المُقتدر الإنساني.. كيف يمكن للإنسانية المشتركة أن تعيننا على خلق عالم أفضل

Picture1.png

تأليف: أدم وايتز

عرض: محمد الشيخ

يطرح هذا الكتاب مسألة ما الذي يقتدر الإنساني في الإنسان على أن ينجزه؟ ويقوم على دحض دعوىوأطروحة أخرى: فأما الدعوى المبطلة، فهي أن سمة "الإنسانية" تخص ولا تعم؛ أي أنها حكر على طائفة من الناس (متطرفون، بيض، محافظون...)، وأما الدعوى المحقة، فهي أن كل واحد منا -معشر البشر، ومهما كان ديننا أو ثقافتنا أو عوائدنا أو ألسننا...ـ له "نصيب متساو" في "الإنسانية"، وأن علينا إعادة تعلم النظر إلى إنسانية الأغيار بعد أن فقدناه.

ومنطلق المؤلف ما وقف عليه مما يعده "مفارقة صارخة" تخص أمر المشترك الإنساني: من جهة المبدأ، يقتدر ما هو إنساني على فعل الكثير، ومن جهة الواقع صارت السمة التي تطبع زمننا هي حرمان الكثير من الناس من النظر إليهم على أنه أناس؛ أي من اعتبارهم في إنسانيتهم. وهي مفارقة يلاحظ المؤلف أنها زادت من حدتها التكنولوجيا الحديثة: بقدر ما صار بمكنتنا الاطلاع على إنسانية الآخرين، عبر وسائط الاتصال التكنولوجي التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، عملت هذه الوسائل على عزلنا عن إنسانية الأغيار، وذلك بأن جعلنا الاطلاع على عوائدهم وعقائدهم في حِلٍّ من الالتزام الأخلاقي نحوهم؛ أي من النظر إليهم بحسبانهم "بشرا مثلنا".

ويتكوَّن هذا الكتاب من بابين، فضلا عن مقدمة وضميمة وكلمة شكر وهوامش وكشاف ورود المفاهيم والأعلام. يدور الباب الأول حول سؤال: كيف نلمح حضور الإنساني في كل إنسان؟ وهنا يدخل مفهوم "المقتَدَر الإنساني" على الخط: ترى، ما الذي تقتدر عليه إنسانية الإنسان؟ وجملة الجواب أن هذه المقدرة على إدراك الإنساني في الإنسان من شأنها أن تثمر عن ثلاثة أمور إنسانية: أ ـ أن تجعل حيواتنا وخبراتنا اليومية ذات دلالة ومعنى. ب ـ أن تلهم عنايتنا الأخلاقية بأغيارنا من بني الإنسان، وحتى من غير بني الإنسان ممن يشكلون شبها بالإنسان. ج ـ أن تلهم ذواتنا وتؤثر فينا بحيث تقدرنا على اتخاذ إجراءات فعالة.

هذا ويتضمن الباب الأول خمسة فصول: الفصل الأول: المنعطف النازع لإنسانية الإنسان. الفصل الثاني: بنو الإنسان صناع المعنى. الفصل الثالث: أخلاقية الإنسانية. الفصل الرابع: التأثير الإنساني باعتباره الحاث على الفعل. الفصل الخامس: التحفيز المرتكز على الإنسان. بينما يدور الباب الثاني حول كيفية تثمير المقتدر الإنساني بغاية تجويد العمل البشري، وببغية إحداث شراكة مع التكنولوجيا أكثر نجاعة، وبهدف تقليص ألوان التنازع بين البشر، وبقصد تجويد علاقاتنا الوثيقة ببعضنا البعض. يقدم لنا هذا الباب خريطة طريق حول المقبل من العقود. ويتضمن أربعة فصول: الفصل السادس: أنسنة الشغل في زمن الآلية. الفصل السابع: بناء الشراكة بين الإنسان والآلة. الفصل الثامن: النظر إلى الإنسان وسط الصراع. الفصل التاسع: أنسنة الصلات الإنسانية الوثيقة عبر المسافة النقدية.

