لميكائيل وولف
محمد الشيخ
قيل لـ "بُهْلول" ـ وهو شخصية شهيرة من شخصيات التراث العربي الإسلامي لخص قصته الذهبي، فقال: "وُسْوِسَ فِي عَقْلِهِ، وَمَا أَظُنُّهُ اخْتَلَطَ، أَوْ قَدْ كَانَ يَصْحُو فِي وَقْتٍ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي عُقَلاءِ الْمَجَانِينِ، لَهُ كَلامٌ حَسَنٌ، وَحِكَايَاتٌ" ـ: "أًتَعُدُّ المجانين؟ " قال: "ها يطُولُ ولكني أعدُّ العُقَلاء!" والحال أن "مجانين الحكم" الذين "جُنُّوا على الحكم" كثير يصعب عدهم، نذكر منهم فقط حاكم فلورنسا في عصر النهضة الواعظ الديني سافونارولا (1452- 1498) والذي في عام 1497 أقام هو وتلامذته محرقة في ساحة من ساحات المدينة لكل ما اعتبره دليلا على عُجْب وغرور سكان فلورنسا، فكان أن أرسل أتباعه يدقون بابا بابا يفتشون عن كل ما اعتبره أدوات فساد روحي: المرايا والعطور واللوحات غير المحتشمة والكتب غير الدينية والدواوين الغزلية والألعاب والثياب الفاخرة ...
لكن دعنا نعد مجانين الحكم الذين "جُنُّوا في الحكم": بدءا بنيرون والحاكم بأمر الله حتى القذافي... نلمع منهم على سبيل المثال إلى الملك غريب الأطوار الملك لودفيغ (1845-1886) ملك بافاريا الذي أُعلن مجنونا (12 يونيو 1886) ومات يوما واحدا بعد وضعه في مشفى المجانين. وما زال تقليد الجنون في الحكم سائرا. إذا ما نحن صدقنا صاحب كتاب "النار والغضب: من داخل بيت ترامب البيضاوي" الصحافي الأمريكي ميكائيل وولف ـ (64 سنة) مولود بنيو جرزي ومقيم منذ أمد بنيويورك، حاصل لمرتين على جائزة المجلة الوطنية قسم التعليق (2002-2004). وهو صاحب كتب عبارة عن تحقيقات صحفية أشهرها كتابه الذي ألفه عام 2008 والذي خصصه إلى روبرت مردوخ (الرجل الذي يملك الأخبار: داخل عالم روبرت مردوخ السري" ـ فإن الرئيس الأمريكي الحالي آخرهم وليس أخيرهم.
بعد الانتخاب المفاجئ للمرشح المتمرد على المؤسسة السياسية، بما فيها حتى مؤسسة حزبه، والذي كان قد استجوبه وولف في يونيو من عام 2016، طلب الصحافي من الرئيس السماح له بالنفاذ إلى البيت الأبيض؛ الشيء الذي لم يرفضه له الرئيس. وبهذا أمسى الصحافي "ذبابة على الحائط" بحسب تعبيره، وقد ذاب في الديكور. في عام 2004 كانت قد صورت الصحافي إحدى المجلات على أنه: "في شق منه كاتب افتتاحيات محب للحياة، وفي شق آخر معالج نفسي، وفي شق ثالث عالم أنثروبولوجيا اجتماعية يدعو قراءه إلى أن يمسوا ذبابة على حائط دائرة أهل المال والنفوذ الأولى".
وأغلب الظن أن عنوان الكتاب مستوحى من "التغريدة" الشهيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد خصمه رئيس كوريا الشمالية كيم جونك-أون مهددا إياه ببعث الصواعق المرسلة على الكورية، متوعدا له بصب النار والغضب على بلاده.
يطرح الكتاب الأسئلة التالية ويحاول أن يجد لها جوابا: هل الرئيس الأمريكي رجل أبله؟ هل كان يرغب في أن يُنتخب رئيسا؟ هل هو ذو عقل سليم أم أنه رجل مجنون؟ هل يحركه ويسخره مستشاروه؟ وهل أبناؤه وصهره أوفياء له؟
يفتتح صاحب الكتاب كلامه بذكر دواعي تأليفه. ويذكر أنه بعد تنصيب ترامب رئيسا في يوم 20 يناير 2017 أمسى البلد في قلب عاصفة سياسية استثنائية لم يشهد لها نظيرا منذ على الأقل فضيحة واترغيت (1972-1974)، وأن مناسبة قرب حلول الذكرى الأولى لتنصيب الرئيس الجدد تستدعي وقفة تأملية.
