الضمير: أصول الحدس الأخلاقي

61-83fRPwfL.__BG0,0,0,0_FMpng_AC_UL320_SR212,320_.png

تأليف: باتريشيا تشرشلاند

عرض: فينان نبيل (كاتبة مصرية)

 

تمتلك كل الجماعات الاجتماعية رغم تنوع الثقافات واختلافها مثلاً أعلى للسلوك، فكيف تنشأ الأنظمة الأخلاقية، وماهي أصول الحدس الأخلاقي الذي يوجه هذا السلوك؟ كيف ينشأ الضمير؟ تجيبنا الكاتبة "باتريشيا تشرشلاند" مؤسسة علم "الفلسفة العصبية"عن هذه التساؤلات. من خلال دمجها بين "علم الأعصاب" و"الفلسفة"، ترى الكاتبة أن الضمير في الأصل بيولوجي عصبي، ولا ينبع - كما يزعم معظم الفلاسفة المعاصرين- من القوانين الأخلاقية العالمية، وتدمج بين نظرية هيوم، ومفادها أن البشر "يولدون جميعاً بميل أن يكونوا اجتماعيين"، ونظرية "فرانسيس كريك"ومفادها "أن التطور البيولوجي يجب أن يبرز وبشدة في أي مناقشة لأصل الأخلاق". ترى أنه يوجد في البيولوجيا العصبية البشرية نظام يستوعب الأعراف الاجتماعية، عبر "متعة الموافقة الاجتماعية " مما يؤدي إلى بناء دماغي يسمى "الضمير"، فنجد البشر يفعلون ما تراه ضمائرهم صحيحاً لأنه يعزز روابطهم مع الآخرين.

لم يكن لدى فلاسفة اليونان أعمق مفكري"الأخلاق الإنسانية" منذ القرن الخامس قبل الميلاد" أفلاطون، أرسطو، ومن قبلهم سقراط" تعريف موحد "للضمير" ولم يكونوا في حاجة لهذا المفهوم على الرغم من تقديرهم للحدس الأخلاقي. لم يتم تعريف الضمير إلا في وقت مُتأخر عند فلاسفة الرومان، وقد كان يعني" "معرفة المعايير الاجتماعية"،على الرغم من أن سقراط وغيره من الفلاسفة كانو يرون أن الضمير لا يتفق دائمًا مع معايير المجتمع، وقد يستدعي الحدس الأخلاقي أحياناً أن نتحدى معايير المجتمع. رفض كذلك الكاهن واللاهوتي الأشهر "مارتن لوثر"(1546- 1483) رائد حركة الإصلاح البروتستانتي، المعايير السائدة للكنيسة، وثبت اعتراضاته على باب الكاتدرائية 1517عاما، فقد كانت الكنيسة آنذاك متورطة في سلب المال، والسعي للسلطة، وهو ماكان لوثر مقتنعًا بأنه أمر بشع أخلاقيا. استخدم لوثر "الضمير" صراحة ليُعبر عن معرفة أوسع لما هو صواب وخطأ من الناحية الأخلاقية، بحس يتجاوز المعايير الأخلاقية السائدة.

 

 كان سقراط قلقًا دائمًا بشأن ميلنا إلى اليقين حول ماهو صواب وماهو خطأ، حتى وإن كان هذا اليقين في غير محله، فكشف في نموذجه الأخلاقي الخاص عن "الصوت الداخلي" والذي تحدث عنه بديلا عن "الضمير"، وأوضح بتواضع أن صوته الداخلي لم يكن موثوقًا به تمامًا وقد يُؤدي به في بعض الأحيان إلى الضلال، اعتراف سقراط بعدم موثوقية صوته الداخلي أدى به إلى القول بأنَّ الحكمة الأخلاقية تتطلب منِّا الاعتراف بعدم كمالنا الأخلاقي، وحكمتنا الزائفة،وتحيزنا لقناعتنا العقائدية. إن وجود قيم أخلاقية لدى العلماء بوصفهم بشرا لا يمنحهم خلفية أخلاقية معنوية تلقائيا، فقد أشار كونفشيوس (479-551) إلى أن التواضع أساس جميع الفضائل، فالحقائق معقدة ولابد أن يشعر العلماء بالقلق حول صحة ودقة المعلومات المتاحة، ومن يعتقد منهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، أو التفرد في الحصول على الحقيقة الأخلاقية، يجب أن يُنظر إليه بعين الشك، لأنَّ الغطرسة الأخلاقية تؤكد نية التلاعب. لا يكون الضمير دائمًا في صورة صوت داخلي، ولكنه عبارة عن عدم ارتياح، أو تذمر تجاه شيء ما يجب القيام به، أو تجنبه، وكما يقول "بول ستورم": "إن عادة الضمير المميزة تتمثل في الوخز، والتنديد بدلاً من التهدئة أو الطمأنة ".

