"السلفية بمواجهة الديمقراطية؟".. لديرك فيرهوفستات

51PlNPG+riL.jpg

عبدالرحمن السليمان *

لا تزال هجماتُ الحادي عشر من سبتمبر، والأحداثُ التي تلتها؛ مرورًا بظهور تنظيم داعش وانتهاء بالهجمات الإرهابية التي يشنها أنصار تنظيم داعش في العواصم والمدن الغربية، تثير في الغرب تساؤلات حول الإسلام وعلاقة بعض التعاليم الإسلامية -كما يروج لها في بعض مواقع الشبكة العنكبية- بالتطرف المؤدي إلى الإرهاب. طرحت هذه التساؤلات، ولا تزال تطرح في العديد من مراكز البحث الإستراتيجية والمؤسسات والمعاهد العلمية والجامعات وكذلك في الصحافة. منذ ذلك الوقت، تصدر الكتب والدراسات التي تعالج موضوع النزاعات القومية والطائفية في العالم العربي والإسلامي، وكذلك ظاهرة التطرف لدى بعض الشبان المسلمين الذين نشأوا وترعرعوا في الغرب، تباعًا. من هذه الكتب التي صدرت أخيرًا كتاب "السفلية بمواجهة الديمقراطية" لمؤلفه البلجيكي ديرك فيرهوفستات. يطرح هذا الكتاب بعض القضايا الشائكة على الرأي العام البلجيكي، وهي القضايا التي باتت تلح بنفسها على المواطنين في الغرب عمومًا، والمسلمين منهم خصوصًا.

تنبع أهمية هذا الكتاب من كون الكاتب واحدًا من أهم المفكرين الليبراليين في الأراضي المنخفضة، وأستاذًا جامعيًّا له حضور قوي في الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي في بلجيكا. فهو أخو السياسي الليبرالي البلجيكي المعروف غي فيرهوفستات الذي شغل منصب رئيس وزراء بلجيكا من 1999 إلى 2008 في ثلاث حكومات متتالية، والذي يرأس حاليًا كتلة "اتحاد الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا" في البرلمان الأوروبي، وواحد من مفكري الحزب الليبرالي البلجيكي الذين يدعون إلى تحقيق أهداف المذهب الليبرالي في السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين. وهو من المثقفين الحركيين الذين يكافحون في سبيل إخراج الدين ورموزه الشكلية من المجتمع والحياة العامة. بذلك يكون الكتاب وثيقة تختصر الكثير من الكتب والدراسات التي كتبت في العلاقة الشائكة بين الغرب والإسلام السياسي على وجه الخصوص.

يبحث الكاتب في كتابه العلاقة بين ما أصبح يُدعى بالإسلام الراديكالي، والديمقراطية الغربية. ويركز في طرحه كثيرًا على المؤسسات والجمعيات السلفية من جهة، وعلى الأعمال الإرهابية التي تنفذ باسم تلك المؤسسات والجمعيات السلفية من جهة أخرى. ثم يطرح السؤال التالي: "هل تمثل السلفية تهديدًا لديمقراطيتنا، وكيف يمكن لنا أن ندافع عن أنفسنا ضمن حدود دولة القانون"؟ يمثل هذا السؤال الأطروحة العامة للكتاب، ويحاول الكاتب الإجابة عنه بوضوح يتمثل في دعوته إلى سحب الترخيص القانوني من الجمعيات ذات التوجه الراديكالي التي تريد تقويض أسس الديمقراطيات الغربية، ومنعها من مزاولة أي نشاط في بلجيكا. كما يدعو إلى إعادة النظر في فكرة التسامح ويعتبر التحلي به مع جمعيات إسلامية سلفية التوجه في الغرب "يرفض أعضاؤها طريقة الحياة الغربية" ويدعون إلى تغييرها بالعنف، ضربًا من السذاجة. ثم يختم الكاتب دعوته بِحَثِّ المجتمع المدني على الدفاع عن القيم الديمقراطية المكتسبة المتمثلة في حرية التعبير عن الرأي والفصل بين الدين والدولة والمساواة بين الرجل والمرأة والحق في تقرير المصير الشخصي.

