هند الحضرميّة
لعلّ فكرة القوميّة العربية من أبرز الأفكار التي راودت فكر العربي الذي يرى أنّها قد تكون الخلاص من المعاناة التي ترزح تحتها الشعوب العربية، وكأنها المرسى الذي سيعيد الاعتبار للأمة العربية المنهوكة، وقد كان من بين أبرز مؤسسي الفكر القومي العربي "ساطع الحصري" الذي تبنى فكرة الدعوة للقومية العربية، وقد قدّم عبد الإله بلقزيز- باحث وكاتب من المغرب- نقدا لأطروحات الحصري في مقاله المعنون بـ "الأمة في الخطاب القومي: نقد أطروحات الحصري".
تطرق عبدالإله إلى ذلك الانتقال الذي شهدته فكرة القومية من عاطفة ضد سياسة العثمانيين في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين إلى سياسة تبنتها النخب في الوطن العربي وكفكرة لشحذ عواطف العامة ضد سياسات المستعمر الأجنبي، بعد تقسيم الدول العربية، وقد كان الهدف من هذا هو توحيد الأمّة التي مزقها الاحتلال. تصعدت شرارة هذه الفكرة بعد فشل الثورة العربية في بناء كيان عربي قومي ضد السلطة العثمانية، وتعززت أكثر بعد علان معاهدة سايكس بيكو التي قسمت المشرق العربي بين إيطاليا وفرنسا بالإضافة إلى إعلان وعد بلفور الذي اقتضى بمنح وطن قومي لليهود.
هذا الانتقال في فكرة العروبة القومية (من الاشتباك مع الأتراك، ثم الاشتباك مع الاستعمار) لم يكن مجرد انتقال من فترة زمنية لأخرى، ولكنه وكما ذكر عبدالإله خلص العرب من فكرة وضع العروبة على المحك أو مقابل الإسلام الذي مثلته الرابطة العثمانية، وبالتالي فإن مطلبهم لم يعد يتمثل في (الانفصال) وإنما (التوحيد)، فإذا اعتبروا سابقا كانفصاليين في نظر العثمانيين فقد أصبحوا بعد فكرة القومية العربية أمام المستعمرين "وحدويين".
وبعد ذلك أصبحت فكرة القومية العربية أيدلوجيا سياسية نتيجة للحراك السياسي الذي بدأ يظهر في المشرق العربي، وقد تبلورت نتيجة لذلك الحراك في فترة العشرينيات من القرن العشرين أربع أكبر أيديولوجيات سياسية في الوعي العربي وهي (الوطنية، القومية، الماركسية، الإسلامية)، كما بدأت الحركات السياسية والحزبية بالتشكل.
لكن فكرة القومية العربية لم ترقَ لتصبح "رؤية نظرية" لدى الأجيال الأولى على الأقل من المنشغلين بالكتابة حولها، وقد وضح عبدالاله ذلك بسبب تأثر أولئك الكتاب بالفكر القومي الغربي ومحدودية اطلاعهم على ذلك الفكر كان له أثر على التماسك النظري فيما كتبوه، وربما لأنّ شاغلهم كان سياسيا وليس نظريا. لكن افتقار الفكر القومي العربي إلى الرؤية النظرية لم يصب الفكر بالقصور والنقص فقط ولكنه أثر أيضا على الجانب السياسي إذ أصاب العمل السياسي بالعمى!
والحديث هنا حول " تشكيل نظرية قومية" لا يعني أنّ القومية مسألة عامة تنطبق على الظواهر القومية حول العالم. لأن ذلك غير ممكن بسبب تنوع تجارب التوحيد القومي، أي أن هناك نظريات قومية وليس نظرية واحدة، وبالتالي نستطيع القول إن هناك تراكما فكريا في المجال السياسي الحديث، كان يتوقع من المنشغلين بالكتابة حول هذا الأمر أن يستفيدوا منه ومن وقائع التاريخ والحاضر العربي.
وقد حاول الحصري تكوين نظرية في المسألة القومية، مستفيدا من اطلاعه على مدارس الفكر السياسي الأوروبي (الليبرالية، الاشتراكية، والقومية) والوقوف على أهم العوامل التي لها يد في تكوين الأمم.
لذا حاول التعمق في فكر المجتمعات التي عانت من وطأة التجزئة "في حاضرها ومستقبلها مثل المجتمع العربي" مثل إيطاليا وألمانيا. ورغم سعيه نحو تشكيل بناء نظري متماسك إلا أنه كما يرى عبدالإله وقع في اختزال القومية باعتبارها مجرد نظرية في تكوين الأمة، لذا لم تكن هناك مساحة للدولة القومية أو ديناميات التوحيد القومي- فالعلاقة بين الدولة والأمة عند الحصري مثل العلاقة بين الشجرة والثمرة، وكأن الدولة مجرد ثمرة من ثمرات الأمة، ولا يتوقف وجود الشجرة إذا وجدت تلك الثمرة أو لم توجد.