ويذكر المنهج الذي اعتمده في الكتاب وهو منهج النظر إلى الحياة في البيت الأبيض من خلال عيون أناس مقربين منه. وقد تم تصور الكتاب برمته على شكل مرويات عن إدارة ترامب بدءا من المائة يوم الأولى من حكمه، بما هي الأمارة التقليدية الدالة على طبيعة ولاية رئاسية معينة كما درجت العادة على ذلك. لكن الأحداث مضت في انسياب لأزيد من مائتي يوم إلى أن حدث أول عمل فاصل في إدارة ترامب تمثل في تعيين الجنرال المتقاعد جون كيلي رئيسا للفريق الرئاسي أواخر شهر يوليوز، وخروج الاستراتيجي الأول في إدارة ترامب ستيف بانون ثلاثة أسابيع بعد ذلك.
ويخبرنا المؤلف أن الحوار الأول مع الرئيس جرى قبل فوزه وولوجه إلى البيت الأبيض، فضلا عن التفكير في إنجاز كتاب حول هذا الأمر، وذلك في شهر مايو 2016 ببيت ترامب. وحسب ما يحكيه وولف، فإن ترامب بدا سعيدا في التحدث في مواضيع شتى، بينما كان معاونوه يقطعون الغرفة جيئة وذهابا.. إلى أن صار الصحافي يحضر حضورا شبه دائم جلسات الفريق. ومنذ حينها يذكر أنه أجرى أزيد من مائتي مقابلة مع أعضاء الفريق والمقربين.
ويشير وولف إلى أخلاقيات الصحافة التي وجهته في تأليف الكتاب: حتى بعد أن صار هو قريبا من ترامب وفريقه، فإنه لم يقبل أن يلعب أي دور ـ يقصد مثلا في تلميع صورة الرئيس، أو إسداء النصح ... ـ لا ولا هو سُئل حول ما إذا كان سيكتب شيئا ـ يخرج كتابا مثلا ـ وما الذي سوف يكتب فيه.
وهنا يقر الصحافي، بداية، بأن العديد من المرويات التي ضمها الكتاب حول ما جرى بدت متعارضة. ويرى أن هذه التباينات في المرويات ـ ومن ثمة التنازع مع ما حدث بالفعل في الواقع ومع الحقيقة ـ تشكل عنصرا جوهريا يطبع الكتاب بأكمله. ومرد هذا التنازع ترك المؤلف الفاعلين الأساسيين يروون مروياتهم من وجهة نظرهم الخاصة، مسلما أمر الحكم على هذه المرويات وتقويمها للقارئ، كما أنه في أحايين أخرى رجح مروية على أخرى بناء على معيار مدى تماسك المروية ومصداقية راويها.
منذ ديباجة الكتاب، تبدأ ترتسم بعض ملامح شخصية ترامب. وهي ملامح يرسمها رودجر آيلس الرئيس الأسبق لفوكس نيوز والوجه البارز في إعلام اليمين ومستشار بانون، في لقاء له بهذا يوم 4 يناير 2017 أياما قليلة بعد تنصيب الرئيس الجديد، وذلك حين يذهب إلى أن ما يعجبه في الرئيس صفات أربع: روح التاجر الذي يحذق "فن الصفقة" ـ وهو اسم كتاب لترامب، وروح المتفاخر المتباهي الميال إلى النزعة الاستعراضية، وروح ذاك الذي يمشي بنميم ويريد أن يتلصص على أحوال غيره ويتناقل أسراره، وحس فائق بما يدور في أسواق المال. تلقاء ذلك كان آيلس ـ الذي عرض عليه ترامب إدارة حملته فأباها وحملها بانون ـ مقتنعا بأنه لم تكن لترامب أية قناعات سياسية أو أية خلفية سياسية، ولم يكن ليصغي إلى أية نصيحة، أو أن يسمح بها بالأحرى، كما أنه لم يكن منضبطا ولا قدرة له على اتباع خطة محكمة، ولا يمكن أن يكون طرفا في أي تنظيم، ولا أن يتبع أي برنامج أو أي مبدأ. وبالجملة، بالنسبة إليه، كان ترامب "رجلا متمردا بلا قضية".
