مقارنة الأديان عند ابن حزم

هند الحضرمية

الأندلس .. لا يتناهى هذا الاسم على مسامعنا إلا ويحمل لنا معه شيئاً من ثقله التاريخي يوم كان للحضارة الإسلامية العربية مجدها وقوتها، ولكن ما سيهمنا هنا في هذا المقال هو اهتمام علماء الأندلس – ابن حزم أنموذجا - بدراسة علم الدين بقسميه " تاريخ الأديان ومقارنة الأديان " ذلك الاهتمام الذي كان نتيجة للوضع الاجتماعي والجانب الأمني الديني الذي كان يحيى الناس في ظله وقد تحدث سعيد كفايتي – أكاديمي من المغرب - في مقاله المعنون بـ "دور ابن حزم الأندلسي في تأسيس علم مقارنة الأديان" عن العامل المهم الذي دفع علماء المسلمين إلى عقد مقارنة بين الأديان.

السؤال الذي يجب أن نطرحه بادئ ذي بدء : ما هي الأوضاع التي تميز بها المجتمع الأندلسي والتي ساعدت على اهتمام علماء المسلمين فيه بدراسة الأديان؟

كان المجتمع الأندلسي مجتمعاً ذا تركيبة سكانية مُتنوعة إذ كان خليطاً من الأجناس والأعراق والديانات والمذاهب؛ فإلى جانب العرب كان هناك الأمازيغ والصقالبة واليهود والنصارى وغيرهم مما يعني وجود تنوع لغوي فريد، وقد كان للثقافة العربية تأثير على بعض اللغات مثل اللاتينية والأمازيغية إذ تراجع استعمالها أمام وجود اللغة العربية.

 ولكن السمة التي ميَّزت المجتمع الأندلسي في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية هي وجود جو من التسامح الديني، الأمر الذي عزَّز من أمن واستقرار المجتمع. وقد كانت هذه الظروف أيضاً – مثلما أشار كفايتي – عاملا مساعدا في انخراط الكتّاب المسيحيين واليهود مبكراً في عملية التأليف بالعربية وذلك بعد أن تشبعوا بالثقافة العربية أيما تشبع مقتفين خطى علمائها المُسلمين في مجالات علمية مختلفة.

 " وقد استفاد اليهود جيدًا من هذا الوضع حتى أن مؤرخيهم المعاصرين يسمون فترة عيشهم بالأندلس في كنف الدولة الإسلامية بالعصر الذهبي، حيث أصبح منهم الوزراء والشعراء والأدباء. وكان في طليطلة مسلمون، يهود ومسيحيون يعملون معاً على ترجمة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة. كما قامت في قرطبة مدرسة للدراسات العبرية وتوسعت حتى أصبحت دار الإفتاء للشريعة اليهودية وأصبحت بديلاً لمدرستي العراق(صور وبمباثا)اللتين كانتا تصدران الإفتاء لليهود "

ورغم أن الكثير من كتب المسلمين في مجال دراسة الأديان قد ضاعت ولم يبق منها إلى القليل، فإنّ ما بقي منها كان دليلا على الأهمية التي حظيت بها مثل هذه الدراسات في الثقافة العربية القديمة وقد ذكر كفايتي في مقاله بعضاً من الكتب التي يمكن أن تدرج في مجال دراسة الأديان من بينها (الرسائل المختارة في الرد على النصارى للجاحظ – الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم – أجوبة الحيارى في الرد على اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية وغيرها كثير) " وقد تعززت هذه الدراسات بكتب العلماء المسلمين الذين كانوا في الأصل يهودا أو نصارى مثل كتاب "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" للشيخ عبد الله الترجمان الميروقي الذي كان قسيسا وأسلم. وفي المقابل قام بعض العلماء من اليهود والنصارى بالكتابة في هذا المجال مثل أبي حسن يهودا اللاوي صاحب كتاب " الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل " الذي دافع فيه باستماتة عن اليهودية.

وهناك من يرى بأن التسامح في المجتمع الإسلامي آنذاك هو الذي جعل للمسلمين السبق في مجال مقارنة الأديان لأنهم كانوا يعيشون في حالة اعتراف بالأديان السماوية وحتى غير السماوية مثل الهندوسية والبوذية بعكس أصحاب الديانات الأخرى التي كانت لا تعترف بأي دين سواها {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة من الآية:113] لذا لا يمكن أن تقوم مقارنة بين الأديان طالما لا يوجد هناك اعتراف بباقي الديانات.