تتبنى الكاتبة صيغة " أن الضمير هو الحكم الفرضي على ما هو صواب أو خطأ من الناحية الأخلاقية"، ولكنه لا يعكس دائماً بعض معايير الجماعة التي يشعر الفرد بالانتماء لها. يعتمد حكم الضمير كونه معرفيا،على اثنين من العناصر المترابطة،أولها، المشاعر التي تحثنا نحو الاتجاه العام، والدافع الذي يؤدي إلى اتخاذ إجراءات محددة.

تأتي صعوبة تعلم معنى كلمة" ضمير" ليس لكونها مجردة فحسب، بل لها أبعاد اجتماعية، وتستوجب معرفة معايير المجتمع، وغالباً لا تكون العادات الاجتماعية صريحة، وإنما ضمنية؛لأننا عادة مانحاكي السلوك دون إدراك، يبدأ الأطفال مع نموهم في إدراك السياقات الاجتماعية التي قد تكون خفية إلى حد ما، حتى يتكون لديهم فهم مقبول لمعايير المجتمع. تمتلئ الحياة الاجتماعية بالدقة، والأشياء التي يمكنك قولها والتي لا يمكنك قولها، وأفضل الطرق الأخلاقية لتقول شيئاً لا يجب قوله. إن أحد الواجبات الأخلاقية الأساسية أن نتصرف وفقاً لما يمليه الضمير، ولكن هل الضمير موثوق به دائمًا، أم أنه أحيانا يؤدي لنتائج؟ هو أمر يصعب التنبؤ به،حيث يعدِّل الضمير تقييماته بمرور الوقت، وقد نجد طرقا لترشيد فعلنا الخاطئ لجعل الأمور متفقة مع. إذن، فالضمير ليس كالجاذبية الأرضية يسحبنا في اتجاه واحد.

قد يوصل الضمير لما قد نسميه "الأخلاق العالمية"، لكن يجب أن نأخذ في الحسبان أنه حتى أصحاب الضمائر الحية في كثير من الأحيان يختلفون فيما تمليه عليهم ضمائرهم مما يُؤدي إلى اختلاف اختياراتهم. كذلك قد يصطدم ما يراه ضميري مع ضمير الآخرين حتى لو كنا أشقاء أو جيران، أو أصدقاء؛ فالحدس الأخلاقي الثابت أمر جيد،ولكن اليقين يختلف من شخص لآخر، كما قال فولتيير(1694-1778) فيلسوف التنوير في عبارة موجزة "إن عدم اليقين حالة غير مريحة، ولكن اليقين موقف سخيف"، فقد ينشأ صراع داخلي بين الإنسان وضميره إذا ما تعلق الأمر بارتكاب أحد أقاربه جريمة، ويحتار بين الإبلاغ عنه أو حمايته، كما يضطرب ضمير الأهل عندما يضطرون إلى الاختيار بين إطالة حياة المريض مع استمرار مُعاناته، وبين إنهاء حياته أو ما يعرف فلسفيا باسم "القتل الرحيم". غالباً ما يكون التعارض بين الخيارات هو نقطة الانطلاق في أن نتعلم أنه لاتوجد أشياء صحيحة يجب القيام بها، هناك فقط أشياء أقل بشاعة، مثل هذه الصراعات بين القيم هي جزء من الحياة الاجتماعية لكل شخص.

تطرح الكاتبة فرضية قد تكون معقولة من الناحية البيولوجية ويمكن التعبير عنها ببساطة من الممكن أن تغير تفكيرنا في الأخلاق، فقد يفسر علم الأعصاب وعلم النفس كيفية اكتساب العقول للقيم الأخلاقية، وكيف توجه القيم القرارات مثل العدوان الذي تُمارسه جماعة اجتماعية ضد مجموعة اجتماعية أخرى، فهو أمر غير مفهوم على مستوى الدماغ، ولكنه عند تحليل البيانات السلوكية نجد أن "الأيديولجية" تشكل قوة محفزة لمثل هذا السلوك؛ فالتبرير الأيديولجي للعدوان خارج المجموعة هو في الأساس وسيلة لراحة الضمير، وإن كانت البيولوجيا العصبية تؤيد أو تدحض هذه الفرضية لكن ظهور هذه النتائج قد يستغرق فترة زمنية طويلة. يرجع ذلك إلى أنَّ علم الأعصاب يفتقر للمعلومات الكافية لأن جمع البيانات ممن يشاركون في أعمال عنف وقتال أمر صعب، فمن غير المرجح أن تطلب منهم أخذ استراحة لفحص أدمغتهم، ومن ناحية أخرى إجراء تجارب معملية تعتمد على توليد الكراهية بين مجموعتين من أجل اكتشاف وقياس الخواص البيولوجية والعصبية وتنشيطها، غير لائق أخلاقيا، وقد يتم استبدالها بدراسة القردة العليا أثناء القتال، لكن البيانات لا تكون موثوق فيها؛ فالحصول على بيانات دقيقة في هذا الصدد أمر بعيد المنال في الوقت الحالي.