على أن المؤلف يذكر أن ولاءات الرجل الفكرية والإيديولوجية ليست عن إسرائيل بمبعد. إذ يتم اختيار كبار الموظفين ـ مثل التداول حول اسم بولتون ممثل الولايات المتحدة بالأمم المتحدة سابقا ـ على أساس ما إذا كان صالحا بالنسبة إلى إسرائيل، على نحو ما ورد في الحوار الذي دار بين بانون وآيلس. كما أنّ الأول يذكر أن البرنامج البدئي للإدارة الجديدة هو نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وذلك بإيعاز من المدافع الأكبر عن إسرائيل وعن ترامب شيلدون أندرسون الذي ساعد ترامب في حملته بإمضاء شيك بقيمة خمسة وعشرين مليون دولار. وحين يتساءل آيلس متشككا يجيب بانون: "دع الأردن يأخذ الضفة الغربية، ودع مصر تأخذ غزة. دعهما يتعاملان مع الأمر، أو يغرقان وهما يحاولان. فأما السعوديون، فإنهم على شفا الانهيار، وأما المصريون فإنهم على حافة الهاوية، لكنهم جميعا يرتعشون رهبة من بلاد فارس ...".
ومدار الكتاب على الرئيس وفريقه. وما يعيبه الكاتب على هذه الإدارة ستة أمور أساسية:
أولا؛ عدم تصديق فريق ترامب فوزه بالانتخابات:
هذه لازمة تتكرر على لسان أعضاء من فريق ترامب، ولا يتردد المؤلف في جعلها أولى الحقائق عنده. ما كان آيلس، ولا حتى بانون، يحملان محمل الجد ترشح الرجل، فبالأحرى فوزه. لكن، ما أن فعلها الرجل، حتى صار بانون يؤمن بأنه أمسى أمام تحديات العولمة والهجرة.. وأنه لا بد من تبني خطاب جديد: العالم يحتاج إلى حدود، أو قل العالم يحتاج إلى العودة إلى زمن كانت فيه حدود.
ولهذا أنت واجد الفصل الأول يدور على أجواء الريبة التي رافقت ترشح ترامب والذي يعده المؤلف أسوأ مرشح في التاريخ السياسي الحديث. حتى مديرة حملة ترامب كانت تتوقع هزيمته، وإن كان يُتَوقع أنها لن تكون هزيمة قاسية، وإنما هزيمة بطعم الانتصار. وحتى لما سأل سام نونبرغ الرئيس: "أتريد أن تكون رئيسا؟" ـ وهو سؤال مختلف عن السؤال المعتاد: "لماذا تريد أن تكون رئيسا؟" ـ لم يتلق منه جوابا. والحقيقة أنه سؤال لا يحتاج إلى جواب: كان يعتقد أن الرجل لن يكون رئيسا، وكفى! لربما أقصى ما كان يطمح إليه هو أن يصدق عليه قول صديقه القديم آيلس: لئن أنت أردت أن يكون لك مسار متميز في التلفزيون، فإن عليك أن تترشح للرئاسة! لربما الوحيد الذي كان يصدق بالانتصار الذي بدا أشبه شيء يكون بمزحة هو ترامب نفسه الذي كان يعتبر الرئاسة "أكبر حلم حلمه". ولربما هو نفسه لم يكن يصدق نجاحه حتى أنه وعد زوجته بأنه لن يكون رئيسا. وإنها لقصة رجل أعمال بلغت به القناعة بعدم نجاحه حد أنه رفض أن يستثمر أمواله في حملته الانتخابية.
