تأليف: ماسيمو كامبانيني
عرض: عز الدين عناية | أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا
حظيت مصر في الفترة المعاصرة باهتمام خاص في دراسات الاستشراق والاستعراب الإيطالييْن. ولم ينحصر الأمر في مجال الأبحاث والدراسات فحسب، بل تعدّاه إلى مجال الترجمة. فقد غلبت على نقل الأعمال العربية إلى الإيطالية الترجمات الواردة من المنتوج الأدبي المصري. ولعلّ هذا الانشغال والتركيز على مصر يعود إلى عامل رئيس يتلخّص في تمثّل المخيال الإيطالي مصر بمثابة المحرّك الرئيس للحياة الثقافية العربية.وضمن هذا الاهتمام العام بمصر، صدر كتابٌ تاريخيّ مهمّ للباحث والأستاذ الجامعي ماسيمو كامبانيني (من مواليد ميلانو 1954) بعنوان:"تاريخ مصر.. من الفتح الإسلامي إلى اليوم"، ضمّ خلاصة تاريخية غير مخلّة. قدّم فيهصاحبه قراءةً رصينة عن تاريخ مصر السياسيّ والمؤسساتي والديني من العام 642م، تاريخ الفتح الإسلامي، إلى الراهن الحاضر.
اختارالمؤلّف الإيطالي استحضار المحطّات المفصليّة في تاريخ مصر، الوسيط والحديث والمعاصر، والتعليقَ عليها. ولعلّ ما يميّز صاحبه وهو القراءة المباشرة للوقائع دون إسقاطات خارجية. إذ ينزع الكتاب نحو قراءة تحليليّة تفصيليّة للتحوّلات الداخلية والتحدّيات الخارجية التي واجهت مصر، بغرض إعطاء رؤية شاملة ومتكاملة، وذلك باعتماد منهج المقارنة السياسية. فالكتاب متقَن من ناحية الصياغة العلمية والتوثيقية، ومقنِع من حيث المضامين التي يعرضها صاحبه. سيما وأنّ المؤلِّفليس طارئًا على المجال، بل هو كاتب متخصّص وعلى دراية واطّلاع على وقائع التاريخ المصري والأحداث السياسة العربية بوجه عام.وإن يكن غالبا ما يظهر في كتابات التاريخ السياسي الانحياز إلى مقاربة معيَّنة، فإنّ ما يميّز كامبانيني في كتابه، وهو التعامل مع الأحداث كوقائع وكمادة تاريخية، لا ينقلها أو يستعرضها بشكل جامد، بل يشفعها بالتأويل والتفسير.ليرصد في مؤلّفه اللحظات الفارقة في تاريخ مصر، تلك التي تمثّل بحقّ نقلة نوعية في المسار السياسيّ العام، وتُشكّل وفق قراءته للأحداث طفرات للتطوّر السياسي.
فما يميّز منهج قراءة التاريخ السياسي المصريّ مع ماسيمو كامبانيني، وهو الغوص في غور تفاعلات الأحداث دون إسقاطات خارجية، وتجنّب ما تعتمدهمقاربات غربية في قراءةالأوضاع العربية مع إلحاح على ثانوية الدور العربي. مبرزا أنّ علاقة العرب بالغرب في التاريخ الحديث محورية، فقد اتّخذت هذه العلاقة مظاهر عدّة، جاءت أحيانا عنيفة، كما هو الحال إبّان مرحلة الاستعمار المباشر، أو فترة الحروب العربية الإسرائيلية، هذا من جانب، وانطبعت بطابع التحالف والتنسيق والتعاون، على أعلى المستويات وفي شتى المجالات (في التعليم والتنمية وبناء الجيوش والخطط وغيرها)، من جانب آخر. جعلت هذه الازدواجيةُ في العلاقة حضورَ الغرب وتأثيره في تاريخ مصر المعاصر عميقا ومؤثرا. وبشكل عام يحاول المؤلّفُ أن يأتي على المراحل المفصلية في كتابه، دون أن يطنب في تفاصيل الأحداث، بل يأتي على الحاسم منها والفاعل. مبرزا أنّ ثمة العديد من الحقب التاريخية التي تُصاب فيها الشعوب بما يشبه الجمود فتغدو موسومة باللافعل، ولا يخلو التاريخ المصري من هذه العاهة.
