التركي في ليفورنو، مواجهات مع الإسلام في توسكانا في القرن السابع عشر

Picture1.png

شيزاري سانتس

فاتنة نوفل

يتناول هذا الكتاب وجود العبيد المُسلمين في مدينة ليفورنو الواقعة في إقليم توسكانا الإيطالي خلال القرنين السابع والثامن عشر، وهي ميناء يقع على البحر الأبيض المتوسط، كان المسافرون يتدفقون إليه في البداية "باسم الله" وبعدها "باسم الربح" حيث تمَّ التركيز على وجودهم اليومي وعلى العلاقات التي تربطهم بسكان المدينة على وجه الخصوص.

أثارت الأهمية التجارية لميناء ليفورنو في اقتصاد البحر المتوسط في العصر الحديث اهتمام العلماء لدراسة الأقليات الدينية التي استقرت في المدينة بفضل امتيازات الدوقية الكبرى. وكانت هناك الدراسات الأكثر أهمية في هذا المجال حول "الأقلية اليهودية" من وجهة نظر تاريخية لم تهمل الشبكات الاقتصادية والشخصية التي تضم اليهود في ليفورنو مع تجار بلاد الشام الإسلامية. واليوم يتم إضافة دراسة عن هؤلاء العرب الكاثوليك والموارنة الذين استقروا في المدينة بين القرنين السابع والثامن عشر وعن أبناء بلدهم من آلاف "الأتراك" الذين جاءوا إلى ليفورنو في سلاسل، أو كزائرين أحرار في حالات نادرة جدًا، حيث قام عدد قليل نسبياً من العلماء بدراسة العلاقات الإسلامية المسيحية وتكريس الموضوع عن العبودية المتوسطية في العصر الحديث.

كانت ليفورنو تطمح إلى وضع نفسها على الساحة المتوسطية كميناء تجاري كبير للإيداع والبيع؛ وكان العبيد في الواقع ضحية على قوارب توسكانا يعاملون كسلع بنفس الطريقة التي كانت تعامل بها أي سلعة أخرى موجودة على السفن أو سواحل العدو يمكن بيعها وشراؤها "مثل الحيوانات". فلإقامة الأسوار والمنازل في المستنقعات والأراضي غير الصحية، والإبحار بمجاذيف القوارب كانت هناك حاجة إلى الرجال: وكان القبض على العبيد في البحار والسواحل الأفريقية هو الذي يضمن وجودهم في موانئ توسكانا، قبل أن تجتذب قوانين ليفورنو التي كانت تحت الإنشاء اليهود والأقليات الأخرى لملء وإثراء المدينة.

 كان النظام دائريًا تمامًا حيث انتهى الأمر بالسجناء المُسلمين على القوارب أن يجبروا على استخدام قوتهم لأسر رجال جُدد من بلادهم حيث كان العبيد ينتجون عبيداً، ثم يبيعهم الدوق الأكبر في السوق مثل الخيول والأبقار أو الأغنام، والإبقاء على أقوياء البنية منهم كعبيد.

لقد شكلت معركة ليبانتو وهي أشهر المعارك البحرية بين الدولة العثمانية والقوى الصليبية والهدنة التي أعقبتها عام 1581 نقطة تحول في تاريخ البحر المتوسط. فالبطولة التي حاربت فيها المسيحية ضد الإمبراطورية العثمانية والأفواج البربرية في صراع ضاهى الحروب الصليبية من حيث الحجم والدعاية حيث كان صراعاً ذا طابع اقتصادي (على الرغم من الذريعة الدينية التي تم نشرها)، بين القراصنة في الجزائر العاصمة وتونس وطرابلس من جهة وبين فرسان مالطا وسانتو ستيفانو من جهة أخرى مختلفين من حيث الإيمان واللغة، متحدين بنفس الرغبة في الحصول على الغنائم والعبيد. كان هناك حاجة لمشاريع كبرى لسلالة ميديشي التي كانت تحتاج إلى أيدٍ عاملة وبأسعار منخفضة. الدوق كوزيمو الأول ومنذ نهاية القرن السادس عشر حاول زيادة الثقل العسكري والسياسي والاقتصادي باتجاه البحر الأبيض المتوسط وشمل ذلك بناء أسطول توسكانا وفي الوقت نفسه كانت الأعمال مستعرة في ترسانة بيزا، وعلى مسافة قريبة تم تنفيذ أعمال لتوسيع ميناء قرية صغيرة من المقرر أن تصبح مدينة جديدة: اسمها ليفورنو.

