داود الهطالي
يُعد علم أصول الفقه من العلوم العريقة التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية، هذا العلم تتمازج فيه تراكيب من التداخلات المعرفية والعلمية التي تتفاعل مع بعضها البعض، فتشكل نسقاً منهجياً متكاملاً ومتداخلاً مع العلوم الأخرى، جامعا بين النقل والعقل والنص والرأي، حيث قال محمد بن عمر في مقاله، المنشور بمجلة التفاهم، (علم أصول الفقه وتداخل العلوم) إن علم أصول الفقه هو علم منهجي استنباطي ضابط للفهم ولصيق باستنباط الأحكام الشرعية.
بداية ما الفرق بين علم أصول الفقه وبين علم الفقه؟ علم أصول الفقه كما بيَّن الكاتب في المقدمة علم يعمل عمل النظرية العامة فهو يعين الفقيه على الاستنباط ويعصمه من الزلل في الاستدلال؛ فلا يقول من شاء ما شاء، وإنما ترد الفروع إلى أصولها، وترد الأصول إلى مصادرها المعصومة. ويعمل علم الفقه على توجيه نظريات علم الأصول وتطبيقها على أرض الواقع، من هنا تتضح العلاقة بين علم أصول الفقه وعلم الفقه على أنها علاقة النظرية بالتطبيق. يعد هذا التلاحم والتداخل بين علم الفقه وعلم أصول الفقه أحد التجليات التي سادت العلوم عامة، وهذين العلمين خاصة. والسبب في ذلك ما شهده البناء المعرفي للعلوم الشرعية؛ فلم تكن بمنأى عن العلوم الأخرى. ومما عزز هذا التكامل والتداخل أن هذه العلوم بفروعها -أصلية كانت أو خادمة للأصل، عقلية أو نقلية- اجتمعت لخدمة القرآن الكريم بيانا واستنباطا واستمدادا وتفسيرا وتأويلا وتوثيقا و...، فما من علم من العلوم إلا وكان القرآن الكريم المحور الذي يتحرك حوله هذا العلم، فكما قال ابن جزي الكلبي في مقدمة كتابه تفسير القرآن الكريم (هو المقصود بنفسه، وسائر العلوم أدوات تعين عليه، أو تتعلق به، أو تتفرع عنه) فالناظر يرى أن القرآن الكريم هو المؤسس للثقافة العربية الإسلامية، فهو الخلفية التي ترد لها المعارف والقضايا الجديدة التي أتت من الثقافات الأخرى؛ فإرجاعها للقرآن الكريم يُبين الحكم الشرعي فيها، فتكون الثقافة العربية الإسلامية مكوناً راسي الأساس شامخ البنيان لحضارة عربية إسلامية.
بحكم عربية شريعة الإسلام، تأسس هذا العلم مترابطا مع اللغة العربية، بحيث أجمع العلماء بكافة مذاهبهم أنه يلزم مريد الإجهاد والاستنباط أن يكون عالمًا باللغة العربية مدركا لأحكامها سواء كانت هذه الأحكام مرتبطة بالمعجم أو بالسياق أو الدلالة أو التركيب، لأنه يترتب على المعرض عن اللغة العربية الضعيف في أحكامها أخطاء في الاستنباط وزلل في الاستدلال، لأن نصوص الشريعة عربية اللغة -كما أسلفنا الذكر- فيجب على المجتهد إتقان العربية ليتمكن من إيجاد ضالته بين النصوص الشرعية، لذلك نرى الأصوليين وكبار علماء علم أصول الفقه يبحرون في علم اللغة متقنين له؛ من أمثالهم الإمام الشافعي ونلحظ ذلك في كتابه "الرسالة"، فنتج عن هذا التَدَانَي والتلازم المنهجي والمعرفي بين اللغة العربية وعلم أصول الفقه ما أسماه الأصوليون القواعد العربية الأصولية، كل هذا ليكون المجتهد قادرا على فهم النص من أجل استنباط الحكم الشرعي من النص، إذ إن الفقيه يبذل قصارى جهده وطاقته الفكرية والعلمية من أجل بيان المعاني التي تحملها النصوص الشرعية بشتى أنواعها.
علم أصول الفقه هو العلم الضابط للدليل ومنطق الفقه، بحيث طُور علم المنطق ليكون خادماً لعلم أصول الفقه، ومن أوائل العلماء الذين سخّروا المنطق وروّضوا مباحثه لأغراض بيانية تشريعية الإمام الغزالي، الذي كان هدفه من هذا التطويع هو حل الإشكالات التشريعية التي تطرحها القضايا الجديدة، حيث عمل على وضع الضوابط والقواعد والمقولات التي تقرّب علم المنطق من علم الأصول ودافع بشدة عن هذه الصناعة، لكن بعدما انتشرت هذه الصناعة بين أوساط الأصوليين تمكنوا من علم المنطق فهمًا ودراسة وتحليلا، فبدأوا بوضع مجموعة من القواعد المنطقية العقلية المبنية على الإيجاز والاختصار وقد صيغت وفق معايير علم المنطق، من هذه القواعد (الأصل في اللفظ أن يحمل على الظاهر)،( الأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقية)،( العادة محكمة)،(العبرة بالمقصود لا بالملفوظ)،( إذا تعارضت التأويلات فأقربها إلى الصواب هو ما جاء منسجماً مع مقام الخطاب) هذه القواعد تبين لنا عمق العقلية الفقهية الإسلامية إذ جعلت هذه القواعد ضوابط تعين الفقيه في الاستنباط، وميزة هذه القواعد أنها لم تحدد بمكان ولا زمان بحيث تستوعب القضايا المستجدة على الساحة الفقهية.
من الإشكالات التي يترتب على المجتهد النظر فيها، هي أنه يجب عليه أن يكون عالماً بالواقع الذي يعيش فيه مدركا لمستجداته ومتغيراته وثقافته ومشاكله اليومية، إذ يلزم المجتهد نظر في هذه الأمور لأنه سينزل الحكم الشرعي من النص إلى الواقع، فمن العلماء من ألزم المجتهد أن يكون على اطلاع بالجهة التي ينظر فيها؛ لينزل الحكم الشرعي وفق تلك الجهة، ويمكن لنا أن نصف المجتهد بعبارة ابن القيم "هو الذي يجمع بين النص والواقع، ويحقق التواصل بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، لا من يلقي العداوة بينهما، ويقطع التواصل بينهما، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم" بهذا يكون لدى الفقيه فقه الواقع الذي من خلاله يكون بمنأى عن فوضى التدفق والسيولة العشوائية للمعرفة الدينية في الآونة الأخيرة، فإذا كان المجتهد ضابطا لهذه القواعد كان الحكم الذي يعرضه حكما نافعا للمجتمع حالاً لمشاكلهم، وإن قصّر المجتهد في هذه القواعد ستكون المشكلة مشكلتين، الأولى زلل في الحكم الشرعي وإذا كان الحكم الشرعي فيه زلل فعند التطبيق على أرض الواقع ستظهر المشكلة الثانية، هذه الأهمية التي يتميز بها علم أصول الفقه مصدرها ترابطه وتداخله مع العلوم الأخرى. كذلك لابد للفقيه أو الشخص الذي يطلب هذا العلم أن يكون واضعاً قواعد العلم نصب عينيه وأَلا يوقع نفسه وغيره في الزلل.
