الإسلام كمرجع للتشريع.. بين التطبيق الحَرفي وروح القوانين

 أسماء عبدالله القطيبي

يطرح فضل الله محمد إسماعيل أستاذ فلسفة السياسة، في مقاله "روح القوانين في التشريع الإسلامي" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- مجموعة من الأسئلة حول مدى ملاءمة التشريع الإسلامي للتطبيق في عصرنا الحالي، وعن مدى إلزامية تطبيق النصوص الواردة بهذا الشأن في القرآن والسنة، كما أنه يطرح تساؤلاته حول إمكانية تطبيق الحدود الواردة في النصوص في العصر الحديث. لكننا قبل أن نستفيض مع الأستاذ فضل الله في طرح مزيد من الأسئلة، لابد أن نحدد ما المقصود بالتشريع الإسلامي الذي يدور التساؤل حوله؟.. إن الإسلام عندما جاء، لم يكن فقط كتابا منزلا، ولم يأتِ به نبي مُترهب، بل كان منهجَ حياة عاش من خلاله الرسول وصحابته الكرام سنوات طويلة، تحركوا به وطبقوا أحكامه وقوانينه، فازدهرت الأمة وبلغ صيتها الطيب أقاصي الأرض، ونعِم من عاش تحت ظل الدولة الإسلامية بالعدل والرفاه. وكان من ضمن ما طبقوه في منهج حياتهم التشريعات والأحكام الواردة في القرآن والتي أمر بها الرسول الكريم، ومن أكثرها وضوحا: الحدود؛ مثل: حد الزنا والسرقة والقتل، وتلك الأحكام المتعلقة بالحقوق مثل الميراث، وحق اليتيم. فمثل هذه القوانين والأحكام تندرج تحت مسمى "التشريع الإسلامي"؛ كونها أتت بمجيئه وطبقت لأجله.

ومنذ ألف وأربعمائة سنة إلى الآن، طرأ على المجتمعات التي يدين أصحابها بالإسلام تغييرات كثيرة، بدأت من أنظمة الحكم ولم تنتهِ بطريقة العيش التي لا تشبه الطريقة التي عاش بها الرسول وصحابته. وهنا ظهر العديد من الإشكاليات حول تطبيق التشريعات الدينية، فانبرى المتشددون يتوعدون الناس عن الحياد عن نهج السلف الصالح في التشريع، وهو ما أوقع الناس في حرج ومشقة كبيرة، وهناك من دعا إلى اعتبار التشريع الإسلامي تشريعا قديما انتهت منفعته بانتهاء العصر الذهبي للإسلام، وعلى المجتمعات الآن أن تجد لها تشريعات تتماشى ومتغيرات العصر. وبين هذا وذاك، ظهر ما يسمى بـ"روح التشريع"، وهو ما تناوله الأستاذ فضل الله محمد في مقاله سالف الذكر، موضحا إياه بأمثلة من القرآن والسنة وحياة الصحابة والتابعين؛ حيث إن المقصود بهذا المصطلح هو فهم المغزى والحكمة من كل تشريع، ثم العمل بما يحقق مقصده، فليس المهم من التشريع هو تطبيقه وإنما الغاية التي تتحقق من وراء تطبيقه. وعطفا على هذا، فإن المتأمِّل في القرآن يجد أنه أتى بقواعد عامة راعى فيها المرونة والرخصة والتخفيف، وحتى تلك الأحكام التي ذكرتها نصوص القرآن صراحة فقد بدلت وحولت وحتى ألغي تطبيق بعضها في زمن الصحابة، وذلك دليل على فهمهم العميق للدين ومقاصده، وعلى فهمهم لقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" التي تحرك بها النبي طوال حياته بين ظهرانيهم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك نهي عمر بن الخطاب أصحابه عن قطع يد السارق في عام المجاعة، وتأخيره أخذ الزكاة التي بلغت نصابها من بعض القبائل حتى تتحسن أحوالها، وامتناع سيدنا عثمان بن عفان عن أخذ القصاص من ابن سيدنا عمر بن الخطاب الذي قتل ابنة أبي لؤلؤة المجوسي ثأرا، ودفعه للدية من ماله الخاص. وسار على نهجهم التابعون الأخيار ومنهم عمر بن عبدالعزيز الذي وجد أنه أمام مسائل جديدة لم يتعرض لها الرسول وصحابته؛ مثل: الرسوم الجمركية للموانئ، فقام بمعالجتها وفقا لفهمه لروح التشريع ومقاصده التي تجعل من المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

ورغم اتفاقي مع الكاتب في الأمثلة التي ذكرها، إلا أنني أعتقد أنه وقع في مقارنة مغلوطة، حين قارن بين نظام الشورى في الإسلام والديمقراطية؛ حيث ذكر فيما معناه أن الديمقراطية وإن كانت تشجع على حكم الشعب فإنها تضيق عند التطبيق؛ لأنها تدفع الناس دفعا عبر حملات إعلامية إلى التصويت لأشخاص يتحكمون في مصيرهم وفقا لأهوائهم ومصالحهم الشخصية، بينما ذكر أن الشورى تم إقرارها دينيا، لكن لم يتطرق الدين لطريقتها وكيفيتها لأنها تتغير بتغير المكان والزمان. ووجه المغالطة بالنسبة لي أن الكاتب يقارن بين مبدأ ونظام، والديمقراطية كنظام تطبق مبدأ الشورى، وهو أحقية الشعب في اختيار من يمثلهم، ولكن ما يحدث -ولابد له من الحدوث في المجتمعات البشرية- أن الاختيار يقع على الأشخاص غير المناسبين، أو أن شهوة السلطة والمال تجعل من بعض المُختارين ينحازون لمصالحهم الشخصية بما يضر مصالح المصوتين لهم. وعموما؛ فالأنظمة نفسها في تبدل وتحول، بغية الوصول إلى نظام يحقق العدالة الاجتماعية.

يقول علي شريعتي: "إن الدين الذي لا ينفع للدنيا فهو غير نافع للآخرة أيضا"، وحيث إن القرآن هو آخر الكتب السماوية؛ فبالطبع هو مرجع المسلمين منذ وفاة النبي إلى قيام الساعة، وإنه لمن المؤسف أن نرى من علماء الدين من عطل عقله -رغم نهي القرآن عن ذلك- واكتفى بتطبيق النصوص بظاهرها لقصور فهمه للدين الذي جعله الله رحمة للعالمين، وهو ما ولد في الناس الخوف من الوقوع في التجاوزات، والذي يتضح في سؤالهم عن أبسط الأحكام الدينية وتطبيقاتها، كما أخرج هذا الفهم الحرفي للأحكام الدينية جماعة من المتطرفين الذين يظنون أنهم يطبقون الدين، بينما هم أبعد ما يكون عن روحه. ولو كان الدين هو ما يدعونه لكان الصحابة الكرام هم أول من طبقه، ولكنه أعظم من أن يكون حدا ملزما أو قانونا شاقا، إنما هو دين المبادئ السامية التي وضِعت لينطلق منها المسلم بما يحقق له ولغيره المنفعة.

أخبار ذات صلة