في بداية القرن السابع عشر أصبحت ليفورنو واحدة من عواصم البحر المتوسط ​​لبيع وفدية العبيد وكان ذلك ممكنًا بفضل الوجود الفريد لمكان كان من الممكن جمع "السلع" الثمينة فيه والحفاظ عليها بكميات كبيرة وهو سجن البانيو.

تم بناء "البانيو" بين عامي 1598 و 1604 من قبل المهندس المعماري جورجيو فازاري وبأمر من فرديناندو الأول، ذلك المهندس الذي أدرج مشروع هذا المبنى في أطروحته للمدينة المثالية على غرار الأوصاف الدقيقة لسجون الرقيق الموجودة بالفعل في الجزائر والقسطنطينية. تم إنشاء المبنى الجديد لتلبية اثنين من الاحتياجات الأساسية وهي مراقبة المحتجزين وتحسين ظروفهم الصحية (بهدف توفير أداء اقتصادي أكبر وحماية وقائية للمدينة من الأوبئة المحتملة) ومن أجل استيعاب طاقم السفن وعدم محاولة الفرار في الليل، كما يُمكن بسهولة أن يحدث في السجن. تقرر بناء مصنع كبير معزول من كل جانب تُحيط به جدران عالية مثل القلعة حيث وصل العديد من أوصاف هذا المبنى من قِبَل المسافرين الذين مروا عبر ليفورنو بين القرنين السابع والثامن عشر ومن بعض التقارير التي وضعها وزراء حكومة توسكانا في فترة حكم سلالة ميديشي، كان سجن البانيو في موقع مركزي إلى حد ما على شكل رباعي شبه منحرف في الشكل يحيط بفناء مركزي كبير مع بئر مياه عذبة وصهريج لغسل الملابس؛ في الطابق الأرضي كانت هناك مهاجع لطاقم السفينة على كل جانب، في نهاية كل "بانيو"، باستثناء بانيو القديس أنطونيو، كان موجوداً "المسجد التركي" أي غرفة يستطيع فيها العبيد المسلمون أداء شعائرهم الدينية وصلواتهم الجماعية. ربما مُنِحَ هذا الامتياز في منتصف القرن السابع عشر حيث يوجد شكوك حول تاريخه وكان هناك أيضاً كنيسة واسعة للعبادة الكاثوليكية تقع في الطابق الأوسط لبانيو القديس أنطونيو. في الطوابق العليا للمبنى فوق المهاجع، كانت توجد مبان للضباط المسؤولين عن إدارة المكان والسيطرة على الطواقم الذين كانت مهمتهم الحفاظ على "العناية الدؤوبة بالعبيد وتلقينهم الأوامر القسرية للقيام بالعمل.

بجانب المهاجع كان هناك بناء مستقل، حيث تم إنشاء المستودعات ومصنع حقيقي مخصص لإنتاج الغذاء للمحكومين والبَحارة، تطحن الحبوب المخزنة هناك ويُحَضر منها الخبز الأبيض وغيرها من المنتجات عالية الجودة للبيع لسكان مدينة ليفورنو. كان هناك أيضًا مستشفى ذو جناحين متميزين، واحد مخصص لمرضى اعترافات الأديان المعارضة والآخر للعبيد المسلمين حيث كان سوء المعاملة لا يطاق على الإطلاق. بالنسبة للأرقام المتعلقة بعدد العبيد المسلمين الذين تم أسرهم وسجنهم في ليفورنو، لا يوجد اتفاق تام بين الباحثين ولكن من الممكن القول وعن طريق اللجوء إلى السجلات أنه بين عامي 1568 و 1688 في عهد الدوق الأكبر، كانوا قد استولوا على 10115 عبد، منهم 6175 ما بين 1600 و 1620. توقف البانيو عن العمل في 13 شباط 1750، عندما تم إطلاق النار على الوزراء وتحرير معظم العبيد وإطلاق سراح المحكومين الذين هربوا الى الأماكن المجاورة. حيث تم تحويل البانيو إلى مستشفى في وقت لاحق.