وبالجملة، كان ترامب ومعاونوه في الحملة مستعدين لكي يخسروا بالنار والغضب ـ ومن هنا عنوان الكتاب ـ لكنهم لم يكونوا مستعدين لكي يفوز. ويعلق وولف: في السياسة لا بد من أن يخسر طرف معين، لكن كل طرف يعتقد أنه يمكنه أن يربح، ويحتمل أن الطرف الآخر لا يمكنه أن يفوز إلا إذا اعتقد في الفوز ـ اللهم إلا في حملة ترامب. ولقد ذكر ابن ترامب لأحد أصدقائه بأنّ أباه ظهر لما أعلن عن فوزه كأنه إنسان وقد بدا له شبح، كما أنّ زوجته ذرفت الكثير من الدموع تلك الليلة لا فرحًا بنجاحه وإنما حزنا عليه.
ثانيا؛ جهل الرئيس بالكثير من الوقائع وانعدام خبرته:
يرى المؤلف أنّ مسار ترامب إلى الرئاسة اختلف عن مسار معظم رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية. هؤلاء كانوا يتهيؤون للفوز، ومن بعدها للحكم، أما هو ودائرته فقد اعتقدا بإمكان جني ثمرة الرئاسة من غير أن يغير سلوكه أو نظرته إلى العالم: "ليس لنا أن نكون شيئا آخر غير ما نحن إياه، لأننا بطبيعة الحال نريد أن نفوز". ولقد كان لباقي الرؤساء فريق معاون شاخ في السياسة وخَبِرَ الحكم، إلا هو. إذ المقربون منه ما اشتغلوا بالسياسة قط. ومن هنا حدث الارتجال الذي حكم انتقاء الفريق الجديد الذي كان في أغلبه بلا خبرة سياسية أيّاً كانت. ولم تكن للرجل النيويوركي أدنى معرفة برجال السياسة وخبرائها بواشنطن، ولم يكن يعرف كيف يفرق بين إدارة "إمبراطوريته" وإدارة دولة. وهكذا، فإنّه عندما بدأ مساره في الرئاسة ما كان له تقريبا أي صديق من السياسيين، باستثناء رودي جولياني وكريس كريستي، وحتى هذان كانا شديدي الانعزال عن الطبقة السياسية. ويرى المؤلف أنه تقريبا كل الملتفين حول ترامب إثر فوزه المفاجئ يعلمون أنّه لا يعلم شيئا، اللهم إلا العمارات التي شيدها، وكل ما يعرفه حين يحدث أن يعرفه فإنما لم يعرفه إلا في آخر نصف ساعة، وأن رأيه يكون دائما فطيرا غير خمير. فما كان ترامب من أصحاب الذهنية التحليلية الذين يقبلون على القضية بتقليب جميع وجوهها، وإنما هو رجل ذو عقلية حدسية يهجم على القضية دونما تدبر، ولا يستطيع أن يدلل على الأمر بالإحصاء الدقيق، بل لا يعرف حتى كيف يقرأ البيانات. ومع ذلك وجد بعض حوارييه أن في ذلك بالذات تكمن قوة شخصيته، وأنه لقادر على حملك على الاعتقاد في ما يراه أو يريده.
أكثر من هذا، يذكر وولف أن الرئيس كان لا يدرك العديد من بنود الدستور الأمريكي. بل يذهب إلى حد تشكيكه في أنه كتب كتابه المومأ إليه سلفا "فن الصفقة" بل يرى أنّه لم يسهم فيه إلا قليلا، بله لم يقرأه بأكمله، على نحو ما أكد طوني شواتز شريكه في تأليف الكتاب.
وإذ كان قد دأب أغلب الرؤساء قبل انتخابهم على أن يلقوا نظرة فاحصة على أنفسهم ويراجعون ذواتهم، فإنه ما كان ترامب ليبذل مثل هذا الجهد.
يتساءل المؤلف: ولِمَ كان عليه أن يبذل مثل هذا الجهد وحظوظه للفوز ضئيلة؟ وماذا لو خسر هو وفريقه؟ ويتسلى الكاتب بتصور مصير ترامب وصحبه لو لم يفوزوا في الانتخابات: التجارة والأسواق المالية...