ومن بين علماء المسلمين كان لابن حزم السبق في تأسيس علم مقارنة الأديان ويعتبر كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" من أهم الكتب في هذا المجال نظرا لانفتاح ابن حزم على الديانات الأخرى وعقده لمقارنات بينها وبين الإسلام كخطوة جريئة ولانتقاله من مستوى الوصف إلى مستوى النقد الصريح للتوراة وأسفار العهدين القديم والجديد.

وبالنسة للمصادر التي اعتمد عليها ابن حزم في نقده للتوراة ذكر كفايتي أن ابن حزم كان يجهل اللغة العبرية لذا فقد اعتمد على مصادر غير مباشرة من خلال الشروح والتراجم الكاملة أو الجزئية للكتاب المقدس ولكنه في المقابل كان على معرفة واسعة باليهودية مكنته من نقد التوراة بشكل منهجي.

 وقد كان ابن حزم ظاهري المذهب ونقده الظاهري للتوراة مثلما أشار الدكتور حامد طاهر في" منهج النقد التاريخي عند ابن حزم " تمثل في اطلاعه على نسختين مختلفتين للتوراة وتتبعه للتاريخ السياسي والديني لليهود والظروف التي تم حفظ التوراة فيها ووجد أنه " منذ وفاة موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لليهود وقع لبني إسرائيل سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا عبادة الأصنام ثم في أثناء سقوط الأسباط العشرة من بني إسرائيل تراوح أمرهم بين الإيمان والكفر... وقد قدم ابن حزم الكثير من التفاصيل الدقيقة بهدف الوصول إلى حقيقة أن التوراة قد مضى عليها تاريخ مضطرب مليء بسنوات الكفر والاضطهاد الديني للأنبياء قد تعرضت للتبديل والتحريف والتغيير والزيادة والنقصان وبهذا توصل ابن حزم إلى أن نص التوراة الأصلي قد تعرض من الناحيتين الزمانية والمكانية لظروف تجعلنا لا نثق به. وقد حرص ابن حزم على أن يكون منصفًا في نقده للتوراة ولذلك استبعد من نصوصها ما كان محتملا أو غامضًا حتى لا يدع مجالا لمعترض وقد اقتصر في جمع مادته على النصوص الصريحة في الدلالة المباشرة على ما يريد."

وتطرق كفايتي إلى ذكر الدراسات الحديثة في مجال مقارنة الأديان في أوربا التي شهدت منذ عصر النهضة قراءة جديدة للعهدين القديم والجديد، مشيراً إلى أنّ أهم سمة تميزت بها تلك الدراسات هو تجريدها للنصوص الدينية من قدسيتها وتطبيق المناهج المختلفة عليها، وقد ظهرت هذه الدراسات أولا على يد باروخ سبينوزا، الذي أُرجع له الفضل في تأسيس علم مقارنة الأديان! ثم بلغت قمة ازدهار هذه الدراسات في القرنين التاسع عشر والعشرين.

وعلى الرغم من عدم اطلاع ابن حزم على المصادر المباشرة للتوراة مثلما ذكر كفايتي لجهله باللغة العبرية واللغات السامية المعروفة في عهده، فإنَّ تطبيقه للمنهج التاريخي والفيلولوجي أثناء نقده للتوراة جعل منه مؤسسًا حقيقياً لعلم مقارنة الأديان ورائدا في علم نقد التوراة.

وبعد كل ما سبق ندرك أن ذلك الجهد الذي بذله علماء المسلمين في دراستهم للأديان التي تعاملوا مع أهلها وحتى تلك التي تعرفوا عليها في رحلاتهم وحرصهم على فتح باب الحوار مع الآخر بهدف التعرف عليه عن قرب، رغم أن القوة يومها كانت بيد الإمبراطورية الإسلامية، لم يكن ترفاً بل كان عاملاً مساعداً على خلق جو من التسامح الديني، وما أحوجنا اليوم إلى مثل تلك الحوارات التي تقرب بيننا أكثر في زمن التشتت والتطرف.

 

أخبار ذات صلة