أسفرت الاكتشافات المذهلة في"علم الأعصاب" على مدار العقد الماضي فيما يتعلق بكيفية دمج الخلايا والشبكات العصبية مع المعلومات من مصادر متنوعة، من أجل اتخاذ القرارات الأخلاقية، عن فهم أعمق لطبيعة الأخلاق في المجتمعات البشرية، ترى"تشرشلاند" أن أدمغة أسلافنا تم تكييفها من أجل الاجتماع، والتكيف هو إعادة توظيف أمر ما لينتج شيئا جديدا أكثر فائدة في الكفاح من أجل البقاء، فيتم تغيير أو تكرار عدد قليل من الجينات. فعلى سبيل المثال تبني أدمغة الثدييات شعورا بالهدوء والرضا عندما يكون أطفالها في قرب منها في دفء وطمأنينة، أوشعورها بالألم النفسي والبدني في حالة البعد،هذا ما يُحدده المسار العصبي الذي يحدد نوع الألم؛ فهناك منطقة قشرية في الدماغ تراقب الحالة الفسيولوجية لكامل الجسم، عندما تتعاطى بلطف ومحبة ترسل هذه المنطقة إشارة آمنة تقول" إنني أعمل بشكل جيد الآن" وهو مايعرف باللمس أو الرسائل العاطفية التي يتجاوب معها الطفل بإشارات "إنني على مايرام،أنا آمن". شبكة الرعاية بين الأم والطفل قوية للغاية وليست مجرد ميل خفيف، ولا تتخلى أمهات الثدييات عن صغارها إلا في حال حدوث خلل ما في وصلات دماغ الأم.

هناك أربعة لاعبين رئيسيين في الدراما العصبية البيولوجية يدعمون الرعاية في دماغ الثدييات، ويمتد أثرها لتوسيع نطاق الرعاية من الأمومة لتشمل الأصدقاء والأقارب. العاملان الأساسيان هما الهرمونات العصبية "أوكسيتوسين وفاسوبريسين"، و"المواد الأفيونية المخدرة " التي يصنعها الدماغ وتسبب الشعور بالرضا، وتبرز هذه الهرمونات على خلفية لهرمونات الجنس "الاستروجين، والبروجيسترون"، والكيمياء العصبية الأخرى تفرز هرمونات أخرى مثل "الدوبامين"،والذي يمكن دماغ الثدييات من التعلم عن طريق التجربة.

 تغير الخلايا العصبية الفردية بنيتها قليلا دون أن تحدث تغييرا في الشبكة العصبية، فالخلايا العصبية لحديثي الولادة تكون ملتزمة بتصميم جيني، ولكن التجربة تؤثر تأثيرا عظيما على الشبكات العصبية فتكون الوصلات في حدها الأدنى عند الولادة، لكنها كافية للحفاظ على الحياة خارج الرحم، ثم تحتاج مساحة لتنبت وتنتشر لتعمل. ينمو دماغ الثدييات بعد ولادتها خمسة أضعاف وتبني أنماطاً معقدة من الوصلات بين الخلايا العصبية، مما يؤدي إلى السيطرة على السلوك الوراثي عن طريق السلوك المكتسب بالتعلم طويل الأجل، إلى جانب التقييم الذكي للخيارات المتميزة القائم على معرفة السبب بالنتيجة، لا يختفي الأساس الوراثي لإدراك القرارات السلوكية أبدا، إلا أنه يصبح أقل هيمنة مع زيادة القدرة على التعلم، فالهياكل المعرفية المبنية على الأساس الغريزي متواضعة، حيث إن المرونة تمكن الإنسان من التغيير عندما يتغير العالم، وتستجيب الجينات لجعل تلك التغييرات دائمة. شخصية الفرد الخاصة تميزه، وتنسحب على سلوكه، كذلك الضمير الفردي يحدد طابعه الخاص. إن الضمائر قد تتعارض بسبب الاختلافات العميقة في الجوانب الأساسية للشخصية، والعلم في حد ذاته لا يفصل في القيم الأخلاقية، ولكنه يتيح الحقائق ويقيم الوقائع لاتخاذ القرار الصحيح.