إن كان الرجل جاهلا فتلك مصيبة، وإن كان مصرا على جهله فالمصيبة أعظم. ففي اليوم الأول من الحكم، كان أغلب أعضاء الفريق يشتكون من أن الرئيس لا يعمل بالنصائح، وإِنْ حدث أن عمل بها؛ وهذا أمر نادرا ما يحدث ـ فإنّه سرعان ما يمل وينكفئ إلى طبيعته الأولى. إذ يمكنك أن تقول له ما تريد، لكنه يعلم ما يعلم، وإذا كان ما قلتَه يتعارض مع ما يعلم، فإنه بكل بساطة لا يصدقك. حتى أنّ المؤلف ينقل عن أحد أقرب مقربي الرئيس أنّه لكي نؤثر في الرجل يلزم للمرء أن يكون حاضرا دوما معه، وإلا افتقده. فليس يقدر ترامب على النقاش؛ أي على تبادل المعلومات أو المحادثة من خلال تمثل وجهات نظر متباينة. ولا يصغي حقيقة إلى ما يقال له، فبالأحرى أن يحفظ ما يقال له. وهو يطلب منك أن تنصت إليه، ولكن عندما تمتثل يجدك ضعيفا ويتهمك بأنك تركع أمامه. إنه أشبه ما يكون بمعبودة للجماهير، دائما تعيش على هواها، وتحتاج إلى أن تُحابى باستمرار.
ثالثا؛ سوء اختيار الرئيس لفريقه:
دار جدل حول كل شخص من الذين اختارهم الرئيس لفريقه ما بين مؤيد ومعترض ومنتقد ومحذر.. والمثير في اختياراته إرادته إدارة الدولة كما تدار شركة عائلية، بحيث ينظر إلى العالم نظرة عاقد صفقات، حتى أنّه وضع صهره وبنته وبعض أفراد عائلته في أماكن حساسة، وحتى صارت البنت تطمح إلى أن تلعب هي وزوجها دور كلينتون وزوجته.
لا توجد أبدا في عهد ترامب إدارة حقيقية تدير البيت الأبيض، لا أحد يعلم ما المطلوب منه وما الذي ينبغي عليه أن ينهض به، إنما الكل يريد جلب اهتمام الرئيس. لم يكن الأمر يدار على المهام وإنما على الاستجابةـ كل ما كان يثير انتباه الرئيس تركز عليه حاشيته. وحدثت صراعات مريرة بين كبار موظفي البيت الأبيض ومستشاريه ـ بريبيوس وبانون وكوشنر ـ حول من يدير الأمر من وراء ستار الرئيس. وقد دفعت وولش ثمن هذا النزاع الخفي: ما أن يصدر إليها واحد منهم أمرا حتى يلغيه أحد الإثنين. والرئيس من وراء هذا يشتكي من الجميع، وله رأي سيء عن الجميع.
ولا يلقي الرئيس بالا إلى تعارض مصالح "التاجر" و"الرئيس" فيه، بل يعتقد أنه إنما انتخب بسبب ذلك؛ أي لمعرفته بعالم الأعمال، ولعلاقاته التجارية، ولتجربته ولعلامة شركته..
رابعا، حمق الرئيس:
ينقل المؤلف رأي روبرت مردوخ في ترامب: "إنما ترامب رجل شعبذي أحمق"، وهو في أفضل الأحوال: "أمير مهرج بين الأثرياء والمشاهير". وقد قال عنه صديقة الملياردير توماس باراك بأنه ليس فقط أحمق، وإنما هو رجل بليد. وحمقه هذا المفترض يؤثر على إدارته لشؤون الدولة. فهو لا يميز بين المعلومات التي تصله، ولا يقرأ، بل حتى لا يلقي نظرة عجلى على المكتوب الذي قدم إليه. وبعضهم زعم أنه لا يعرف سوى القراءة والكتابة في أبسط أحوالهما لا شيء أكثر. ولكنه لا يؤمن إلا بخبرته، حتى ولو بدت مضللة أو غير ذات صلة بالموضوع. لا يؤمن إلا بما تقول له أهواؤه. كانت تقول عنه كاتي وولش ـ وهي الرقم الثاني في الحزب الجمهوري وقد أصبحت السكرتيرة العامة المساعدة في البيت الأبيض قبل أن تستقيل في مارس 2017: "الأمر أشبه ما يكون برغبتنا في فهم ما يرغب فيه طفل".
