لجوناثان فانبي
محمد السماك
لعل أغرب قصة يرويها هذا الكتاب التاريخي هي تلك التي تتعلق برجلين عسكريين لعبا أدواراً مصيرية في تاريخ فرنسا الحديث. والعسكريان هما الجنرال ديغول، والجنرال بيتان. يقول المؤلف إنه خلال الحرب العالمية الأولى وتحديداً بعد معركة فردان التاريخية مع الألمان والتي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا، كتب الجنرال بيتان رسالة نعى فيها شارل ديغول. وقال في النعي:" لقد كان الضابط ديغول عسكرياً لا يضاهى في المجالات كافة".كان ذلك في عام 1916. في ذلك الوقت كان ديغول والجنود الذين كانوا تحت إمرته العسكرية قد تعرّضوا للقصف بالغازات السامة واعتبر ميتاً مع جنوده.غير أن ديغول نجا، ليتولى فيما بعد ومن لندن قيادة المقاومة الفرنسية ضد القوات النازية التي احتلت بلاده خلال الحرب العالمية الثانية. أما الجنرال بيتان فقد عقد اتفاق سلام مذلّ مع القوات الألمانية وشكّل حكومة فرنسية متعاونة مع هذه القوات.كان الجنرال بيتان بطل معركة فردان يعتبر محرر فرنسا في الحرب العالمية الأولى. إلا أن هذا البطل تصدّر بعد الحرب العالمية الثانية لائحة الخونة، ليصبح ديغول البطل الذي خرج من بين الأموات.استمدّ ديغول شعبيته من موقفه الوطني ضد الجنرال الذي نعاه قبل عدة سنوات وأغدق عليه صفات البطولة. ولما مات الجنرال بيتان لم تصدر عن الجنرال ديغول أي كلمة تأبين، ومرّ حادث الوفاة وكأن شيئاً لم يحدث !! .
رغم ما في هذه القصة التاريخية الواقعية من مصادفات، فإنها ليست الأولى في التاريخ الفرنسي المعاصر الذي بدأ مع الثورة في عام 1789 .
واحدة من هذه المصادفات تتعلق بالمهاجرين من دول شمال أفريقيا (المغرب والجزائر وتونس) وهي الدول التي استعمرتها فرنسا طويلاً. حتى أن الاستعمار الفرنسي للجزائر تحديداً تحوّل إلى استعمار استيطاني إذ اعتبرت الجزائر جزءاً من فرنسا وليس مجرد أرض محتلة. غير أن المفارقة التي يشير إليها الكتاب هي أن الجزائريين لم يعتبروا في أي وقت من الأوقات فرنسيين، ولم يعامَلوا كمواطنين. وحتى عندما احتاج الجيش الفرنسي إلى خدماتهم في حروبه في الهند الصينية (فيتنام اليوم) فقد جرى التعامل معهم وكأنهم مرتزقة وليسوا مواطنين كاملي الحقوق. جرت "فرنسة" الأرض واستُعبد من عليها .
ويقول مؤلف الكتاب فانبي إنه في الوقت الذي تواجه فيه فرنسا في العصر الحالي صعوبات اقتصادية وتراجعاً في النمو، تجد أن عليها احتواء ملايين المُسلمين المتحدرين بصورة خاصة من دول شمال أفريقيا. وتجد نفسها أيضاً وفي الوقت ذاته في مواجهة موجة من التطرف الإسلامي التي أطلقتها "داعش" .. ووقودها شباب من هؤلاء المسلمين.
وينتقد المؤلف الكيفية التي تعامل معها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند مع هذا الأمر، ويقول :" إن الفرنسيين أصبحوا أسرى موروثات الماضي ".
ويلاحظ أن ذلك ليس جديداً، ولا يشكل سابقة مع حركة التاريخ الفرنسي . بل إنه يكاد يكون حالة متواصلة ومستمرة. ولتفسير ذلك يعود إلى عمق التاريخ فيقول: لقد أطيح بعائلة البوربون الملكية باسم أيديولوجيات تقدمية وغير قابلة للمساومة مما عرّض البلاد إلى الدمار .
وعندما رفع روبسبير أحد قادة الثورة الفرنسية المشانق، تمنى حتى أنصار الثورة أنفسهم لو أن سلطات ما قبل الثورة تعود مرة ثانية إلى تسلّم زمام الأمر، رغم كل ما كانت تتمتع به من استبدادية وتفرّد .
