السلام والتسامح في زمن العولمة

هند الحضرمية

عندما انفتح العالم على بعضه وتفجرت العولمة في أرجائه، بدأت تتفجر في الوقت ذاته مشكلات اجتماعية كثيرة، وكأن العولمة بوابة نفذت من خلالها أشكال من العنف والفوضى. من هنا كان لابد من البحث عن فرص لتحقيق السلام والتسامح، في ظل عالم يضج بالفوضى. هذا ما حاول أحمد زايد تسليط الضوء عليه في مقاله المعنون بـ " العولمة وقيم السلام والتسامح: الفرص والتحديات".

يرى البعض أنَّ الوصول إلى السلام في زمن تمتد فيه خيوط العولمة أمر مستحيل، بل إن مجرد الحديث عن ذلك يجعل الوضع يبدو مثالياً، ولعل ما يجعل الأمر يبدو كذلك هو تناقض العولمة، الذي يرجع إلى تركيبها المعقد فرغم أنها جاءت لتجعل من العالم قرية كونية صغيرة إلا أنها في الوقت ذاته أفرزت عمليات مستمرة من الصراع والتنافر والتباعد، ورغم وجود مساعٍ كثيرة نحو تقريب الشعوب وسد فجوات التصادم بين الحضارات إلا أننا نرى في المقابل مساعي لوأد ذلك التقارب، لذا يرى الكثيرون ألا جدوى من  الحوار والاتفاقات الدولية بما أن العنف لم تخف وطأته في الشعوب المستضعفة، وتزايد الضغط على الجماعات الضعيفة، ذلك الضغط الذي يجسد التناقض الكبير المتمثل في اللامساواة! وتراكم المشكلات الاجتماعية أبرزها تزايد معدلات الفقر والبطالة، وظهور صور جديدة من الاتجار بالبشر، حيث تحولت المرأة والطفل إلى سلعة وتجارة رابحة! إضافة إلى تزايد معدلات اللاجئين بخلاف أعداد الذين يطلبون اللجوء السياسي والمشردين، بسبب تزايد الحروب والصراعات العرقية حول العالم، وخاصة في دول العالم الثالث.

وبوجود هذه التداعيات كان لابد من إيجاد خطابات تدعو للسلام والتسامح، سعيا نحو تشكيل عولمة جديدة ذات طابع إنساني، فلا يمكن تحقيق السلام ما لم نحقق التسامح بين البشر، ولا يمكن تحقيق التسامح بدون السلام، ويمكن لهاتين القيمتين أن تلعبا دورا مهما في مواجهة العولمة من خلال جملة من الأدوار استعرضها أحمد زايد في مقاله وهي كالتالي:

تأكيد النزعة الإنسانية للعولمة: يرى ميشيل كيلو أن السبيل إلى ترويض العولمة هو إعادة أنسنتها فبدلا من أن يصاغ العالم وفقا لمصلحة بعض الدول أو المراكز الاقتصادية، يصاغ وفقا للقيم التي تمنع الإنسان من أن يطغى على أخيه الإنسان. من خلال تحقيق الوجود المركزي للإنسان ولا يمكن أن يتم تحقيق ذلك الا بإخضاع رأس المال من خلال القيم الإنسانية.

المشترك الثقافي العالمي: هناك علاقة وثيقة بين الثقافة التي يطورها البشر في اجتماعهم وبين الحاجات التي تمسهم، هذه الحقيقة تقودنا إلى مسألة خلق ثقافات عامة مبنية على الحاجات الإنسانية المشتركة، ولأن الثقافة عبارة عن منظومة من القيم العالمية، التي يأتي من ضمنها قيم السلام والتسامح، فإننا سنتوصل إلى إمكانية تقريب الشعوب تحت لواء هذه القيم، بالشكل الذي يجعل هذه الشعوب قادرة على تحقيق التعايش السلمي المتسامح أو تحقيق تسامح مؤسس على السلام.

تأكيد التعددية الثقافية: يرى أحمد زايد أن قبول التسامح والسلام كقيمتين يمكن أن تقربا الشعوب والقبول بالحد الأدنى من المشترك الثقافي سوف يمهد الطريق لتحقيق التعددية الثقافية، وهذا التنوع الثقافي سوف يعمل على خلق تفاعل بين مختلف المعتقدات ولأن التسامح مع الآخر سيفتح أفق التعايش بين البشر، لذا فإن إعادة صياغة العولمة لا يعني خلق مجتمعات متطابقة بقدر ما يعني تعزيز اختلاف الآخر والتفاعل مع هذا الاختلاف.