 تواجه الكاتبة صعوبات مُحددة، على الرغم من أبحاثها الرائعة خاصة فيما يتعلق بتطورات الدماغ المبكرة التي تشكل ميولنا الأخلاقية، منها، أنها تفتقر إلى نظرية موحدة لكيفية تحفيز الدماغ أخلاقيا، كما أن لديها أمثلة أخرى تثير التحفظ، منها، أننا يمكن أن نقبل أن هناك ركيزة بيولوجية لأي جانب من جوانب الحياة البشرية، لكن يبدو الأمر مثيرا للجدل أن نوحي أنه يمكن جمع المزيد من المعلومات عن الحياة والتفكير والأخلاق عندما ندفع الإنسان تحت جهاز "الرنين المغناطيسي"، أو أن نقيم لوحة فنية لـ "مونييه" على أنها تتكون من مواد كيميائية،على الرغم أننا نعلم أن ذلك لا يمنع من تقييمها من الناحية الفنية، كما أننا لا ننظر إلى المتعة الفنية التي نحصل عليها كنظرية، أو نفسر العمل الفني بتحليل المواد الكيميائية، ولا نلخص قيمة مونيه، في أنه لديه قوة عاطفية تنتج هرمون العاطفة "الاكسيتسون".

لقد طورت تشرشلاند فلسفة قوية للعقل الإنساني في شرح القيم الإنسانية يمكن نعتبرها أخلاقية، ولا يعد الكتاب فلسفيًا بقدر ما يعد علمياً حيث إن معظم أجزائه خصصت للنتائج العلمية التي تربط الدماغ بالسلوك الأخلاقي. وأولت الكاتبة اهتماما أقل بالنظرية الأخلاقية لتدعم حجتها، وفي النهاية لم تقطع بأن الفلسفة العصبية يجب أن تحل محل الفلسفة الأخلاقية، كما أن العلم لا يدعم نظريتها الفلسفية. لقد فشلت في استخدام علم الأعصاب لمعرفة أسس حدسنا الأخلاقي، وفشلت في إجابة أكثر الأسئلة إلحاحا وهو متى ينبغي أن نعتمد على الحدس كدليل.

 تساعد العلوم جنباً إلى جنب وليس علم الأعصاب وحده، في توفير جميع أنواع المعرفة والحقائق والوقائع ذات الصلة التي تقلص من "الشك" بشأن العواقب المترتبة على عمل ما مما يقلل احتمالات الندم عليه في نهاية الأمر، كذلك تساعدنا على فهم لماذا نهتم بما يحدث للآخرين، فقد اعتقد أرسطو ودارون وكثيرون آخرون أن "البشر اجتماعيون بطبعهم"، وإن لم يكونو كذلك فمن ذا الذي سيكون له موقف أخلاقي؟ يتعلم الأطفال كيف يتعاملون مع عالمهم الاجتماعي مع نموهم وتطورهم، فيقدرون قيم اللعب النظيف، والعمل معا، وغفر الإهانة، ويتعلمون عن طريق التقليد، والتجربة والخطأ، والقصص والأغاني، وتدبر التجارب، ويستنبطون المعايير المتعلقة بكيفية التصرف - في بعض الأحيان بوعي، وأحيانا بغير وعي. تذهب الكاتبة إلى أن ميل الإنسان إلى الاجتماع هو أمر لا يقتصر على فئة دون أخرى؛ فالعزلة المطلقة لا تعزز فرص الفرد في البقاء والازدهار، وأغلب البشر اجتماعيون. إن الوحدة مجهدة في حين أن الانضمام للاحباء يجعلنا سعداء، ونحن نشكل روابط قوية ودائمة داخل الأسرة وخارجها ومع الأصدقاء، و نجد المنفى محزنا للغاية، والحبس الانفرادي شكلا من أشكال العقوبة المدمرة. البعض منا انطوائيون، والبعض منفتحون، والعديد في مكان بين بين. تختلف رغبتنا في التجمع مع تجارب العمر والحياة، وقد نتج الكثير من الأمور المفيدة عن العمل الاجتماعي، منها التراكم المعرفي، وسيادة التعاون، والثقة المتبادلة. تمتلك الكاتبة قدرة كبيرة على جمع أفكار نادرا ما يمكن جمعها لتبدو كأنها نسيج واحد، تدور في محور واحد، هو أن تكون إنسانيا.

-------------------------------------------------------------

اسم الكتاب: الضمير: أصول الحدس الأخلاقي

المؤلف: باتريشيا تشرشلاند

الناشر: أسبن – الولايات المتحدة الأمريكية، 2019.

اللغة: الإنجليزية

 

 

أخبار ذات صلة