بين الاتزان الديني والسياس

عاطفة المسكرية

عندما يُذكر التاريخ بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية يُشار إلى جانبين فيه: الجانب المشرق الذي تتشبث به بعض المجتمعات والأمم إلى يومنا هذا، وهناك أيضا الجانب المظلم منه مثله مثل كافة المجالات. إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لامس الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في التاريخ الإسلامي؛ حيث يزخر التاريخ بقصص تشير إلى السلوك والهدي النبوي في مختلف المواقف الحياتية وفي كافة المجالات. لكن لا بد من الإقرار بأن الأزمنة تختلف والظروف كذلك، وهذا ما أوضحه عبدالنبي الحري في مقال له منشور بمجلة "التفاهم"، بعنوان "الجابري ومحاولة ترشيد الإسلام السياسي".

فما كان يعدُّ مقبولا بين المجتمعات في السابق -أيًّا كان مجاله- قد لا يعد مقبولا اليوم. عدا أنه من المهم التنويه في هذا السياق أن ذلك لا يقلل من شأن أي من المجتمعين، بل يعد احتراما لخصوصية الظروف المحيطة بمجتمع ما في فترة زمنية محددة. هذه الفكرة تحديدا تشكل مصدر جدل بين العديد من الفقهاء والمجتهدين في الشريعة إلى يومنا هذا؛ حيث يجتهدون لمطابقة الأحكام لتتناسب مع الظروف الزمكانية الحالية المختلفة. يتفق الكثير أنه لا بأس من الاجتهاد، إلا أنه يجب أن لا يكون حكرا على أحكام معينة جامدة غير قابلة للتغيير؛ فالمرونة مطلب بسبب الاختلاف والتغيير الدائمين "فالتغيير هو الثابت الوحيد"، وهذا ما تثبته كل الأعراف والموروثات التي حاولت مقاومة التغيير؛ فكان مصيرها من مصير كل المتغيرات الحياتية. إن هذا التمسك مصدره غالبا الخوف من فقدان الهوية التي تشكلت وفقا للظروف التي وجد الإنسان نفسه فيها منذ أن فتح عينيه. هذه الظروف المحيطة بما فيها من عناصر أسهمت في تكوين شخصية الإنسان وهويته التي تمده بشيء من القوة؛ كونه يستطيع عبرها فهم نفسه أولا وفهم المجتمع من حوله؛ وبالتالي يخلق حالة من التماسك بين عناصر المجتمع.

إنَّ الجهل بالماضي أو عدم معرفته يصنع بداخل الإنسان شيئا من الخوف نتيجة الشعور بالتيه أو الضياع، ناهيك عن كون هذا الأمر يختلف من أمة لأخرى؛ فقد عرف عن العرب مثلا شدة افتخارهم بأجدادهم وتاريخهم بما فيه من موروثات ومن عادات وتقاليد. بل وصل الأمر بهم أن يقلل "البعض" من المجموعات التي قد لا يعرف ماضيها وتاريخها. إن الشخص القادم من مجتمعات ذات ثقافة مختلفة قد يستنكر الموضوع، وربما يخلق فيه هذا الأمر علامة استفهام كبيرة. إن تفسير مثل هذه الأمور غالبا ما يكون حول كون الإنسان بطبيعته يستمد القوة من خلال العناصر المشكلة لهويته؛ لذلك نجده متشبثا بها. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إقرار ثبات هذه الموروثات المقتبسة كليًّا من التاريخ؛ حيث إن الظروف العالمية اليوم تختلف عما كان موجودا في السابق بـ180 درجة فأكثر. العولمة ونتائجها من جانب وتطور الحضارات؛ حيث تحول القرى إلى مدن والأنظمة الجمعية إلى الأنظمة الفردية، كلها عوامل تعاكس ثبات المكتسبات التاريخية المعنوية تحديدا. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق الفئة التي تحارب الفكر التجديدي على أنه معادٍ للمكتسبات التاريخية بما فيها الأنظمة الدينية السابقة، وهي عادة لا تتقبل فكرة تغيير الظروف الزمكانية مؤمنة بأن الأنظمة تلك وجدت لتتطابق مع المعضلة أي كان المكان وأيا كانت الفترات الزمنية. وهناك فئة أخرى كذلك تشير إلى فصل الدين عن السياسة مثلا، لا مهاجمة للدين إنما حماية له من الانخراط في وحل السياسة التي تسير وفقا لمصالح غير ثابتة بالمرة. إلا أننا وإحقاقا للحيادية شهدنا كيف كان التاريخ زاخرا بالمواقف الملامسة لديننا في كافة المجالات التي ذكرت سابقا بما فيها السياسية.