وكان نابليون نتيجة مؤقتة ولكن قصيرة الأمد لذلك. أما النتيجة الطويلة الأمد فقد كانت الثقافة الفرنسية الحديثة: ديناميكية، ولكن ليس بالضرورة عقلانية كما يصفها المؤلف. ولكن مزيج من التقدمية والمحافظة.
وفي دراسته المعمقة للوضع الداخلي الفرنسي يقول المؤلف فانبي :
إن الملك لويس فيليب كان "الملك-المواطن"، كان بسيطاً ولكنه كان شجاعاً أيضاً ومتحمساً للديمقراطية . ففرنسا في عهده (في الثلاثينات والأربعينات من القرن التاسع عشر) كانت دولة خلّاقة، وكانت اكتشافاتها تصل إلى كل أرجاء العالم : التلسكوب، لغة برايل للمكفوفين، ماكينات الخياطة، القصص الأدبية لبلزاك، وقصائد بودلير .
ويقول المؤلف أيضاً إن نابليون الثالث الذي انتخب في عام 1848، ونصّب نفسه إمبراطوراً من خلال استفتاء أجراه بعد أربع سنوات، أعطى فرنسا الكثير مما تفتخر به. لم يعطها فقط إعادة بناء باريس، ولكن أعطاها أيضاً مجموعة هامة من الاكتشافات العلمية: التخمير، الزيوت النباتية، البطاريات، الدراجات الهوائية، والحقن الطبية.
ويتحدث المؤلف أخيراً عن ديغول الذي قاد المقاومة الفرنسية ضد النازية حتى أصبح منذ عام 1960 الرئيس الفرنسي الأكثر نجاحاً الذي أنتخبته فرنسا على مدى 200 عام من تاريخها، وهي الفترة الزمنية التي يغطيها هذا الكتاب .
ريما يكون من الطبيعي أن يغدق المؤلف هذا المديح الحاد على الجنرال ديغول، فقد سبق له أن أصدر كتاباً عن حياة هذا الجنرال الرئيس صدر في عام 2012 .
فالمؤلف لا يخفي إعجابه بكل ملك أو رئيس اعتلى مسرح السلطة في فرنسا ونجح في التزاوج بين المحافظة على التقاليد وتحقيق التقدم . ذلك أن التقدم ليس خصماً حتمياً للتقاليد . بل إن المزاوجة بينهما، رغم صعوباتها الكبيرة، فإنها تحفظ للمجتمع شخصيته وأصالته، وتمسك بيده في معارج الرقي والتقدم في الوقت ذاته (وهنا أسمح لنفسي كدارس لهذا الكتاب أن أشير إلى تجربتين رائدتين من هذا النوع في العالم العربي نجحتا في المزاوجة بين الحداثة والتقليد هما تجربة سلطنة عمان والتجربة المغربية).
وينتقد المؤلف الملك شارلز العاشر بسبب تعصبه وتشدده الدوغماتي، مما أدى إلى ثورة تموز – يوليو 1830. ويصفه بأنه كان شخصية ضعيفة فارغ العقل. يفتقر إلى الرؤية وإلى الجرأة لفرض إرادته عندما يتعرض للاختبار .
أما الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الذي تولى رئاسة الدولة الفرنسية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فيقول عنه إنه لم يكن رجل مبادئ؛ ويحمّله مسؤولية تراكم الأعباء الاقتصادية التي أثقلت كاهل الدولة طوال عقود ثلاثة.
يعزو المؤلف جوناثان فانبي البداية الأولى لهذه التحولات إلى تسوية ما بعد نابليون والتي أبرمت في مؤتمر فينا (النمسا) . فقد زرعت في النفس الفرنسية شعوراً بأن فرنسا أرض محتلة. وهذا الشعور، كما يؤكد المؤلف، جعل حتى من سلطة معتدلة كالتي مارسها الملك لويس – فيليب، سلطة مستبدة.
وهنا يشيد المؤلف بما وصفه "حنكة" المستشار الألماني أوتو فون بيسمارك، الذي تعامل مع مخططات نابليون الثالث لاستعمار أفريقيا والشرق الأقصى، على أنها تساعد على تقوية ألمانيا في أوروبا.
وبالفعل في الوقت الذي كانت فيه فرنسا مشغولة بالتوسع في أفريقيا وفي إقامة المستعمرات، كانت ألمانيا تعزز قدراتها داخل أوروبا تحديداً .
ويلاحظ المؤلف أيضاً أن تراجع عدد سكان فرنسا لم يبدأ في عصرنا الحالي (بسبب الهجرة) ولكنه بدأ قبل أكثر من قرن من الزمن بسبب ما سماه الضعف العسكري .