تَوزّع الكتاب إلى قسمين رئيسين، ضمّ كلّ منهما تسعة فصول غطّت الفترة المدروسة،ولتعالجفي مستوى أوّل مرحلة مصر الوسيطة، التي تبدو أطول الفترات وتمتدّ إلى القرن السابع عشر، حيث يرصد المؤلّف وقائع الفاطميين والأيّوبيين والمماليك وآل عثمان. تليها مرحلة مصر الحديثة والمعاصرة، التي تنطلق مع محمّد علي، وهي فترة شهدت فيها مصر تبدّلًا عميقًا وعرف فيها البلد تغيرات هائلة،حتى غدت فيها مصر قِبلة للعالمثالثية والقومية والاشتراكية. لكن مع صعود محمد أنور السادات إلى السلطة، ومقدم خليفته حسني مبارك، وإلى حين تولي الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم، يبدو ذلك الوجه الغالب على مصر قد بدأ في التبدّل مجدّدًا، ليشهد تاريخ مصر منعرَجا لا يزال في طور التشكّل. كما لا يفوت المؤلّف في كتابه الإتيان على ما لعبه الأزهر ولا زال من دور حاسم في هذه التحوّلات، مستعرضًا قضايا التجديد والمحافَظة التي تتجاذب هذه المؤسسة العريقة منذ العهد الفاطمي وإلى الفترة الراهنة.
ولأهمية المرحلة الحديثة وما تلاها نجد الكاتب يقسّم تلك المرحلة إلى فترات مفصلية:
- فترة محمد علي، التي يطبعها طابع التحديث، وما ميّزَ مصر من محاولات اندماج في النظام الاقتصادي-السياسي الواقع تحت الهيمنة الأوروبية، فضلا عمّا ميّز تلك الفترة من طابع "إصلاحي"، وهو الإصلاح الذي خاضته الدولة المصرية للّحاق بركب الحضارة الغربية.
- فترة المَلكية، التي شهدت بداية تشكّل الدولة الوطنية في ظلّ السيطرة الأجنبية، وخوض النضال الوطني للتحرر من ربقة المستعمر، وهو ما رسّخ دعائم مفهوم الدولة الوطنية.
- فترة الناصرية التي شهدت توهّج الحسّ القومي وتأجّج حركات التحرّر، وما رافقها من عمل يرنو لنهوض عربي مشترك. وقد شهدت تلك الحقبة توزعَّ بلاد العرب بين معسكرين: رأسمالي واشتراكي، فضلا عن تباين اقتصادي عميق بين شِق الدول النفطية الريعية وشِق الدول غير النفطية.
- فترة السادات والانفتاح الرأسمالي، وهي الحقبة التي شهدت تراجع المدّ القومي، وتفجّرالأزمات الاجتماعية، وبروز نشاط الحركات الإسلامية، مع دخول مصر في انكماش اقتصادي.
في عرضِ هذه المحاور، يحاول الكاتب اعتماد منهج تحليل يغطّي كافة المحطات الكبرى في تاريخ مصر السياسي، كما ينحو إلى تقديم خلاصات جامعة أكثر منه لاستعراض الأحداث. وفي ما يورده لا يطغى الطابع الوصفي، وإن كان يستعين به لعرض الأحداث والتعليق عليها، وإنما يحاول ربط الوقائع بعضها ببعض وإبراز تداعياتها. ونقدّر أنّ الخطّة التي رسمها الكاتب لمؤلّفه قد وفّق في الالتزام بها، واستطاع من خلالها تقديم حوصلة جيّدة عن تاريخ مصر السياسي. حيث تُمثِّل مصر، من ناحية سياسية، المركز المؤثّر والفاعل في الحياة السياسية العربية، ما جعل المؤلف يركز تركيزا كبيرا فيفهم الأطوار والأوضاع السياسية الملمّةبمصر، لا سيما في الفترة الحديثة. نشير إلى أنّماسيمو كامبانيني قد انشغل، في فترة سابقة، بالحقبة الناصرية وأصدر عمَلًا في الشأن حول عبدالناصر وسياساته الاشتراكية.