ويكشف الكتاب بعض الأسرار التي تدل على أن الرجل غريب الأطوار: إدمانه الاتصالات الهاتفية اليومية الوسواسية بأصدقائه الأثرياء مشتكيا لهم، خوفه المرضي من أن يتم تسميمه، ولعه المرضي بماركة شامبو هي التي أعطت لشعره اللون الذي يظهر به.. اعتقاده أن البيت الأبيض مكان مخيف، بحيث انعزل في غرفته، وطلب شاشتين فضلا عن الموجودة، ووضع مزلاجا تحت الباب، مواجها بذلك رجال المخابرات الذين ألحوا على أن يُبقي لهم حق الولوج إلى الغرفة، نهره الخدم على جمعهم قميصه من على الأرض قائلا: "لئن كان قميصي على الأرض، فلأنني أريده على الأرض"، ثم وضعه قواعد إتيكيت جديدة: لا أحد يمكنه أن يمس أي شيء، لا سيما فرشاة تنظيف الأسنان (يخشى أن يتم تسميمه، ولذلك كان يتناول طعامه عند ماكدونالدز لأنّه لا أحد يعلم أنه سيأتي إلى ذلك المكان ومتى).. وفي المساء أنت تجده دائما مستلقيا على سريره وفي يده شيزبورغر يتفرج على شاشاته الثلاث ويهاتف ـ كان التلفون نقطة اتصاله الحقيقية مع العالم ـ طائفة من أصدقائه المقربين..
خامسا؛ ميل الرئيس إلى النجومية: أنا مشهور إذن أنا موجود:
نقل المؤلف ـ في الفصل المعنون "برج ترامب" ـ عن أحد معاوني الرئيس تساؤله: "هل ترامب شخص جيد، شخص ذكي، شخص مقتدر؟" ويجيب: "لست أعلم من هذا الأمر شيئا، وكل ما أعلم أنه نجم". ويعلق صاحب الكتاب في فقرة سبق أن ألمعنا إليها يخصصها للتشكيك في ما إذا كان قد كتب ترامب حقا كتابه: ما كان الرجل بكاتب، وإنما هو ممثل -مخاصم منازع جُدَلة بطل- إنه شخص درامي بالدرجة الأولى. رجل يحيا وهو يمثل، حتى أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغائب لا بضمير المتكلم، فلا يقول، مثلا، "فعلت كذا..."، وإنما يقول: "فعل ترامب كيت وكيت...". ولربما كان الرجل، حسب بانون، ممثلا، إلا أنّه يمثل دور رجل مجنون!
وبهذا الصدد، يقارنه وولف بلاعبي المصارعة الأمريكية، بهولك هوغان مثلا، من معبودي الجماهير. وهو مثلهم "شخص وهمي من الحياة الواقعية". إذ يلعب ترامب، يصعد وينزل من الحلبة، كما لو كان ممثلا أو مصارعا في عرض. يقول عنه مستشاره القديم بانون: "هذا الرجل لا يتوقف عن أن يكون دونالد ترامب". فشخصه يجمع بين "حَميَّة" استوديوهات التلفزيون، والواعظ عبر الشاشة، والمصارع الأمريكي، والمعلق في اليوتوب، بحيث يقدم لنا عرضا بلا بداية وبلا نهاية... لا يوجد ترامب الحقيقي، بل هو فقط ذاك الرجل وسط المشهد.
وحتى يوم حفل تنصيبه أراد الرجل أن يلعب دور النجم، وما كتب له فعل ذلك بسبب مقاطعة العديد من المشاهير لحفل تنصيبه، وما اعتبره إهانة من الرئيس السابق له في لقائهما؛ مع أنه كان يريد أن يكون الشخص المعروف أكثر من غيره في العالم، يريد نجوما ناطقين باسمه، لكن الرئيس - في جنون عظمته- ظل متشبثا بنجاح الحفل، ووجد من يدغدغ عواطفه بذلك النجاح الموهوم. ويعلق المؤلف: لكن الرجل بقي متفائلا، لأنه من شأن أخلاقيات التاجر أن يبقى متفائلا مهما يكن الحال، حتى لا يفلسه تشاؤمه.