ففي الحرب الفرنسية – البروسية التي وقعت في عام 1870 كان عدد سكان كل من فرنسا وألمانيا متساوياً بالنسبة للرجال ما بين سن العشرين والرابعة والثلاثين. ولكن مع بداية الحرب العالمية الأولى، تمكنت ألمانيا من تجنيد 7،7 مليون مقاتل في عمر الشباب، بينما لم تستطع فرنسا تجنيد سوى 4،5 مليون فقط .
وهنا يذكر المؤلف أنه خلال الحرب الفرنسية – البروسية حاصر الألمان باريس طويلاً، وانتشرت فيها المجاعة، حتى اضطر الناس إلى إخراج الحيوانات من أقفاصها في حدائق الحيوان وذبحها في الشوارع لتقاسم لحومها.
وبعد أن نشبت ثورة عام 1848 عرفت باريس حركة فوضوية مدمرة، وكان على رأسها شاب فرنسي كان يستخدم كنموذج –موديل- للمسيح عليه السلام؛ وقد استخدمه العديد من الرسامين والنحاتين. وكانت نهايته رصاصة في الرأس أطلقها عليه أحد الجنود الفرنسيين.
ويسرد المؤلف وقائع المآسي التي عرفتها فرنسا، ويتوقف طويلاً أمام المأساة التي وقعت في عام 2015 في العاصمة باريس على يد عناصر إرهابية. ويدخل إلى عمق الواقع الفرنسي الحالي، فيقول إن ظاهرة الجبهة الوطنية التي تزعمتها مارين لوبن اليمينية المتطرفة، لم تنطلق من حسابات سياسية منطقية، ولكنها جاءت نتيجة تفاقم مشاعر أولئك الذين يشعرون بأنه جرى التخلي عنهم من قبل السلطة السياسية في الحكومات المتعاقبة. ويقول إن هؤلاء بحثوا عن بطل يتفهم معاناتهم وينقذهم مما هم فيه. أما ما هي طبيعة هذه المعاناة فإن المؤلف آثر عدم التحدث عنها أو الإشارة إليها من قريب أو من بعيد .
ويؤكد المؤلف في الفصول الأخيرة من كتابه الذي يعرض فيه لتاريخ فرنسا المعاصر، وللمراحل المتداخلة التي عرفها هذا التاريخ من صعود وهبوط، على أمر أساسي وهو "إن الثورات حبلى دائماً بردات الفعل" . وهناك نظرية في علم الاجتماع تقول "إن الثورة تأكل أبناءها"، وهو ما عرفته الحركات الثورية في فرنسا وروسيا وحتى في أمريكا. ويقول المؤلف إن كل نظام جديد يقول بالحرية والمساواة يحتاج إلى سلطة وإرادة، وإن هذه تؤخذ من مصادر ما قبله من سلطات التي تكون قد اختبرت بالتجربة وتعرفت على الحقيقة أو على الأقل على جانب منها .
وهنا ينقل المؤلف فانبي عن مؤرخ الثورة الفرنسية ألفونس أولار قوله في عام 1885: "كم كانت الجمهورية الفرنسية رائعة في ظل الإمبراطورية "!!.
تتلاقى هذه العبارة بكل ما تحمله من تهكم على الحركات الثورية مع الخلاصة العميقة التي وصل إليها المؤلف في عرضه لتاريخ فرنسا الحديث. ومفادها أن الحرية قيمة غير قابلة للاحتكار .. وأنها ليست وقفاً على مواطنين –داخل الدولة- دون الآخرين من الناس .. داخل الامبراطورية .
وبالتالي فإن مصادرة الحريات هي التي أشعلت الحركات الوطنية الاستقلالية في الدول التي كانت تحتلها فرنسا، من الجزائر على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط .. إلى "الهند الصينية" في أقصى آسيا.
وهنا يحذر المؤلف من حصر الحق بالحرية بالمواطن "المتحدر من أصول فرنسية" وتقييدها على المواطن الذي يتحدر من أصول أخرى. وهذه "ظاهرة مرضية" لا تقتصر على فرنسا وحدها .. ولكنها بدأت تتفشى في العديد من المجتمعات الأخرى في أوروبا والعالم. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب من حيث المضمون ومن حيث التوقيت معاً.
-------------------------------------------
اسم الكتاب: فرنسا: التاريخ المعاصر من الثورة إلى الحرب على الإرهاب
France : A Modern history From The Revolution To The War With Terror.
اسم المؤلف : جوناثان فانبي Jonathan Fenby
اسم الناشر : سانت مارتن للصحافة St. martin Press
تاريخ النشر : 2017
عدد الصفحات : 536