يتميّز الكتاب على غرار الأعمال الأخرى لكامبانيني بعمق النظر ومنهجية التحليل، بما يرفعه إلى مصاف الكتابات العلمية المقدَّرة التي تروم الإلمام بمختلف أطوار الأوضاع السياسية في مصر. كما يُميّز صاحبه وعي مدقّق بالأوضاع السياسية للبلاد العربية، فضلا عمّا تتّسمبه مجمل أعماله بالموضوعية والتحليل الهادئين دون تجريح أو انتقاد، فهو يسعى لفهم الأوضاع السياسية من الداخل، كما يحاول أن يضعها داخل إطار عامّ للسياسة العالمية دون تعالٍ أو تحليل مستعجل. ففي موجة التوتّر السياسي بين الغرب والعالم العربي في الحقبة المعاصرة، وما تميّزت به من حملات إعلامية مغرضة، لم نلحظلكامبانيني موقفًا سلبيًّا من الحضارة العربية أو من البلاد العربية، رغم حضور الرجل المهمّ في وسائل الإعلام، بل غالبا ما نحا إلى النقد البنّاء، والتصحيح، والدفع نحو تروّي قضايا البلاد العربية والحثعلى تفهّمها بعمق دون تسطيح أو ابتذال. يُشهد لماسيمو كامبانيني موقفه المتّزن من قضايا البلاد العربية. كما لم نعاين للرجل ميولات شوفينية أو دينية مقيتة تجاه الحضارة العربية أو قضايا الإسلام.
هذا وقد شغلت كامبانيني عبر مسيرته العلمية أربعة محاور: الدراسات القرآنية، وبواكير الفلسفة الإسلامية، والفكر السياسي الإسلامي، والتاريخ المعاصر للبلاد العربية، أنجز خلالها حوالي عشرين مؤلّفا فضلا عن عديد الترجمات. ترجم كامبانيني "فصل المقال" و"تهافت التهافت" لابن رشد، كما ترجم للغزالي "ميزان العمل" و"جواهر القرآن"، وترجم للفارابي كتابًا ضمّ مؤلفاته السياسية بعنوان "الأعمال السياسية". لكامبانيني كتاب منشور بعنوان "مدخل إلى الفلسفة الإسلامية"(2004)، وكذلك كتاب بعنوان "تفسير القرآن في القرن العشرين" (2008)، كما له ضمن السياق نفسه مؤلّف بعنوان "تفاسير القرآن" (2013).وأمّا في التاريخ السياسي فقد نشر "الإسلام والسياسة" (1999)؛ "الفكر الإسلامي المعاصر" (2005)؛ "تاريخ الشرق الأوسط" (2006). وخلال العام 2008 نشر كتاب "أهل السنة"؛ وأصدر خلال العام 2010 "الإخوان المسلمون في العالم المعاصر" رفقة كريم مزران؛ وخلال العام 2016 "الإسلام دين الغرب".نشير أنّ جلّ أعماله قد تُرجِمت إلى الإنجليزية والفرنسية.
فبعد مشوار ناهز العقدين من الانشغال بالفلسفة الإسلامية، أي منذ بداية مساره الأكاديمي، تحوّل كامبانيني في العقدين اللاحقين إلى الانشغال بالتاريخ السياسي للبلاد العربية، حتى بات من خيرة المتخصّصين في المجال، وكتابه الحالي يندرج ضمن مشروع عام تناول فيه العديد من قضايا البلاد العربية السياسية. كما يُعرف الكاتب بغزارة إنتاجه وعمق تحليله، وهو ما يَسّر له التعاون مع العديد من الدوريات والصحف والمؤسّسات البحثية. لكن في غمرة هذا النشاط الحثيث، يبقى الشيء الذي أضافه كامبانيني للدراسات السياسية العربية في إيطاليا، وهو وقوفه ضدّ الرؤى الاختزالية للتاريخ العربي، فضلا عن تصحيحه لعديد الأحكام الشائعة في الأوساط الإعلامية، فالرجل يحاول دائما في أعماله المكتوبة أو في حواراته للإعلام أن يصوّب الرؤى المغرضة والخاطئة عن الواقع العربي.
