تأليف: فرانسيس وولف
عرض: سعيد بوكرامي
إذا كان كتاب فرانسيس وولف الأخير أساسياوراهنيّا،يمكن الاكتفاء به وحده، لفهم أفكاره وطروحاته، فإن من الأفضل التأكيد على ضرورة قراءته في ضوء أعماله الأخيرة. خصوصا في كتابه الصادر حديثا: (الدفاع عن الكوني)، علاوة على ذلك،فإن الفيلسوف يحاول مرارا توضيح أن نداءه للكونية يسائل الافتراض الضمني لإنسانيتنا(2010) والطوباويات المعاصرة الثلاث (2017) وأخيرا البحث عن المشترك الإنساني الكوني في ظل شرعية الاختلاف وحتمية المؤتلف الإنساني.
لم نكن في وقت من الأوقات أكثرإدراكابأن الوقت قد حان لتشكيل إنسانية واحدة. نعلم جميعًا أننا نتعرض للمخاطرنفسها: تغير المناخ،والأزمة الاقتصادية والبيئية،والأوبئة،والإرهاب، إلخ. وبينما الفكرة تفرض نفسها على الضمير الإنساني، فإن الوحدة الإنسانية مازالت أسيرةالتمثلات المناوئة: مطالبات بالهوية،والقومية،وكراهية الأجانب،والمتطرفين الدينيين... وفي المقابل يتعرض دعاة الوحدة الإنسانية إلى شتى الاتهامات، ومنها أنهم غافلون عن الخصائص العرقية والخلافاتالثقافية،وباختصار،إنهم يسعون إلى وضع قناع جديدللإنسانية الكونية، لهيمنة الأقوى: أي عودة النظام البطريكي. ولمواجهة هذه الانكفاءات، يجب أن تستعيد الأفكار الكونية قوتها التعبوية والنقدية لإعادة تأسيس أخلاقيات المساواة والمعاملة بالمثل.
ما هي الأسس التي يجب أن تستند عليها هذه الأفكار الكونية؟ يجيب وولف، بطبيعة الحال، تمتلك الإنسانية مشتركا منالفكر الروحي والديني والفلسفي والتشريعي هذا الإرث من التنوير الروحي والفكري الإنساني هو بمثابةالمصادر الوحيدة للقيم. ومع ذلك،فالإنسانية ليست جميع البشرفحسب، وإنما هي أيضًا قيمةموجودة في كل واحد منا. إن مايربطنا بالآخرين: ليس القدرة على التواصل التي تخص أيضًا الأنواع الأخرى، ولا القدرة على التفكير التي أصبحت تمتلكها بعض الآلات، ولكن القدرة على التفكير عن طريق التواصلالإنساني، وبعبارة أخرى عن طريق الحواروالتفاهم والتآلف، أي الأسس التي تنشأ عليها المجتمعات الإنسانية المتحضرة.
هذا السؤال هو نموذج للفلسفة الجدلية، ولنقل منذ البداية، أنّ الكتاب خالٍ من الجفاف الأسلوبي الذي نقابله في بعض نصوص فلسفة المنطق. ويبدو أنإنسيابيةكتابة فرانسيس وولف وأسرها للقارئ، تعكس الرغبة في الإقناع،ودائما يكونرهانه ناجحا. في هذه الأوقات الملتبسة مما بعد الحداثة المؤججةلهويات معينة، يجب أن ننوّه بالشجاعة الفكرية للمؤلف الذي يعتبر: الإنسانية مجتمعا أخلاقيا، له قيمة جوهرية وهي مصدر كل القيم؛أي أنّ البشر جميعهم يملكون قيمة متساوية.