وينطلق الكتاب من تجربة معيشة: كم خبرنا بمرارة ألا يعتبر الغير من البشر فينا إنسانيتنا، وكأننا لسنا بشرا. إذ كثيرا ما يحدث أن نجالس الآخرين، فلا يلقون إلينا بالا، وكأننا صرنا كائنات غير ملموحة لأبصارهم، وكأن الإنساني فينا قد تمنع على التبدي لهم. ويستخلص المؤلف أنه يمكن أن نسمي هذه التجربة -اعتبار الغير من البشر وكأنه غير موجود، أو بالأحرى عدم اعتبار إنسانيته بالمرة- باسم تجربة "نزع الطابع الإنساني عن الغير". ويلاحظ أن معظم حالات هذا النزوع نحو عدم اعتبار إنسانية الغير -أي عدم النظر إليه بحسبانه إنسانا- قد شملت، لزمن طويل، معاملة الأغيار وكأنهم بهائم، أو كأنهم موضوعات/أشياء؛ وذلك بالقفز على إنسانيتهم. ويرى أن هذه الظاهرة قد استفحل انتشارها في عالمنا اليوم.

نزع الطابع الإنساني عن الإنسان؛ أي الفشل في اعتبار أن الغير له أيضا عقل ووجدان، قادر على التفكير تفكيرا عقليا وعلى إبداء مشاعر إنسانية: هذا ما يرى المؤلف أنه أمسى يشكل موضوعا مهما في زماننا هذا. ففي هذا الزمن، بات عدم مراعاة الآخرين، بما في ذلك إرادة حرمان جماعات اجتماعية بكاملها من إنسانيتها والتشكيك في بشريتها، موضعا مشتركا صادما. وذلك شأن ما شرعت تفعله بعض الجماعات الدينية المتطرفة من حرمان الأطفال والنساء، مثلا، من إنسانيتهم، وبيعهم في سوق الرقيق، تماما مثل عودة أنصار الجماعات الفاشستية في الغرب والذين باتوا يرون أن لا إنسان إلا هم، وأن اللاجئ والمهاجر ما كان بإنسان في عرفهم. وبهذا بدأ مبدأ "ضع نفسك محلي" بالتواري شيئا فشيئا. وفي سياق ذلك تعاظم الجدل بين من يدعو إلى ألا نعزل أولئك المتطرفين، بدعوى أنهم لا يشاركون في قيمة الإنسانية، ومن يدعوهم هم أنفسهم إلى أن يتحلوا بالإنسانية قبل أن يطالبوا الآخرين بالاعتراف بهم في اختلافهم. فمسؤولية الإقرار بإنسانية كل إنسان إنما هي مسؤولية من ينكر ذلك، وليست مسؤولية من يقر به بدءا. ذلك أن مبدأ "ضع نفسك في مكاني" و"اعتبر الغير إنسانا مثلك" -وهو ما يسميه المؤلف باسم "المشترك في الإنسانية" أو "المؤتلف الإنساني على الإنسانية"ـ هو ما ينبغي أن يكون مقدمة كل تفكير في الإنسان من حيث ما هو إنسان. وهو يهدف إلى تحقيق "إنسانية مشتركة" ـ إنسانية، مع الأسف، قائمة في الواقع، لكنها منكرة عند الكثير في النظر.

وكما أسلفنا القول، يسمي المؤلف رفض التسوية بين الناس في إنسانيتهم باسم "نزع الطابع الإنساني عن الأغيار" أو "إنكار إنسانية الآخرين". ويعد هذه الظاهرة تنم عن فشل في اعتبار أن الآخرين يملكون، مثلنا،عقولا قادرة على أن تشعر/تحس، وعلى أن تنظر/تفكر. هذا بينما شأن النظر إلى إنسانية الإنسان، وأخذها بعين الاعتبار، أن يتمثل، بالضد من تلك النظرة غير التأنيسية، في اعتبار أن الآخرين يقتدرون، تماما مثلنا، على الوجدان والعرفان. والكتاب، مأخوذا في جملته، يدور على هذه الدعوى: أخذ إنسانية الأغيار بعين الاعتبار وثمار ذلك.

الباب الأول: المُقْتَدَرُ الإنساني

1- الإنسان هو من يؤثل المعنى:

يستند الباحث إلى جملة تجارب لكي يظهر من خلالها أن تواصل بني البشر حول شيء ما -ترويج منتوج تجاري، أو تجربة فنية مثلا- يملك مقدرة خاصة على إكساب هذا الشيء/الموضوع المتشاطَر قوة دلالة أكبر لدى بني البشر، وذلك أكثر من لو استفرد إنسان بهذا الشيء/ الموضوع... وذاك هو ما يعبر عنه المؤلف بالقول الجامع: البشر -في تشاركهم في الإنسانيةـ ينشؤون المعنى أو الدلالة؛ أي يكسبون الشيء المشترك فيه أو التجربة المتشاطرة قوة معنى وعمق دلالة لا تتوفر للشيء الذي يستفرد به واحد منهم أو حتى جماعة.