ومع زيادة هيمنة السوق وتوحش الرأسمالية من جهة وسيطرة الدول على الشعوب من جهة أخرى برزت منظمات المجتمع المدني التي تبنت رسالة نشر السلام في محاولة للوقوف في وجه تناقضات العولمة والسعي نحو تجديدها رغم اختلاف توجه هذه المنظمات، فهناك المؤيدون للعولمة الذين يتفقون مع التوسع الرأسمالي، ويشجعون الشركات العابرة للقارات، وهناك الرافضون للعولمة الذين يدعون إلى إعلاء الدولة الوطنية، وهناك الإصلاحيون الذين يقبلون بالعولمة كوضع لا يمكن الفكاك منه، ولكنهم في المقابل ينادون إلى إصلاحها وإضفاء طابع إنساني عليها. أما النوع الأخير فهم من يبحثون عن بديل، فهم لا يؤيدون العولمة ولا يعارضونها ولكنهم يتبنون أساليب حياة مستقلة عن الحكومات والمنظمات الدولية، باحثين عن نموذج مختلف للعالم.

ولكن كشأن أي دعوة للتغيير، لابد من وجود جملة من التحديات، وقد ذكر أحمد زايد في مقاله أبرز التحديات التي تقف في سبيل أنسنة العولمة وتحقيق السلام والتسامح، أحد هذه التحديات هي هيمنة السياسة ونمذجة القيم؛ إذ يمكننا اعتبار الهيمنة مرادفا وثيقا للعولمة بشكلها الحالي؛ فالعولمة ذات الطابع الإنساني تسمح بالتعددية والتنافس الخلاق، إلا أن العولمة عكس ذلك تماما، فهي تفرض على الشعوب أنماطا سياسية وثقافية واجتماعية مركزية؛ فالسياسات الليبرالية التي تفرضها العولمة والتي تؤكد المصالح الفردية وتسمح بالعدالة الاجتماعية بالقدر الذي تضمنه الدول لم تساهم إلا في تأزيم الأوضاع الداخلية وفي ازدياد الفقر والبطالة. هذه المركزية التي تحاول العولمة أن تخلقها، مرتبطة بمحاولات نمذجة العالم التي تتم كما ذكر الكاتب عبر وسيلتين، الأولى ترتبط بنشر النماذج الرأسمالية في مختلف المجالات كما ترتبط بنشر الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالحرية والمساواة والقيم وحقوق الإنسان، ولعل هذه الوسيلة هي أكثر ما يميز العولمة الحالية، فنمذجة العالم اليوم تتم من خلال نشر صور ذهنية في مختلف المواضيع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يخلق قالباً نمطياً للقيم.

ونتيجة لنمذجة العالم يتولد لدينا تحدٍّ آخر يتعلق بحدود الهوية وحدود السلام، لأن طريقة العولمة في نمذجة العالم تدفع الشعوب والجماعات إلى إدراك حدودها والدفاع عن هويتها والتحصن بهذه الحدود، ورغم أن علاقة الإنسان بالآخر يدركها الإنسان بحسه الذي يشترك فيه مع غيره، إلا أن التساؤلات التي تثيرها عملية النمذجة حول الأنا والآخر قد تخلق مشاعر عدائية تجاه كل من يختلف عنا في الهوية، ولذا فإن إدراك الحدود يخلق في الوقت ذاته حدودا للسلام والتسامح مع الآخر، خاصة إذا صاحب هذا الإدراك مشاعر سلبية متصلبة تجاه الجماعات الأخرى.

ويتمثل التحدي الثالث في تصاعد أشكال التطرف والعنف، فقد أفرز النظام الرأسمالي أشكالا من التطرف لعل أولها التطرف السياسي الذي صاحب بزوغ النازية والفاشية في أوربا، والتطرف الأيديولوجي والتطرف العنصري الذي يعتمد على الخرافات العقدية أو السياسية والذي يمارس صورا من الاحتلال تجاه الآخر، وأخيرا التطرف الديني الذي يعد شكلا من أشكال التطرف الذي نراه متفشيا في عالمنا العربي بشكل خاص والعالم بشكل عام. وحيث يوجد التطرف لا بد أن نجد العنف، فالجماعات المتطرفة تذكي لدى أفرادها مشاعر العداء تجاه الآخر وتقوي لديهم أساليب العنف. ويذكر أحمد زايد أن خطر التطرف يتزايد مع إمكانية تناقله عبر الجماعات المختلفة حتى تلك التي لم تكن متطرفة، وكأن التطرف بهذا يكون في عملية توالد مستمر، يصاحبها توالد للعنف.

ويبقى أمر تحقيق السلام في العالم مثالياً ما لم تكن هناك جهود فعلية لتطبيقه لا على مستوى الخطابات والمؤتمرات، وإنما على أرض الواقع، فمتى نجد عالمنا ينعم في هدوء التسامح والتعايش مع الآخرين، بعيدا جدا عن النعرات الطائفية والتطرف؟

أخبار ذات صلة