وبالنظر لاتساع الفترة التي اشتغل عليها كامبانيني في مؤلّفه الذي نعرضه، فقد حاول تنويع مصادر بحثه. صحيح لم تكن نسبة المؤلّفات العربية عالية، ولكنّها حازت ما يناهز السدس من جملة المراجع، غير أنّ اللافتمع المؤلّف تعامله النقدي مع مراجعه ومصادره الأجنبية أو العربية، فإلمامه بالفترة المعنية بالبحث أتاح له قدرة على تمييز الغث من السمين في المراجِع، وهو ما يجلو من خلال تعويله على الكتابات الرصينة والجادة. كما أنّ الكاتب مقتدِر في عرض آرائه وتقديمها، فهي غالبا ما جاءت مشفوعة بدعامات من التاريخ، تلك المقدرة استندت إلى لغة إيطالية متينة تخلو من الغموض والتجريد. كما أنّالكاتب على دراية باللغة السياسية للمراحل التي يكتب عنها، فإلمامه بالعربية وبتاريخ مصر قد يسّرا له تلك المهمّة.
صِيغَ الكتاب صياغة تراعي تقاليد الكتابة العلمية، حيث اشتمل كلّ فصل من فصول الكتاب التسعة على مسرد للمصادر والمراجع، مع توضيحات وشروحات لِما رأى الكاتب أنّه يَشْكُل على القارئ، أو ما ارتأى أنّه ضروري لمتتبِّع تلك الأحداث. كما أورد في آخر الكتاب جرْدًا بأسماء الأعلام وشرحًا مفصَّلا للمصطلحات العربية الواردة في متن الكتاب. لم يورد الكتاب كرونولوجيا للمحطات المفصلية في تاريخ مصر، وإن كان حاول بيان الفترة التاريخية التي يعالجها كل فصل من فصول الكتاب.
تفتقر المكتبة الإيطالية إلى كتاب من هذا الصنف يأتي على مجمل مراحل تاريخ مصر السياسي، الوسيط والحديث والمعاصر، ويُقدّم خلاصة شاملة. وبالمثل يميّزالمكتبة العربية شحّ في تناول تاريخ مصر المعاصر خصوصا منذ فترة ما بعد السادات. ولا شكّ أنّ هذه النوعية من الأعمال تفيد القارئ العربي أيضا، لما يقف عليه من مغايَرة في الطرح واختلاف في التحليل، سيما لمّا تكون صادِرة عن كُتّاب لهم دراية معمَّقة بالواقع العربي. غير أنّ كثيرا من تلك الأعمال المهمّة تبقى للأسف غير منقولة للسان العربي ولم تحظبالعناية اللازمة. فعلى سبيل الذكر رغم المؤلفات العديدة التي أنجزها ماسيمو كامبانيني، والمتعلّقة أساسا بالثقافة العربية في مجالات الفلسفة والسياسة والدين،لم يحظ بالترجمة إلى العربية سوى مؤلّف يتيم له أنجزه المترجم عماد البغدادي بعنوان "تاريخ مصر الحديث: من النهضة في القرن التاسع عشر إلى مبارك" صدر منذ سنوات ونُشر من قِبل المشروع القومي للترجمة في مصر (2006).
نشير أنّ السنوات الأخيرة في إيطاليا قد شهدت صدور العديد من الأعمال حول الأوضاع السياسية العربية، ارتبطت أساسا بمحاولة فهم التحولات الاجتماعية التي شهدتها المنطقة. صحيح أنّ هناك كتابات وأبحاثا أنجزها باحثون ومتخصّصون في الأوضاع السياسية والدينية للبلاد العربية، ولكن ظهرت أيضا كتابات عدّة هزيلة استغلت التوترات الأمنية فحاولت بأشكال مغرضة التطرق إلى قضايا تجد رواجًا في سوق النشر، مثل المسلمين في الغرب ولباس المرأة المسلمة والمهاجرين والأوضاع الأمنية وقضايا الإرهاب.
----------------------------------------------------------------
الكتاب:تاريخ مصر.. من الفتح الإسلامي إلى اليوم.
الكاتب: ماسيمو كامبانيني.
الناشر:( منشورات إيلمولينو مدينة بولونيا – إيطاليا)
اللغة: الإيطالية.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 278ص.