ويمكن أن نفهم نظرية الحصري في تكوين الأمة من خلال طرح السؤال التالي: هل للأمة علاقة بالعِرق والنسب أم الدين؟ ربما يترادف مفهوم الأمة لدى البعض بمفهوم العِرق أو الأصل الدموي المشترك " مثلما كان في مراحل تاريخية بأروبا" أو قد يكون مرتبطا بمعنى الجماعة الدينية مثل " الأمة الإسلامية"، لكن هذا السؤال ليس له معنى لدى الحصري، لأنه برأيه يتجاهل العوامل الحقيقية التي تكون الأمم، فهو يرى أن الأمة ليس لها أصل واحد فقط " العِرق مثلا" وليس لعامل واحد الدور الأساسي في التكوين " مثل الدين" وما من أمة انحدرت من أصل واحد، فجميع الأمم هي تمازج بين مختلف الأجناس والأعراق، ولهذا لا يمكن القول بأن الأمة تقوم على فرضية العرق والدم والأصل الواحد. ويؤكد أن الدين قد يلعب دورا في "توليد" الوحدة وإن لم يكن دائما، لكن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية.
ويرى أن اللغة والتاريخ هما أهم عاملين في تكوين الأمة، فاللغة هي روح الأمة وحياتها، وأن التمايز بين الأمم هو تمايز في اللغات، فاللغة بمثابة العمود الفقري للقومية ومحورها، والتاريخ هو شعور الأمة وذاكرتها. تفقد الأمة وجودها عندما تضيع لغتها وتندمج في الأمة التي تفرض عليها لسانها، كما تفقد شعورها إذا فقدت تاريخها. ورغم أهمية هذين العاملين لابد من وجود عامل الاتصال الجغرافي جنبا إلى جنب مع العاملين السابقين.
ومثلما استبعد أثر الأصل الواحد والدين في تكوين الأمة نظر بسلبية للعامل الاقتصادي وانتقد الماركسيين الذين كانوا يرون أن القومية مرتبطة بالسوق والعوامل الاقتصادية: "إن الأحاسيس الوطنية والقومية لا ترتبط بالمنافع والمصالح الاقتصادية لأنّها من النوازع والعواطف التي تسمو على الحسابات النفعية"؛ وذلك لأنّ المصالح متغيرة ولا يمكن إقامة قومية على المتغير وإنّما على الثابت. كما انتقد الفكر الفرنسي الذي يرى أن القومية تتقرر بالمشيئة والإرادة، لأن كلا منهما يتغير والأخذ بهما لا يتوافق مع المنطق.
وقد تطرق عبد الإله لبعض الملاحظات النقدية حول أطروحات الحصري التي يرى أن بها بعض التناقضات بين المقدمات والنتائج أحيانا، فإذا كان الاشتراك في اللغة من أهم عوامل تكوين الأمم لماذا لا يمكن اعتبار الإنجليز والأمريكان والأمم الاسكندنافية أمة واحدة، مادام المشترك بينهم هو اللغة؟ وكيف لأطروحته التي تماهي بين الأمة واللغة أن تفسر عدم التناسب بين خريطة الأمم وخريطة اللغات في العالم، (أمم تحسب بالعشرات، ولغات تحسب بالآلاف). كما أنه استبعد دور الدين رغم أن الدين الإسلامي مثلا هو من ساهم في حفظ اللغة العربية. كما أن الاتصال الجغرافي عند الحصري قد يرادف الاتصال البري، رغم أن الواقع يدلل على قيام أمم رغم وجود حوائل مائية فيها، كما كان الحال مع الحضارة اليونانية ومع حضارة اليابان. وهو عندما دحض العامل الاقتصادي في تكوين الأمم باعتبار أن الأحاسيس الوطنية لا ترتبط بالمنافع والمصالح المادية، وأن الأمة عاطفة تسمو على الحسابات النفعية فإن ترديد هذا لا يعدو كونه تفكير "غيبي ما ورائي" إذ كيف تختزل ظاهرة مثل القومية إلى مجرد أحاسيس وعواطف!
وأخيرا إنّي أتساءل ما إذا كنا بحاجة حقا إلى قومية عربية أم لا، ليبرأ جسد الوطن العربي من الأمراض التي حلت به، وهل المستقبل مرهون بتحققها؟