يدرك فرانسيس وولف أنّ المقولات المذكورة أعلاه كثيراً ما تصطدم بعصر اللاإنسانية والوحشية والشكّية، والصراعات الدينية والاثنية والإيديولوجية. أو صراعات على المصالح كما هو الشأن في الصراعات السياسية والاقتصادية والإقليمية الترابية. إنّ فكرة وحدة البشرية (أو وحدة الجنس البشري) تنحسر في الوعي الجماعي. الرغبة في استعادة الأفكار الشمولية لقوتها التعبوية، هذا ما يعنيه الفيلسوف بالبعد الكوني، المصطلح الذي لا ينبغي أن يخيف أي نظام، بمعنى آخر فهو مجموعة من المفردات تتباين أسسها الأنطولوجية وخياراتها الأنثروبولوجية والتزاماتها السياسية.
من الثوابت التي يعتمدها منهج الكتاب نجد مفهوم النسبية، الذي يدعو الإنسان الكوني لتقبلالبُعدالنسبي: فهو يعترف بالإنسانية بكل تنوعها. لكنه لا يستطيع أن يعترف بها، على وجه التحديد، لأنه يدافع عن حقوق الإنسان،وبأي ممارسة ثقافية. يقدم وولف هنا تمييزًا بين الدفاع عن النسبية الثقافية والدفاع عن نسبية الثقافات،هذا التمييز يوضح ما يسميه السفسطة النسبية.
وهو مفهوم يختلف اختلافًا كبيرًا عن تعريف الثقافة، من جهة، فهي من منظور الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية مجموعة من التمثلاتوالممارسات،وبالتالي، تحديد حوادث معينة،وإدراكها، من ناحية أخرى، كتكوين غير قابل لاختزال لأي نوع آخر. بمجرد أن تكون الثقافة عبارة عن مرجع وحيدلذاتها، بالكاد يستطيع المرء الهروب من النتيجة الضارة التالية: يعيش أفراد الثقافات المختلفة في أكوان شاسعة. هذه النتيجة تدعو إلى التشكيك في فكرة وحدة الجنس البشري. لذلك، من المفارقات، أن يجيز بعض المفكرين النظرية العنصرية التي بنيت عليها النسبية الثقافية.
هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن أي مجتمع يعتقد بتميّزه عن الآخرين،يحاول أن يثبت ذلك من خلال المشاعر الاجتماعية والعواطف الأخلاقية. وتتجسد هذه الأخيرة في السخط، وهو "الدليل التجريبي على أننا حيوانات أخلاقية". إنها علامة الإنسان (لا يمكننا تخيل حيوانات ساخطة). يشير وولف في هذا المقام إلى أننا ننتمي إلى "مجتمع أخلاقي لا حدود له، حيث يتساوى فيه جميع الأفراد". وبالتاليفمن الضروري ألا يوجد إنسان مُستبْعد في هذا المجتمع الأخلاقي.
ينتقل الكاتب في القسم الثاني إلى تحديد أسس الإنسانية الكونية المبنية على القيمة الجوهرية للإنسانية، لكن هذه الأخيرة لاقت معارضة أكثر من النسبية، وخصوصا منالعدمية، التي لا تعتبر القيم الجوهريةذات قيمة عليا. إن المعضلة المأساوية في القرن الثامن عشر،حدثت بين الإنسانية والعدمية. بعد أن أصبح الإنسان هو المصدر الوحيد للقيم، فإن فكرة ألا شيء في العمق يستحق قد وجدت صداها، بين فلاسفة مهمين، مثل نيتشه.
