الصهيونية الدينية: التاريخ،الفكر، المجتمع

Picture1.png

 لدوف شفارتز

فوزي البدوي (أستاذ الدراسات اليهودية الجامعية التونسية)

كثيرة هي الكتب في اللغات الأجنبية التي خصصت لقصة الصهيونية الدينية المثيرة للاهتمام والتي عرفت على يد الربي أبراهام كوك منذ بداية القرن العشرين زخمها الكبير؛ فقد جرت العادة أن ينظر إلى الصهيونية تاريخياً باعتبارها حركة علمانية مناهضة لليهودية التقليدية أو الأرثوذكسية، وتجد جذورها الفكرية في الهاسكالاه اليهودية في القرن الثامن عشر، إذ قدمت إجابة مغايرة للمسألة اليهودية كما نظرت إليها اليهودية الإصلاحية بزعامة موشيه مندلسون والداعية إلى الاندماج في ألمانيا وأوروبا عمومًا وامتلاك صفة "المواطنة" بكل ما تقتضيه ومحاولة تجديد اليهودية من داخلها، مما وجد تعبيره الأكبر في ما عرف بوثيقة بيتسبورغ الأمريكية سنة 1885 واليهودية الأرثوذكسية التي رفضت الاندماج المؤذن بخراب اليهودية في اعتقادها والمؤسس حتمًا للانصهار والذوبان وفضلت الانكفاء داخل عقلية الجيتو الانعزالية وإن بفوارق ودرجات مختلفة بحسب الظرف والمكان.

 وكانت هذه الصهيونية في بدايتها من اقترح وجود طريق ثالث وهو الخروج من أوروبا مطلقاً والبحث عن حل جذري يتمثل في تأسيس دولة لليهود وليس دولة يهودية كما يظن لأول وهلة في قطيعة خطيرة مع الأسس الماشيحانية التي اعتنقتها اليهودية الأرثوذكسية، والتي تعتبر قيام دولة لليهود مسألة "إلهية، يقررها إله إسرائيل وحده مثلما نصت عليه نصوص كثيرة من التلمود البابلي، وهو رفض نجد آثاره حتى اليوم بين بعض طوائف الحريديم اليهودية حتى وهي تتخذ من إسرائيل مستقرا لها. وهذا التعارض هو ما وفق الباحث يعقوب رابكين في توضيحه في كتاب يظل مرجعًا في بابه.

      ولكن هذه المرحلة لم تدم طويلا بعد نشوء حركة مزراحي التي لم تكن ترى تعارضا بين الصهيونية واليهودية، وهي حركة يهودية حداثية تأثرت بالثورة البورجوازية التي عرفتها أوروبا الشرقية والوسطى. وكان المُنظر الذي تمت على يديه هذه التوليفة هو الربي أبراهام إسحاق يهودا كوك أول أحبار إسرائيل الاشكناز في السنوات الثلاثين والذي جعل من الصهيونية جزءًا من اللاهوت اليهودي وحركة منخرطة في مسار الماشيحانية اليهودية التقليدية تحضر لعودة الماشيح اليهودي المنتظر، وهو ما مكن بالتالي كل اليهود المترددين من الانخراط في الصهيونية. وهذه الحركة التي بدت قليلة العدد في الثلاثينات هي الحركة أو التيار الذى يجب أن يحسب له العرب والمسلمون حساباً وألف حساب في العقود القادمة لأن توجه إسرائيل نحو اليمين الديني لم يعد خافيًا على أحد.

ولهذه الشخصية المهمة بالأساس ولاثنتين أخريين هما يعقوب راينس ويوسف سولوفيتشنيك خصص هذا الكتاب المعنون بـ"الصهيونية الدينية: التاريخ، الفكر، المجتمع". وهو في الحقيقة مجموعة من المساهمات أشرف عليها الباحث الإسرائيلي دوف شفارتز والصادر في أكتوبر 2017 من خلال معهد زارح لدراسات الصهيونية الدينية وهو ينقسم إلى ثلاثة أبواب خصص أولها للتاريخ والمجتمع، وفيه دراسات كل من يوسف سلمون حول يعقوب راينس: ملامح زعيم صهيوني ديني، وهو مقال درس فيه هذا المؤرخ الحركة الصهيونية الدينية سيرة وآثار من يُعتبر مؤسس حركة مزراحي الحقيقي بعد أن احتضنته في البداية حركة أحباء صهيون. وفيها تعرف على صموئيل موهيليفير صاحب مشروع الاستيطان في فلسطين تطبيقا لمبدأ الجمع بين التوراة والعمل العبري ومن إليه يرجع أصل تسمية حركة مزراحي وهي اختصار لعبارة "مركز روحاني" תנועת הַמִזְרָחִי

