أيضا.
يُثير النقاش حول فيلسوف الغابة السوداء الكثير من الخطوط العريضة والدقيقة المختلفة، منها علاقة الفلاسفة بالسياسة من جهة، وعلاقتهم بالأوطان من الجهة الأخرى، وإلى أي حد من الممكن للفيلسوف أن يكون لا وطنيا، أو خارج كل الانتماءات؟ والمقصود هنا الانتماءات غير الإنسانية الواسعة، تلك التي تُمجد تاريخا معينا، وعِرقا محددا، على حساب الأعراق والتواريخ الأخرى، أو كيف من الضروري أن يكون الفيلسوف واعيا، ومنتبها للكثير من ألاعيب السياسة العرضية واللحظية، والتي تهدف في المقام الأول للانتصار للذات وتجييش الجماهير، واللعب على الكثير من الأوتار المختلفة كالرهاب من الأجانب أو الخوف على مكتسبات الوطن، أو وجود عرِق متفوق على بقية الأعراق الأخرى. ذلك أنه في الكثير من الحالات يكون الخط السياسي الذي يعتنقه الفيلسوف بمثابة ترويج لهذا النظام دون ذاك في فترة زمنية محددة، فالسلطة الفكرية التي يتمتع بها، وتلك القادرة على إقناع الكثير من المتابعين والقُراء كفيلة بأن تجعل هذا الخط مقبولا لدى الكثيرين وربما محل جذب لدى الكثير من الأشخاص. غير أنه في المقابل، نجد أن الفيلسوف ليس بتلك المثالية المعُلقة خارج ضغوطات الحياة وإكراهات السلطة وإغراءاتها المختلفة، فبسبب هذه القوة الفكرية التي يتمتع بها، والصوت الناقد للكثير من الأشياء التي تدور من حوله، نجد أنه عُرضة للكثير من الضغوطات التي تأتي من مصادر مختلفة، وليس من مصدر سلطوي واحد، فالجميع -تقريبا- يطمع في جعل هذا الفيلسوف مناصرا لهذا الاتجاه دون ذاك، ذلك أن هذه المناصرة تعتبر دليلا من أدلة صحة المعتقد، ومتانته، وضرورة اتباعه من قبل الآخرين، وهذا ينطبق على الكثير من الشخصيات على مرِّ التاريخ المعُاصر والقديم، غير أننا نجد في الكثير من الحالات أن الفيلسوف يمتلك رؤية مغايرة للجميع، ليست كبقية الرؤى المنتشرة في سياق معين، وهو ما يضع الفيلسوف في كفة مغايرة للجميع.
في مديح اليأس
وفي خاتمة هذا العمل المتنوع إلى حد كبير من حيث الأفكار والمواضيع وطرق المعالجة وأساليب الرؤية والمرجعيات الفلسفية المختلفة (هيجل، هايدغر...وغيرهما) والتحليل النفسي اللاكاني (نسبة إلى المحلل الفرنسي الشهير جاك لاكان)، وتلك الرؤية تجاه مستقبل الإنسان في ظل التكنولوجيا التي تتطور يوما بعد يوم، والتي عن طريقها نجد أنفسنا أمام الإنسان العابر والمتوحش الذي يمتلك من القوة والذكاء ما يتفوق به على أقرانه من البشر الطبيعيين، الذين لا يمتلكون هذه الإمكانيات الفائقة، نجد أنفسنا أمام اختلاف زمني حاد، فائق القوة والإمكانيات، غير أن القبول بهذا الاختلاف وهذه البدائل، يتطلب القبول أيضا -وبقدر مواز لذلك- بالعواقب والنتائج المختلفة، والتفكير فيها من وجهة نظر مختلفة أيضا، لا تشبه الأدوات الزمنية السابقة. فاليأس هنا (ص:367) هو القوة المحركة والباعثة على التفكير كما يقتبس جيجك من الفيلسوف الإيطالي إجامبن في مستهل حديثه، لأن هذا اليأس يجعل الضوء في آخر النفق مجهولا إلى حد كبير، فالشجاعة الحقيقية ليست تخيل البدائل فقط، بل القبول بها، أو الاعتراف بأن التمييز بين البدائل لم يعد واضحا بما فيه الكفاية كما هي الحال في الفترات الزمنية السابقة، كما أن هذه الشجاعة قد تكون تمهيدا لرؤية قطار عابر من الممكن أن يدلنا على حلول مختلفة أخرى، فالحلول والبدائل ليست بالضرورة محصورة في مكان واحد، أو تأتي من سياق واحد، بل من الممكن أن نجدها ممتزجة في النقائض، والاختلاف، والتباين، كما هي الحال في الأمثلة السابقة المعروضة في هذا العمل؛ فالأحادية كما هي الحال في تسمية الوجود ورؤيته والنظر إليه، لم تعد ممكنة ومجدية في ظل هذه التعددية التي تجعل العالم يمتلئ بوجهات النظر التي ليست بالضرورة تمتلك المقدار ذاته من القوة والصلابة والحضور، ففي بعض وجهات النظر الغائبة، والمخفية، الكثير من الصحة والإمكانات الواعدة، التي تطرح الكثير من الحلول.
------------------------
- الكتاب: "التباين".
- المؤلف: سلافوي جيجك.
- الناشر: (BLOOMSBURY ACADMIC)، 2017م، بالإنجليزية.
- عدد الصفحات: 442 صفحة.