يلجأ وولف في بناء إستراتيجيتهإلى أرسطو: "ما هو صالح لكائن هو أن يكون ذاتهكليا؛وما ينطبق على كل إنسان هو أن يكون إنسانياً كاملاً ومتفوقاً "ومن كانط:" إن ما هو صالح تماماً للإنسانية صالح للفرد وبشكل مطلق ". إن اللجوء إلى الفيلسوف الألماني غير كافٍ لأن ما يستهدفه ليس فقط تأسيسالقانون، بل وأيضًا تأسيسالفعل: يجب ألا تعتمد القيمة الجوهرية للإنسانية على ما يجب أن يكون مثاليًا وجعل كل إنسان(كونيا بموجب القانون) ولكن الدفاع عن القيمة الجوهرية للإنسانية على الرغم من الشرور التي تُتّهم بها.سبق أن حدد وولف التفرد البشري من قبل في كتابه " في إنسانيتنا"، لكنه في كتابه الحديث يركز على ماهية الإنسان، باعتباره الكائنالقادر على اكتساب نوع معين من المعرفة الفريدة، والعلم، الذي يخضع لإجراءات كونية. إنه أيضًا الحيوان الوحيد القادر على العمل الأخلاقي، والذي يمكن من خلاله الخضوعللقيم العالمية. لذلك فهو قادر على الوصول إلى ثلاث درجات من العقلانية: أولاً، حقيقة الحكم أو استقامة الإرادة؛ ثم تبرير الأحكام بالحجج أو تبرير الإراداةبالقيم؛ وأخيراً عالمية الإجراءات لتأسيس المعرفة أو ضمان قيمة للأفعال.
يصر وولف على وجود واجبات مطلقة تربط الإنسان ببعضه: التبادل والمعاملة بالمثل والعدالة. لذلك يناقش الكتاب هذه الخصائص وهذه الواجبات ويعمقها، مع إضافة الكثير لفهم تفردنا الإنساني.
بالنسبة للمؤلف، فإنّالقول بأنّ الإنسان يتمتع بعقلانية حوارية يسمح بالهروب من خلافين كلاسيكيين شهيرين. الأول بين الماهية والعلاقة (أو الفرد والجماعة)، لأنه لا يوجد "فرد غير منفتح فورًا على الآخر، لأنه يعلم أن تعريفه لا يتم إلا من خلاله" التحدث إلى... ". والثاني بين الطبيعة البشرية (التي تفترض جوهرادائما) وحالة الإنسان (التي تصر على التاريخ). مما لا شك فيه، أن الانفلات من هذين الخلافين ضروري، ومع ذلك، هل يعني الحديث عن الطبيعة البشرية بالضرورة تجاهل دور التاريخ؟ إذا لم يستطع المرء إهمال حقيقة أن الشخصيات المميزة، لأحد الأنواع هي موضوع برنامج مسجل في الجينوم، فإن الأخير يحدد في الجنس البشري، مجموعة من الافتراضات التي تنتظر التفعيل. هذا يعني أن الإنسان ليس برنامجًا صارمًا، وبالتالي لا ينبغي الخلط بين الحرية والضرورة (النقطة التي يصر عليها وولف). كل شيء يوحي بأن تمثلاتنا مبنية على أساس فطري وخلال مراحل النمو. التاريخ هو في الواقع أسلوب عيش جنسنا البشري، لكن هذا الأخير لا يمكن اختزاله إلى تاريخ، فحسب. ومن هذا المنطلق، يكشف وولف عن "المشهد البدائي" للإنسانية ممثلا له بشخصين: " يحددان ضمنًا الشيء نفسه دون أي هدف آخر سوى تشكيل عالم من الأشياء خارجا عنهما وعالم مشترك بينهما ". يحتوي هذا المشهد البدائي على كل ما يشكل إنسانية البشرية جمعاء: "العالم الموضوعي،" أنا "و" أنت "، والتناوب في تحديد هوية أحدهما مع الآخر، والتفاعل الأصلي بين إنسان وأي إنسان آخر،أي الاقراربالإيجاب والنفي المرتبط بالحوار والتفاهم والنزاع والتعاون والتنافس - والعالم المشترك على خلفية واقع يجب تشاركه وتقاسم ظواهره ". وانطلاقا من مفهوم المشهدالبدائي، يطور وولف الأنثروبولوجيا الفلسفية للتماسك والانسجام الإنساني المدهش.