وفي هذا الكتاب أيضاً دراسة عن إحدى أهم الشخصيات التي طبعت الصهيونية الدينية والتي لا نجد مع الأسف دراسات عنها في اللغة العربية وهي شخصية الربي يهودا كوك بقلم حنا ناثان ريقلين عن مقاومة أتباع الربي زفي يهودا كوك لمسألة فك الارتباط أو الانسحاب من غزة תוכנית ההתנתקות وأجزاء من الضفة التي خصص لها موتي اينباري في غير هذا السياق دراسة مهمة ثم خصص القسم الثاني من الكتاب لمحور الفكر اليهودي، وفيه درس دوف شفارتز نفسه وهو المشرف على كتاب العبقرية الدينية في فلسفة الربي كوك معتبرا إياه في عنوان فرعي للدراسة قديسا قوميا. أما القسم الثالث من الكتاب فاهتم بدراسة أرشيف معهد الدكتور زارح للأبحاث حول الصهيونية الدينية وفي هذا القسم كشف دوف شفارتز الغطاء من خلال الأرشيف عن ثلاثة مواضيع هي على التوالي: رسالة الربي يوسف سلوفوتشيك حول الأرثوذكسية الحديثة والثانية حول بعض القراءات التي قدمت في منظمة مزراحي النسوية ثم رسالة الدكتور يوسف بورغ حول تعيينه حبرا وهي الرسالة التي أمضاها الربي يحيال يعقوب فاينبرغ.

والحقيقة أن الباحث دوف شفارتز هو أحد القلائل مع موتي اينباري ممن اهتم بالصهيونية الدينية وقد كرس وقته وجهده لدراسة هذه الصهيونية الدينية، وكتابه هذا ليس الأول في بابه فقد كان له السبق في إصدار مؤلفات أخرى أساسية لمن يريد التخصص وفهم هذه الحركة المهمة التي يستحيل بدونها فهم اليهودية المعاصرة والصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبله إذ سيكون لهذه الحركة دور مهم جدًا فيما سيحدث في العشرية القادمة ومن هنا جاءت أهمية تقديم هذا الكتاب للقراء العرب.

لقد خصص دوف شفارتز من قبل كتابين مهمين باللغة العبرية بعنوان الصهيونية الدينية في مائة عام מאה שנות ציונות דתית خصص الأول مائة سنة من الصهيونية الدينية - الشخصيات والمناهج מאה שנות ציונות דתית - אישים ושיטות والثاني مائة سنة من الصهيونية الدينية - الجوانب التاريخية מאה שנות ציונות דתית - היבטים היסטוריים وخصص كتابا ثالثا بعنوان الصهيونية الدينية: التاريخ وفصول في الأيديولوجيا הציונות הדתית: תולדות ופרקי אידיאולוגיה.

وتعتبر مسألة الانسحاب من غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية سنة 2005 مسألة بالغة الخطورة بالنسبة للصهيونية الدينية والمتدينين الصهاينة أكثر من أية قطاعات أخرى في المجتمع الإسرائيلي ويهود العالم؛ بسبب أن أغلب المستوطنين هم من الصهاينة المتدينين وقد نبه دوف شفارتز إلى تأثير هذا الانسحاب على هذه الفئة من المجتمع الإسرائيلي في هذا الكتاب وفي غيره من خلال رصد مواقفها والإشارة إلى ارتباط ذلك بمسائل العقيدة الدينية وغيرها مثل الدولة والعرب الفلسطينيين إلخ.

والحقيقية أن هذا الانسحاب قد أحدث جرحا بالغا في وعي جماعات اليمين الديني المتشدد فهؤلاء المنحدرون من فكر الربي يهودا كوك يعتقدون كما اعتقد هو عندما كتب عن قداسة إسرائيل وأرضها أنه "يجب أن نتذكر لمرة واحدة وإلى الأبد أن ما هو مقدس مقدس! [...] وأن دولة إسرائيل والنظام الذي عليه حكومتها هما أيضا مقدسان. بل إن كل ما يرجع إلى تنفيذ هذه الأحكام، بل وجميع الدبابات والأسلحة الأخرى والذخائر [...] - كلها تنتمي إلى هذه القداسة التي تميز أرض إسرائيل ".