وبهذا، فإن الكتاب يندرج تحت تلك الكتب والدراسات الكثيرة التي أصبحت تنظر بعين الريبة إلى الإسلام والمسلمين في الغرب نتيجة للهجمات الإرهابية التي وقعت في الغرب منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتى عملية برشلونة في إسبانيا، وعملية مدينة تركو في فنلندا في أغسطس 2017، وذهب ضحيتها مواطنون أبرياء كثيرون. وإذا كان أكثر تلك الكتابات يندرج تحت التعميم الظالم وتهييج الرأي العام ضد المسلمين في الغرب الذين يقدر عددهم بحوالي ستين مليونًا، فإن هذا الكتاب يحاول بوضوح التأثير في القرار السياسي وجعله يعيد النظر في التراخيص الممنوحة لمؤسسات محسوبة على التيار السلفي، وفي مقدمتها مسجد بروكسيل الكبير الذي تديره رابطة العالم الإسلامي، وتحويل ملكيته والقيمومة عليه وإدارة أنشطته إلى المجلس الإسلامي البلجيكي المتكون من مسلمين بلجيكيين ينتخبهم المسلمون البلجيكيون ليمثلوهم لدى الحكومة وليرعوا مصالحهم في تعليم مادة التربية الإسلامية وإدارة المساجد والمقابر الإسلامية. كما يحاول أن يكون موضوعيًا في طرحه الذي يميزه عن غيره الوضوحُ في الرؤية والتعبير عنها معًا.

يقسم الكاتب كتابه إلى أربعة عشر فصلاً يستهلها بالقول: "إن الجيل الأوروبي الحالي هو أول جيل أوروبي في التاريخ نشأ وترعرع بدون أن يعرف ويلات الحروب". فهذا الجيل يعيش منذ الحرب العالمية الثانية "في مجتمعات ديمقراطية تعترف بحقوق المواطنين وحرياتهم وتدافع عنها". ثم يسرد الكاتب تلك الحريات؛ وأهمها: "حرية التعبير عن الرأي وحرية تقرير المصير وحرية التنقل بحرية داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه وحق التصويت وانتخاب الحكام وانتقاد سياساتهم وحرية اختيار الزوج والصديق والحزب السياسي والتجمعات، وحرية الملبس والمأكل، وحرية التقاضي واللجوء إلى القضاء لفض النزاعات بطريقة نزيهة"...الخ. وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات الديمقراطية تبدو أمرًا بديهيا للنشء والشباب، فإنها لم تنشأ هكذا من تلقاء نفسها، "فلقد خاض آباؤنا وأجدادنا حروبًا عالمية شرسة من أجلها وضحوا في سبيل تمتع الأجيال اللاحقة بها بأرواحهم". ويضيف الكاتب بأن التمتع بهذه الحريات والحقوق لم يأت نتيجة للحروب والتضحيات فحسب، بل وكذلك "بعد التخلص شياطين الماضي المتمثلة في التيارات القومية والفاشية والشيوعية" التي أصبحت من الماضي؛ "وبعدما جمعت هذه القيم الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948"، وكذلك "في المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية سنة 1950". ويضيف الكاتب بأن الدساتير الغربية أصبحت تعترف بهذه القيم وتنص على احترامها بصريح العبارة. ثم يتوقف عند النظام الديمقراطي الغربي ويستشهد بالفيلسوف الفرنسي ألان فينكيلكرو بأن "طاقة الديمقراطية الكبيرة تكمن في كونها أفضل من كل أنظمة تعايش الإنسان الأخرى لأنها -أي الديمقراطية- نصَّت على ترسيم حق الاختلاف ودسترته في وظيفتها الأساسية". وهذا يعني أن الديمقراطية تعترف دستوريًا بحق الاختلاف الضامر في المجتمع ووجود الخلاف غير القابل للحل، وتتعايش معه بطريقة عقلانية. بل "إنها تحيا من حق الاختلاف لأنه مصدر طاقتها وتجدُّدها" كما يقول الكاتب، "ذلك أن نزعة الخلاف أو الاختلاف الضامرة في المجتمع لا يمكن لها أن تُزال منه" من جهة، "ولا أن تسيطر عليه" من جهة أخرى. إنه هذا الاختلاف الديمقراطي وهذا التدافع المستمر بين القوى من أجل ملء "المكان الفارغ" للقوة الذي لا يستطيع أيُّ شخص أو أيةُ مؤسسة أن يملأه لوحده وأن يسيطر عليه، هما اللذان يفسران لنا إغراء المستبدين الساعين إلى ملء ذلك "المكان الفارغ" والاستيلاء على القوة. من ثمة كانت الانتخابات الحل الأمثل للتعامل مع نزعة الاختلاف والتدافع هذه، "لأن خيارات المواطنين الانتخابية هي نتيجة لقناعاتهم الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفلسفية". وفي هذا السياق، فإن تغيير دفة الدفع داخل المجتمع ممكن دائمًا لأنه يبقى ضمن دولة القانون وضمن الحدود المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي الدساتير الوطنية.