أما القسم الأخير فيخصص للعقلانية النظرية والعمليةوهما وجهان للعقلانية الحوارية. ويقدم للتفكير ثلاث درجات، تسمح برسم الاختلاف الأنثروبولوجي بدقة. في الدرجة الأولى من العقلانية الحوارية، الجانب النظري هو ما يسمح للغة أن تعترض على المعلومات التي تأتي إلينا من العالم والتي نطور بواسطتها الاعتقادات. وبذلك نحن قادرون على تمثل من الدرجة الثانية (أي بلورة " وعي تمثيلي لحالات الوعي التَّمثُلي الخاصة بنا"). يتحدث فرانسيس وولف عن "انكفاء الوعي على نفسه" الذي نحن -البشر-وحدنا القادرون عليه. هذا الانكفاء يعني وجود عالم موضوعي يمكن أن تكون أحكامنا إزاءه صحيحة أو خاطئة.هناك درجة ثانية من العقلانية النظرية، وهي درجة تبرير أحكامنا، والانتقال إلى السبب،وأخيرا، الدرجة الثالثة، التي تعتبر الشكل الكوني لتبرير الأحكام، وهي العلم. ليس هناك شك في أن المعرفة العلمية محددة ودقيقة. وهنا يكمن جوهر اهتمام وولف بالمعرفة، متسائلاعما الذي يخبرنا به العلم، كطريقة من المعرفة، عن الإنسان: "إنه الكائن الذي يمكن أن يسعى جاهداً للتجرد من نفسه، لفهم جوهر العالم ".أما بالنسبة لدرجات العقلانية العملية، فإن الهدف الأول من الحرية لا يُفهم على أنه إرادة حرة غيبيّة بل إن الإنسان لديه أسباب لفعل ما نفعله. هذا هو شرط مسؤوليتنا. يتبنى وولف هنا أطروحة توافقية (بمعنى آخر، يعتقد أن المسؤولية متوافقة مع الحتمية) بحيث تكون المسؤولية الانعكاسية هي لحمة النسيج الأخلاقي. وهنا يستنتج الكاتب الدرجة الثانية من الدرجة السابقة، لأننا ننتقل من أسباب التصرف إلى أسباب وجيهة للتصرف، بمعنى أن الإنسان كائن أخلاقي، يسترشد بالقيم، وإذا كنا نرغب بالدفاع عن الإنسانية الكونية، فيجب علينا التغلب على الحرب التي يشنونها عليها. وهنا سيتم التعبير عن الدرجة الثالثة فيما يقترحه المؤلف من سعي وراءعرض وجهة نظر جميع الأطراف، أي معرفة جوهر أخلاقهم. لأنه، كما يكتبالمؤلف؛ فإن الحيوان المحاوِر هو حيوان أخلاقي، فهو يريد الخير لنفسه ويفضله لغيره: "من أجل حوارعقلاني،وخير كوني، يفترض أن ينظر إلى العالم من جميع الجوانب، ومن جميع الأماكن التي يوجد فيها موضوع للتحاور.هذه هي الأخلاق الإنسانية المبنية على العقل". لا يوجد شيء مجرد عن هذه الأخلاق الإنسانية. إنها تتحقق بطرق متعددة (نفسية، وعاطفية، وثقافية، وقانونية، وأخلاقية، وسياسية،وتاريخية) وفي المعاملة بالمثل (يعتبر كل واحدالآخر كذات أخرى) والمساواة (يعتبر كل واحدالآخر مساويا لنفسه).
هذا كتاب مذهل، ندرك تماما أننا لم نتمكن بعد من استكشاف كل زاوية ثمينة من الذات الإنسانية. لفهم الذات والآخر وتحقيق - في أفق الإكراهات العالمية الصعبة القادمة - وحدة إنسانية كونية تتمسك بالمؤتلف الإنساني وتدافع عن الاختلاف، لكن في ظل منظومة أخلاقية من التفاهم والانسجام والعدالة.
---------------------------------------
الكتاب: الدفاع عن الكوني
المؤلف: فرانسيس وولف
دار النشر: دار فايارد، فرنسا
سنة النشر: 2019
عدد الصفحات: 288ص