 كانت أزمة الصهيونية الدينية ممثلة في حركة غوش أيمونيم وغيرها هي التساؤل كيف يمكن اعتبار الدولة التي تقتلع المستوطنات وتسلم أجزاء من الأرض التي قدستها التوراة إلى الحكم العربي "مقدسة تماما؟" بل أي معنى ديني يمكن أن يضفي إلى أعمال هذه الدولة العلمانية التي تظن أنها تحسن صنعًا بينما هي لا تدرك أن هدفها الأساسي المفروض أن يجعل منها بمثابة "أساس عرش الله في العالم"، هي من تقوم بتدمير نفسها بنفسها بل وتدمر من وراءها كل ذلك الأمل المشيحاني الذي هو جوهر التبرير الذي يقبل من خلاله الربي كوك بالصهيونية ومن ورائه كل التيارات الدينية الأرثوذوكسية الكلاسيكية «ولهذا السبب بالذات أطلق البعض على هذا الانسحاب العبارة اليهودية ".

 لقد رفضت التيارات اليمينية المنحدرة من الصهيونية الدينية من قبل مبدأ التنازل عن أي جزء مما تعتبره أرض إسرائيل الكاملة "هاشليماه" وأقدمت على ارتكاب المحظور منذ سنة 1995 باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين سنة 1995 اعتمادا على فتوى دينية هي فتوى "دين روديف" و "دين موسير" المضمنتين في نصوص الربي موشيه بن ميمون في كتابه "مشنيه توراة" ولكن الخطر لم يأت هذه المرة من شخصية "علمانية" بل من شخص أرييل شارون المحسوب على اليمين القومي القريب من الأوساط الدينية المتشددة ولم تكن فتاوى الربي أبراهام شابيرا أو موردخاي الياهو إلا تعبيرا عن هذا المأزق الذي عاشته الأوساط المنحدرة من فكر الربى كوك الذي ظن أنه وجد طريقاً لاعتبار الصهيونية الجناح الذي سيحمل الماشيحانية نحو صيغة اكتمالها.

كما اهتم الباحث دوف شفارتز في القسم الثالث من العمل بالكشف عن بعض محتويات الأرشيف الخاص بمعهد زارح للدراسات حول اليهودية الصهيونية המכון לחקר הציונות הדתית ע"ש ד"ר זרח ורהפטיג وكشف عن رسالة مهمة للربي يوسف سولوفيتشنيك יוסף דוב הלוי סולובייצ'יק عن الأرثوذكسية الحديثة وأعتقد أن هذه الرسالة من النصوص المهمة التي تجب دراستها والتوسع في فكر مؤلفها المجهول لدى القراء العرب تقريبًا وذات التأثير العميق في اليهودية المعاصرة فهذا الربي المنحدر في الأصل من أصول روسية حيث ولد سنة 1903 والمعروف اختصارًا بـ"زاتسال" وقضى سنوات تكوينه الجامعي في برلين عاصمة الثقافة اليهودية حيث أكمل دراسته سنة 1926 وفيها تعرف فكرياً على اثنين من كبار مفكري اليهودية الأرثوذكسية في القرن العشرين ممن سيكون لهما أكبر التأثير الروحي في اليهودية العالمية وهما الربي مناحيم ماندل شنيرسون آخر عنقود سلالة اللوبافيتش الحسيدية والربي يتسحاق هوتنر أحد زعماء اليهودية اللتوانية في الولايات المتحدة لاحقًا. وحين أنهى أطروحته عن فلسفة اليهودي هيرمان كوهين كانت قد بدأت تتشكل ملامح فكره وفلسفته التي عبَّر عنها فيما بعد فيما سماه "التوراة والعلم" תּוֹרָה וּמַדָּע وطبق ذلك من خلال جامعة يشيفا التي ترأسها والده من قبله، وتقوم على فكرة أو ضرورة أن يجمع اليهود الأرثوذكس تكوينا علمانيا متينا في الجامعات العلمانية كما فعل هو في جامعة برلين بل إنه ذهب إلى أنه لا يجوز إعطاء أية صفة دينية סמיכה לרבנות ليهودي أرثوذكسي يصير بموجبها من الربيين اليهود ما لم يتحصل قبل ذلك على تعليم تخصصي في أحد فروع المعرفة الدنيوية الحديثة في الجامعات غير الدينية. وهو في ذلك يختلف جذرياً عن الربي صموئيل هيرش اليهودي الأرثوذكسي الذي سعى إلى التقريب بين اليهود والثقافة الأوروبية الحديثة ولكن سولوفيتشنيك لم يكن يسعى في حقيقة الأمر إلى مجرد التقريب بل كان يرى في هذه الثقافة الأوروبية الألمانية حجر الأساس في اليهودية الحديثة وليست مجرد شر لابد منه كما رأى آخرون من قبله بل لم يكن يرى فيها تهديدا للثقافة اليهودية وإنما فرصة نادرة للتجدد والحياة. واعتبر رجال الدين اليهود الذين كونهم وفق هذا المبدأ بمثابة جيل الأوائل أو الريشونيم من يهود إسبانيا السفارديم كما يطلق على جيل ابن ميمون وابن عزرا ويهودا اللاوي. وقد بسط كل هذه الآراء في كتاب شهير أشار إليه الباحث دوف شفارتز في دراسته هذه وهو كتاب "المؤمن المتوحد".