هذا لا يعني أننا نطبق ونستنبط كل الأمور دون مراعاة الحيثيات؛ حيث إنه لا يعد تهجما على أي من العناصر الموروثة والمساهمة في تكوين هوية الفرد. إن العقل لمطلب مهم لقياس الآلية التي سيتم فيها العمل على تكوين الحلول للظواهر المجتمعية في مختلف المجالات. غير أن الواقع يثبت سهولة الحديث عن المثاليات، بينما تصعب المهمة كثيرا عند التطبيق؛ فتتدخل العواطف في الحكم على الأمور. يقول الأستاذ ستروثمان "الإسلام ظاهرة دينية وسياسية؛ إذ إن مؤسِّسه كان نبيًّا وكان سياسيًّا حكيمًا، أو رجل دولة". وكثرت الأقاويل المشابهة في هذا الجانب، لذلك لا يمكننا إلقاء اللوم على من يصر على تطبيق الأحكام في كافة المجالات مستنبطا إياها من المواقف الدينية، لكن أن لا تكون هناك مرونة هذا ما يستدعي إعادة النظر حول الموضوع مرة أخرى. إن فهم النظريات الإنسانية لهي مسألة ليست بسهلة بتاتا وتحتاج كما هائلا من الحكمة والتوازن المنطقي. فالدين مثلا لا يبنى على الاختيار بين الأسود والأبيض فقط دون خيارات أخرى. فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الأمر كله يسيرا ليسهل تطبيقه تماشيا مع منطق الحياة البشرية التي تمر بظروف مختلفة يوما بعد يوم. فمن يتوقع غير ذلك وكأنه يتوقع إعجازا بشريا لا يتماشى مع الواقع. ومن جانب آخر، نجد السياسة تضع الإنسان وسط خيارات محدودة جدا، وأحيانا يصبح كل ما تبقى لديه عبارة عن خيارات سيئة يضطر أن يختار الأفضل بينها. هذه المساحة بين الدين والسياسة إذا ما جئنا نتحدث عنها تبدو مظللة نوعا ما؛ فالدين منطق وعاطفة. أما السياسة، فهي بين المنطق واللامنطق غالبا، فلا وجود للعاطفة بينهما. إن منطق التعايش السلمي بين البشر يشير إلى أهمية المرونة في كل شيء. فالمرونة الفكرية والاجتماعية تساعد على فهم الطرف الآخر أو محاولة فهمه على الأقل؛ حيث إن الخلافات ما هي إلا نتيجة سوء الفهم الحاصل بين مختلف الأطراف التي ترى أنها على صواب وحق، والأطراف الأخرى ما هي إلا مجموعات تتبع الباطل على ضلالة. لسنا في موقع يؤهلنا للحكم على الأشخاص وما إذا كانوا على حق أم باطل، عدا أننا نستخلص أن البقاء في المنطقة الرمادية يقلل من حدة الخلافات الناتجة عن الاختلافات بين مجموعة تتشبث بكل العناصر التاريخية على عمى رافضة وضعها تحت "الاختبار"، وبين الفئة الرافضة لهذه العناصر بسبب الاختلاف الكلي للعناصر الزمكانية.

أخبار ذات صلة