ثم يسقط الكاتب هذا الكلام على العلاقة بين الديمقراطية وحرية التدين "مع التركيز فقط على الحركات الإسلامية المتطرفة والهجمات الإرهابية التي تشن باسمها أو نتيجة لفكرها"، ويحاول أن ينظر إليها من منظوره الذي أطَّر له في أكثر من فصل واحد من الكتاب. ويستحضر المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على حرية التفكير والضمير والدين ويقرر بأن الإنسان حر في اعتقاد ما يراه مناسبًا له وتطبيق شعائر دينه وطقوس معتقده كما يحب. ثم يستدرك: "مع ذلك فإن حرية التدين تتعارض أحيانًا مع حقوق الإنسان"، ويمثل على ذلك بأتباع الفرقة النصرانية "شُهود يَهوَه" الذين يحرمون على أنفسه ضخ دم جديد في جسم مريض بفقر الدم أو غيره يحتاج إليه من أجل البقاء على قيد الحياة، وذلك التزامًا بالآية الواردة في الإنجيل (أعمال الرسل، 15:29): "أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ الدَّمِ، وَالْمَخْنُوقِ، وَالزِّنَا، الَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ". فشهود يهوه يعتبرون أن الدم في هذه الآية يشمل حتى الدم المتبرع به لإنقاذ حياة إنسان، ويفضلون -والحالة هذه- تركه يموت على ضخ دم جديد في عروقه. ثم يعرض الكاتب لما يعتبره علاقة شائكة بين الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جعل سبعًا وخمسين دولة إسلامية تعتمد سنة 1990 إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام، تتمثل في إشكالية النظرة إلى المرتدين عن الإسلام التي يعتبرها الكاتب متعارضة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فهو يرى أن هذا الإعلان العالمي ينص على حرية التدين، وأن بعض المعتقدات الدينية للديانات المختلفة -ومنها الإسلام- تتعارض مع حق تقرير المصير المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضًا، مما يضيف إلى الديمقراطيات القائمة نزعة اختلاف جديدة تضاف إلى نزعات الاختلاف الأخرى الضامرة في المجتمع.

ثم يخصص الكاتب عدة فصول لمناقشة السلفية؛ أهمها: "أساس السلفية" و"أنواع السلفية". فيعرض في الفصل الأول إلى تاريخ الدعوة السلفية في الحجاز ويتوقف عند دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1703-1792) إلى الاقتداء بالسلف مع التركيز على أعمال الشيخ ابن تيمية (1263-1328) وأعمال الإمام أحمد بن حنبل (780-855) دون غيرهما من علماء الإسلام. ثم يتوقف عند المصطلح "سلفية" تمهيدا للتمييز بين المذاهب المختلفة فيها. ويرى أن السلفية بشكل عام تيار إسلامي محافظ جدًا مؤسس على عقيدة الولاء والبراء التي تدعو إلى الفصل بين المسلم وغير المسلم في مجتمع متعدد الديانات والأعراق والثقافات، و"إلى البراء من ذوي الأفكار المغايرة من المسلمين كالصوفيين والشيعة"، مما يؤدي إلى الاحتقان في المجتمع وربما الصدام. ويرى الكاتب أن أخطر طرح للسلفيين في الغرب هو "رفضهم للديمقراطية التي تضع القوانين الوضعية فوق الشريعة"، لذلك يرفض السلفيون في الغرب "مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ومبدأ فصل الدين عن الدولة، ومبدأ حرية التعبير ومبدأ حرية تقرير المصير الخ". ولكن: هل هذا كافٍ لمنع السلفية في الغرب؟ "بالطبع لا"، يقول الكاتب، ويضيف بأنه لا يمكن إقصاء السلفية "ما دام السلفيون يعبرون عن آرائهم هذه بطريقة لا تضر بالمجتمع الديمقراطي". ويرى الكاتب في هذه الحالة أن السلفيين "لا يختلفون عن أتباع الديانات الأخرى الذين يجهرون بمعتقداتهم (مهما كانت غريبة) ويدافعون عنها"، في إشارة ضمنية إلى مواقف اليهود المتشددين وبعض الفرق النصرانية الأصولية كالطائفة الإنجيلية وشهود يهوه من قضايا اجتماعية وفكرية وفلسفية كثيرة لا تختلف في جوهرها شيئًا عن مواقف السلفيين. ويقرر الكاتب أنه يجب على المجتمع الديمقراطي التسامح إزاء الأفكار الدينية المحافظة مهما بدت غريبة ومرفوضة؛ فالمنع غير وارد ما دام الأمن والنظام العالم للدولة لا يتأثران بتلك الأفكار. واستطرادًا في هذا السياق ينتقل الكاتب إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من السلفية، معتمدًا في ذلك على تقارير لمؤسسات سياسية وأمنية؛ هي:

(1) "السلفية غير السياسية التي تركز -عبر الوعظ- على التدين الشخصي والالتزام بالمنهج السلفي". يدين أصحاب هذا التيار استعمال العنف في الدعوة.

(2) "السلفية السياسية التي تسعى -عبر الوعظ- إلى تحقيق حضور أقوى للتعاليم الإسلامية في المجتمع".

(3) "السلفية الجهادية التي تسعى إلى تحقيق أهدافها باستعمال العنف"

ويضيف الكاتب بأن السلفية الجهادية تمارس الوعظ أيضًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي لاستقطاب الشباب إلى إيديولوجيتهم التي تعتبرها الأجهزة الأمنية "مرادفًا للإرهاب الإسلامي الحالي"؛ وذلك من أجل تجنيدهم للذهاب والقتال في بؤر النزاع في في العالم الإسلامي التي تشهد توترًا طائفياً غير مسبوق خصوصًا في سوريا والعراق واليمن، أو من أجل شن هجمات إرهابية خارج الأماكن التي يوجد فيها تنظيم داعش، خصوصًا في الغرب. ذلك أن انتشار أفكار السلفية الجهادية بين بعض الشباب المسلم في الغرب إنما هو نتيجة للدعاية التي يروج لها تنظيم داعش في وسائل إعلامه. أهم هذه الأفكار: تنظيم الحياة الإنسانية في الغرب بناء حد مؤسس على عقيدة الولاء والبراء يفصل بين المسلم وغير المسلم في مجتمع متعدد الديانات والأعراق والثقافات، وإشعال فتيل الصدام بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات التي يوجدون فيها. في هذا السياق، يدعو لكاتب إلى سحب التراخيص من الجمعيات التابعة لـ"السلفية السياسية" و"السلفية الجهادية" التي تبرر استعمال العنف ضد جميع من يختلف أتباعُها معهم، سواء كانوا من أتباع المذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى، أو من غير المسلمين.

ثم يركز الكاتب على ثلاثة نتائج؛ ضمَّنها فصولاً كثيرة في كتابه؛ هي:

(1) ضرورة التحلي بالتسامح تجاه التعددية في الآراء السياسية والاجتماعية "بشرط ألا تشكل هذه الآراء تهديدًا للديمقراطية".

(2) ضرورة الدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطنين "بغض النظر عن الأحزاب التي تحكم البلاد".

(3) ضرورة الحيلولة دون ملء حزب ما "المكان الفارغ" للقوة واستيلائه عليه، وإنهاء نزعة الاختلاف الضامرة في المجتمع؛ "وبالتالي القضاء على الديمقراطية ذاتها".

ويستنتج الكاتب بالقول: "إن عدم احترام هذه النتائج الثلاث يؤدي بطريقة تلقائية إلى الاستبداد". ويلمح الكاتب بذلك إلى القول بطريقة تصل إلى حد التصريح بأن الحركة السلفية عمومًا والحركة الجهادية السفلية خصوصًا إنما هي ذلك الحزب الذي يحاول ملء "المكان الفارغ" للقوة والاستيلاء عليه وإنهاء حق الاختلاف الضامرة في المجتمع والقضاء بالتالي على الديمقراطية ذاتها، ويدعو إلى ضرورة التصدي لها ضمن حدود دولة القانون للحفاظ على الديمقراطية أولاً، ثم على الحقوق والحريات المكتسبة للمواطنين في أوروبا وسائر دول الغرب ثانيًا.