2- الإنسان هو من يقيم القيمة الأخلاقية:

لا يعزز المشترك الإنساني الدلالة فقط، وإنما يعزز المعاملة (الأخلاق). إذ يظهر المؤلف كيف أن تأنيس الكائنات؛ أي النظر إليها بوصفها أشباها للإنسان،شأن هذا السلطعون الذي رأى بعض اليابانيين في "وجهه" شيئا يشبه وجه الساموراي فصانوا وجوده إجلالا له، يجعل الإنسان أكثر تلطفا وتجملا وتخلقا. إنما التأنيس هنا إحياء وإبقاء وإنجاء؛ بما يشي أن بني الإنسان يستحيون، تخلقا، من كل "أثر" إنسي في الكون، وبما يدل على أن الشيء الذي يشبه الإنسان، وجها أو فعلا أو صوتا أو اسما، يُلزم الإنسان الزاما أخلاقيا. ولا يتعلق الأمر بالحيوانات شبيهة الإنسان فقط، وإنما قد يشمل الإنسان الآلي شبيه الإنسان. والمستنتج من هذا، أنه بقدر ما يتم النظر إلى الآخرين على أنهم قريبون من الإنسان، فإنه يلزم عن ذلك إلزام خلقي. فما بالك بمن هم أناس بالحقيقة!

3- الإنسان يؤثر:

كما يقتدر بنو الإنسان على تجويد المعنى وإكساب الفعل قيمة خلقية، يقتدرون أيضا على التأثير في الأفعال اقتدارا لا تدرك قيمته غورا. ذلك أن للبشر مقدرة عظمى على إقناع بعضهم البعض وحمل نظرائهم على إتيان ما فعلوه هم. وما كان شأن الإقناع أن يلهم الفعل فحسب، وإنما شأنه أن يلهم البشر استنساخه: من شأن قسم من الناس أن يفعل ما يفعله قسم آخر. لكن البشر لا يقدِّرون هذه المقدرة التي يمتلكونها، بل عادة ما يعمون عن رؤية تأثير الآخرين في أفعالهم. ذلك أن لمبدأ "افعل ما يفعله غيرك" سطوة على البشر لا تقاوم، ولكنها لا ينتبه إليها أيضا. وهو ما يسميه المؤلف: العمى عن التأثير الاجتماعي. والحقيقة أن ما يفكر فيه الآخرون يشكل بواعث كبرى على سلوكنا.

4- الإنسان يُحَفِّزُ:

يظهر العلم الحديث المتخصص في دراسة الحوافز أن البشر ما كانوا مجرد كائنات عاقلة وحسب، تحسب حساب الربح، وتنشد النفع، وإنما هم أيضا كائنات غيرية إيثارية قد تخدم الغير أكثر مما تخدم نفسها. وهذا أمر تبديه حالات عديدة ضحى فيها الكثير من الناس بأنفسهم صونا لغيرهم. نحن نفعل أشياء مذهلة حين يتعلق الأمر بنفع الناس. ذلك أن من شأن الغير من الناس أن يحفزونا على إتيان ما لا نأتيه حين يتعلق الأمر بأنفسنا.

الباب الثاني: كيف نثمر المقتدر الإنساني

لئن تعلق الأمر في الباب الأول ببيان أوجه المقتدر الإنساني، من إكساب معنى وتخليق فعل والتأثير في أفعال الغير والتحفيز على الفعل الإيثاري، فإن الباب الثاني دار على كيفية تثمير هذا المقتدر. وقد قدم المؤلف في هذا الباب اقتراحات حول كيف يمكن إعادة تأنيس فضاء الشغل المشترك وتفاعلاتنا مع التكنولوجيا، بعد أن صارت حياتنا تهيمن عليها اليوم أكثر فأكثر الصلات بالأشياء بدل العلاقات بالأشخاص، كما اقترح استراتيجيات تأنيسية بغاية تقليص النزاع مع ألذ أعدائنا وحفظ المسافة مع أصدقائنا وأهلنا تجويدا لصلاتنا بهم.

أ- تأنيس الشغل البشري:

كثيرا ما أمسى يعتقد أن فضاءات الشغل، التي صارت اليوم فضاءات مفتوحة، قد أنهت عملية نزع الطابع الإنساني عن الشغل، لكن الواقع يشهد بأن الشغل الإنساني سائر اليوم إلى فقد ما هو إنساني فيه أكثر فأكثر. ذلك أن البشر صاروا يتماهون مع شغلهم، وطفق لسان حالهم يردد: "ما عاد الشغل مجرد شغل، بل صرت أنا الشغل والشغل أنا". مما رافقه نفور من الشغل نتج عنه إفراغ فضاءاته من طابعها الإنساني؛ وذلك بأن أمسى الناس يشعرون وكأنهم دواليب في آلة ضخمة لا يحققون فيها ذاتهم بالمرة. ويكمن علاج هذا الحال، حسب المؤلف، باتباع أمرين: ترويح الشغل بنَفَس إنساني، والفصل بين الهوية والشغل. يعني الأمر الأول إضفاء طابع إنساني على مهارات الشغل، وإشعار البشر أن مقدراتهم مقدَّرة. وتكمن هذه المهارات في شيئين: "اجتماعية" الشغل و"تنوعيته". تتضمن المهارة الأولى دفع العمال إلى اعتبار إنسانية زملائهم في العمل، والاعتراف بتأثير شغلهم في البشر خارج تنظيم الشغل نفسه. وتتضمن المهارة الثانية تحرير البشر من روتينية الشغل وتأهيلهم لإعمال مهارات متعددة. أما فك الارتباط بين هويات الناس الشخصية ومهنهم، فإنه أمر أكثر حيوية وتحديا من الأمر الأول؛ لأنه يتطلب التخلي عن فكرة الشغل الأمريكية على الطريقة البروتستانتية في أخلاقيات العمل -العمل عبادة- نحو تصور جديد -العمل معاملة. فلا ينبغي أن يتحول الإنسان إلى عبد يعبد الشغل، وإنما عليه أن يكون إنسانا يشتغل وفق خلق وينشد قيمة.

ب- تأنيس التكنولوجيا:

ما عاد الشغل يفقد الإنسان شيئا فشيئا إنسانيته عن طريق التألية، وإنما صار يستغني عن البشر عن طريق الآلة. وإذ يقر المؤلف بأن لا غنى عن الآلات ولا رجعة، بسبب بساطتها ونجاعتها، فإنه يرى أن الحل لما تفعله الآلة من نزع للطابع الإنساني عن الإنسان إنما هو عقد ميثاق بين الإنسان والتكنولوجيا يقوم على مبدأين: يلتزم البشر بتطوير تكنولوجيا شبيهة بالإنسان غير منفرة له ولا مسيطرة عليه، وإما مؤنسنة له كأن يشبه وجهها أو صوتها وجه الإنسان وصوته. والمبدأ الثاني: على البشر أن يقيموا تنوعا من الشراكة مع الإنسان الآلي لا تقسم الشغل قسمة ضيزى.

ج- تأنيس الصراع:

التأنيس ضروري لا فقط في صلاتنا بالآلات، وإنما بالبشر. علينا أن نقلص التقاطب الحاد -نحن/هم- بتأنيس الغير. ذلك أن نزع الطابع الإنساني عن الغير والتنازع معه بسيران يدا في يد. والأمر عائد إلى أننا نتصور أن من ليس معنا فهو ضدنا، وأن قيمه وحاجاته ووجدانياته أقل منا؛ مما يحض على العنف ويسوغه. وهنا تطم التكنولوحيا الوادي على القرى: صار "الأغيار" مجرد "أهداف" على شاشة، على مرمى قنابل طائراتنا، وأمسى قتالهم أشبه شيء يكون بلعبة فيديو. والذي يدعو إليه المؤلف هو أنه، في حال الحرب، بدل معاملة العدو، ونحن نعرف ضعفه، معاملة الند للند، فإن علينا، بالضد، ألا نعترف بهذا "الأساس المشترك" ـ التساوي في العدائية ـ وإنما علينا مراعاة عدم التساوي فيه؛ أي هشاشة العدو.

د- تأنيس الحميمية:

بينما يتطلب تأنيس أعدائنا التقرب منهم، فإن تأنيس أودائنا يقتضي التباعد عنهم وحفظ مسافة معقولة منهم ولهم. ورغم أن من شأن الاتحاد مع الأصدقاء والأهل أن يقوي العلاقة معهم، فإن من أمره أيضا أن يكبح النظر إليهم بحسبانهم كائنات إنسانية مستقلة عن الذات. ذلك أنه بالتنبه إلى فوارقنا، فإن بعضنا يؤنسن بعضا. وليس يتم ذلك بإنكار فوراقنا، وحمل الآخرين على إتيان ما أتيناه. كلا؛ ما كان الآخرون مجرد نسخة منا، ولا ينبغي أنهم أن يكونوا.

------------------------

- الكتاب: "المقتدر الإنساني: كيف يمكن للإنسانية المشتركة أن تعيننا علىخلق عالم أفضل".

- المؤلف: أدم وايتز.

- الناشر: نورتون وشركاؤه، نيويورك/لندن، 2019م.

- عدد الصفحات: 268 صفحة.

 

أخبار ذات صلة