يبدو ترامب في كتاب "النار والغضب" مهووسا بالشهرة. لقد أصبح الرجل نجم تلفزيون الواقع الذي أنشأه حول نفسه، وتبنى نظرية تقول: ليس ثمة من خير أسمى من الشهرة. أن تكون مشهورا هو أن تكون محبوبا أو على الأقل أن يجاملك الجميع.
خامسا؛ تهتك الرئيس
لا يكف المؤلف عن الغمز بكون الرئيس ما اكتفى بأن يكون خِدْن نساء ولا حِدْث نساء ولا جِلْس نساء وإنما هو زير نساء بلا مدافعة، يعتبر النساء ميداليات يُفاز بها أو كؤوسا يتوج بها، في نزعة ذكورية جارفة، حد أنّه يرى - كما يروي المؤلف - أن أهم ما يستحق أن يعيش المرء من أجله هو أن يجامع زوجات أصدقائه، وحد لعبه لعبة ماكرة من أجل استدراج الأزواج إلى العزم على الخيانة بتزيينها في أعينهم حتى وإن لم يكونوا راغبين فيها، وتسجيل ذلك للزوجات وإسماعهن إياه حتى يستدرجهن بدورهن.
سادسا؛ استعداء الرئيس الصحافة عليه:
يبدأ الفصل الثالث من الكتاب بالحديث عن علاقة ترامب وإدارته مع الصحافة وتفضيل بانون استعداء الصحافة على تأليف قلوبهم، وذلك حتى صارت العلاقة مع هذه الصحافة تقوم على مفارقة غريبة: كلما دافع ترامب عن نفسه بصورة، كثفت الصحافة من مهاجمتها له ومن إحصاء كل حركاته وسكناته. وإذ سعى فريقه إلى طرح "وقائع بديلة" بل حتى "إعلام بديل"، فإن بعض الأوساط الصحفية لم تجد في تجديده لطريقة حكمه سوى ألوان من القصف المنظم وغير المراقب للصحافة بالغضب وسوء المزاج.
كم مهولة هي مروية وولف. إذا ما نحن صدقناها ـ ولا يمكن أن نصدق كل ما ورد فيها: إما لغياب التوثيق أحيانا، أو لتناقض المرويات أحيانا أخرى ـ فإنّها ترسم لعالم ترامب رسما سورياليا: هو عالم سلطة عمائية فوضوية، أشبه شيء يكون بعنوان قصيدة الشاعر الفرنسي "السفينة النشوانة" كل شيء يترنح فيها من سكر السلطة والشهرة، يرأسه رجل فظ غبي، وتمزقه ألوان من التنافس قاتلة يمضي فريقه سحابة يومه يتباغض. أكثر من هذا، يرسم لنا الكتاب عالم ترامب وكأنه أشبه شيء يكون بعالم تلفزيون الواقع: عالم فارغ، كلبي، بغيظ، حيث الشهرة والنجاح والمال هم البوصلة الوحيدة. وهو عالم يصف وولف شخوصه وأحداثه الدرامية بدقة، لكن مع إضافة ملح الوداع.
وأخيرا، ثمة قصة طريفة رافقت توزيع الكتاب وبيعه. ثمة أكاديمي كندي يدعى راندال هانسن كان قد ألف في عام 2008 كتابا حمل العنوان نفسه الذي يحمله كتاب وولف ـ النار والغضب ـ لكنه دار على فحص أثر القصف بالقنابل الذي تعرضت له ألمانيا ما بين عام 1942 و1945 على السكان المدنيين. ورغم أنه بيع عدد محترم من كتاب راندال بعد صدوره، إلا أن المؤلف تفاجأ مؤخرا بعدد الطلبات الموجهة إلى شركة أمازون لبيع الكتب بأن صار كتابه الكتاب المطلوب الأول، ليكتشف في النهاية أنّ كل الذين طلبوه إنما التبس عليهم الأمر، فكان أن خلطوا بين كتابه وكتابنا هذا لصاحبه وولف!
------------------------------------------------------
اسم الكتاب : النار والغضب من داخل بيت ترامب الأبيض
اسم المؤلف : Michael Wolff
دار النشر : Little Brown
بلد النشر : بريطانيا
سنة النشر : 2018
لغة النشر : الإنجليزية
عدد الفصول : 16 فصلا فضلا عن ديباجة وتنبيه من المؤلف