لم يكن الربي يوسف سولوفيتشنيك وهو الربي الأرثوذكسي يرى تنافياً بين اليهودية والحداثة وبين العقلانية والدين وخصوصًا بين الصهيونية واليهودية وهو موقف على غاية من الأهمية بالنظر إلى أنه كان في بداية حياته قريباً من التصورات الأرثوذكسية المناهضة للصهيونية؛ فقد كان إلى حدود الحرب العالمية الثانية ضمن مجلس كبار علماء التوراة الذي يشرف على حركة أغودات يسرائيل المناهضة للصهيونية، ولكن المحرقة النازية غيرت فكره حوالي 180 درجة حول الصلات بين اليهودية والصهيونية. ظهر ذلك جليًا في انضمامه إلى الفرع الأمريكي لحركة مزراحي، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير، منسلخا عن تقاليده العائلية مثلما عبر عن ذلك في كتابه "الدروس الخمسة حول ارتس" חמש דרשות על ארץ ישראל وشبه العلماء اليهود مثله المنضوين تحت لواء الصهيونية بمنزلة يوسف ذلك النبي الحالم الذي عارضه إخوته فاختلفت بذلك منطلقاته عن منطلقات الربي يهودا كوك ذات البعد المشيحاني ومنطلقات الفيلسوف المشاكس يهوشواع ليبوفيتش.

إن هذا الكتاب الذي جمع فيه دوف شفارتز طائفة من النصوص المتصلة بالصهيونية الدينية ممثلة بأهم أعلامها لا يمكن أن يقرأ منفصلاً عن مؤلفاته الكثيرة ومقالاته المتعددة حول هذ التيار الأساسي في تاريخ اليهودية والصهيونية سواء بسواء، والذي اختص فيه مؤلفون آخرون. وسيغنم القراء العرب والسياسيون وأصحاب القرار بالاطلاع عليهم لأنني أزعم أن هذا التيار الصهيوني الديني هو الذي سيشكّل في مستقبل السنوات صورة الصراع العربي الإسرائيلي وخارطة النزاعات الدينية السياسية في الشرق الأوسط؛ فإسرائيل تنزع نحو اليمين الديني رويدا رويدا ولكن دون رجعة؛ فالصحوة الدينة التي بدأت منذ نكسة 67 وعبر عنها اليهود باسم حازاراه بتشوفا صارت مهددة بألا تؤدي إلى ما تعبر عنه هذه الأوساط ببداية لخلاص: "هاتخيلات هجيءئولا " התחלת הגאולה بفعل النزوع إلى التسويات السياسية المرفوضة التي تمس بقداسة إسرائيل وأرضها فيما يدعون.

------------------------------------------------------------------

 الكتاب: الصهيونية الدينية: التاريخ، الفكر، المجتمع

المؤلف: دوف شفارتز

دار النشر: مطابع جامعة بار ايلان

 اللغة: العبرية

 عدد الصفحات: 224 صفحة

 تاريخ النشر: أكتوبر 2017

أخبار ذات صلة