لا يختلف الكتاب كثيرًا عن سلسلة الكتب والدراسات الكثيرة التي تصدر تباعًا حول قضية التطرف الإسلامي الذي أنتج القاعدة وداعش وأخواتهما. لكنه يتميز عن أكثرها بمنهج علمي واضح ولغة واضحة وصريحة لا تنقصها الموضوعية العلمية بقدر ما ينقصها إخفاق الكاتب في إخفاء استيائه من الدين والتدين عمومًا، والإسلام خصوصًا. فالكاتب عَلماني ليبرالي ينتمي إلى المدرسة العلمانية الفرنسية الملتزمة، ذلك أن العَلمانية في الغرب علمانيتان: واحدة بمثابة تيار مدني إنسني عام يدعو إلى التحرر من هيمنة الدين دون إلغائه (يسميها المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري: "العلمانية الجزئية")، نجدها في كل دول الغرب بدرجات متفاوتة، خصوصًا في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وأخرى بمثابة إيديولوجية سياسية حركية كفاحية (يسميها المسيري: "العَلْمانية الشاملة")، نجدها في فرنسا والبرتغال فقط. ففرنسا والبرتغال هما الدولتان الوحيدتان تقريبًا اللتان تُطبَّق العلمانية فيهما تطبيقًا شموليًا يهدف إلى إلغاء دور الدين كليًا من المجتمع. والكاتب ينتمي إلى هذا التيار العلماني الكفاحي الذي يرى -مثله في ذلك مثل الكنيسة الكاثوليكية- أن وجود المسلمين في الغرب أعاد إلى التدين اعتباره. وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية -أكبر كنائس النصرانية- تعتبر هذا التطور إيجابيًا لأنه يجعل الكاثوليكيين يعيدون النظر في تدينهم ويحدون هويتهم الدينية من جديد بالمقارنة مع جيرانهم المسلمين الذين أصبحوا يلتقون معهم في مواقف معينة مثل موقفهم من الإجهاض والموت الرحيم وزواج المثليين وما أشبه ذلك من قضايا لا تختلف مواقف النصارى واليهود والمسلمين بشأنها، فإن العلمانيين أتباع "العَلْمانية الشاملة" مستاؤون جدًا من هذا التطور. والكاتب لا يخفي امتعاضه من ذلك في كتابه، فهو يقرر في أحد فصول الكتاب "أن الدين والرموز الدينية فقدت تأثيرها على المواطنين في العقود الأخيرة". ويضيف: "لقد أدت علمنة المجتمع إلى تقليص عدد المؤمنين الذي يرتادون الكنائس كثيرًا، وجعلت الآباء يقلعون عن تعميد أبنائهم لتكريسهم في الديانة النصرانية، وقلَّ عدد الذين يتزوجون في الكنيسة، وكادت شعائر الصوم والصلاة تختفي، وصار بعض الناس يختارون شريك حياة لهم من جنسهم، وقل عدد الذين يوصون بدفنهم في مقابر عامة وأصبحوا يفضلون حرق جثثهم ونثر الرماد في الطبيعة". ويضيف الكاتب بأن هذه الحالة بدأت تتغير مع هجرة المسلمين إلى الغرب. "فالمسلم (العادي) يعتبر القرآن دستوره الأعلى، والسلفيون يرفضون الديمقراطية باعتبارها طاغوتًا ويدعون إلى الكفر به، ولكنهم يفعلون ذلك باستخدام آليات الديمقراطية، خصوصًا آلية حرية التعبير عن الرأي". وإذا كانت الديمقراطية تبيح ذلك وتبيح لأتباع الديانات أن يعتبروا كتبهم المقدسة دستورهم الأعلى، فإن الكاتب يدعو في نهاية المطاف إلى عدم قبول ما من شأنه أن يتعارض مع القيم العامة للحضارة الغربية كما تنص عليها الدساتير الوطنية والإعلان العاملي لحقوق الإنسان، وإلى سحب الترخيص من أية جمعية أو منظمة تنتمي إلى السلفية السياسية أو إلى السلفية الجهادية التي يدعو أتباعها إلى تدمير الحضارة الغربية، ويجندون الجنود لذلك.

 ----------------------------

- الكتاب: "السلفية بمواجهة الديمقراطية؟".

- المؤلف: ديرك فيرهوفسات.

- الناشر: دار هاوتكيت (بلجيكا/هولندا)، 2016م، باللغة الهولندية.

- عدد الصفحات: 141 صفحة.

* أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا

أخبار ذات صلة