تهدف الدراسة الحالية إلى البحث في جوانب الصراع الثقافي بين المسلمين العبيد والمواطنين الكاثوليك والتي كانت متكررة من خلال وجود "بانيو" ليفورنو. إن الاهتمام بالجانب الثقافي للظاهرة قد أثر على اختيار نوع المصادر والنهج الذي استخدم في تفسيرها بسبب وجود الرغبة في إعادة الكلمة قدر الإمكان لهؤلاء الأفراد الذين حاول هذا الكتاب إعادة بناء وجودهم. لقد وقع الاختيار على الوثائق القضائية كملفات عمليات الاستجواب للعبيد المسلمين الذين كان يتم استدعاؤهم بشكل استثنائي كشهود أو أطراف نزاع للاستماع لشهادتهم في سجل الاستجواب.

من خلال تحليل بعض الوثائق المحفوظة في أرشيف أساقفة بيزا التي أبرزت الحالات التي لجأ فيها المسيحيون إلى "الأتراك" ومقارنتها مع التقاليد الإسلامية لشمال إفريقيا من خلال تحليل بعض حالات "السحر الإسلامي في الأرض المسيحية" ومن خلال وصف موجز للسياق التاريخي والاجتماعي للبانيو وفي محاولة لتوضيح كيف كانت "توسكانا" في القرن السابع عشر تجتمع مع "الآخر" والتجربة اليومية التي َتفترض: أن "التركي" كان بالتأكيد العدو الذي لا يقهر والمرعب المسيطر وراء البحر، ولكن كان أيضا العتال الذي يجلب الماء في الصباح، أو الساحر الذي ُيلجأ إليه لحل شرور الحب.

وكمثال على الشخصيات التي عملت بالسحر من العبيد المسلمين في بانيو ليفورنو، تم البحث في قضية مهمة وموثقة جيدًا، تلك التي وقعت في عام 1611 وكان المتهم فيها يوسف "التركي" وهو عبد سابق كان يعمل على قوارب الدوق الأكبر، تحول إلى المسيحية وتعَمد لاحقًا باسم جوزيببي بوكاريللي حيث تم حفظ هذا الملف بالكامل تقريبًا. يتبين من الوثائق أنه تم استجواب دومينيكا فاننيني لونيجانيزي، حيث ادعت دومينيكا بأن أرواحاً شريرة كانت تمتلكها على مدار الأربعة عشر عامًا الماضية وأنها حاولت طردهم بكل السبل بواسطة ثلاثة رجال دين واعترفت بأنها قبلت اقتراح السيد أوتافيوديلبوني وهو شريك حياتها باللجوء إلى يوسف في بانيو ليفورنو.

كان أوتافيو قد علم من قبطان السفينة التي رست في ليفورنو أن العبد يوسف الملقب بـ "باباسين تونس" أنه خبير في فن الطب والعلاج. تم استدعاء يوسف وإيواؤه في منزل ديلبوني طوال عام 1610، حيث عالج دومينيكا بالعديد من الطقوس والتمائم التي وصفتها المرأة على وجه التحديد. ونظرًا لأن العلاجات كانت تبدو ناجحة كان يوسف قد غادر المنزل وعاد إلى ليفورنو حيث تم تعميده. ومع ذلك، حدثت أزمة مفاجئة وأكثر خطورة يوم أول جمعة في مارس 1611 لذا فقد تمت إعادة يوسف إلى الخدمة، وعلى الرغم من كونه مسيحيًا الآن فإنه صنع دواءين من السحر مما أدى إلى زيادة حالة المرض لدى دومينيكا حيث في النهاية تم إدانة يوسف بعمل السِحر لها وحبسِه في سجن البانيو. كان الحُكم يتحدث عن استدعاء للشيطان؛ "فيوسف" خائن، شيطان وساحر؛ تجاوزت ليفورنو الخوف، واتخذت في كثير من الأحيان شكلا من أشكال التعاون. ويظهر ذلك من خلال تاجر من مدينة بيزا أوراتزيو بوتيجيسي، الذي قال وهو يسير على طول نهر أرنو، إن الله قد صنع أجيالاً كثيرة من الناس، وكان على يقين من أنه يمكن إنقاذ كل واحد وفق قانونه؛ وإذا أراد الله أن يكون جميع الرجال في العالم مسيحيين لكان قد فعل ذلك، وكانت المناسبة هي وجود العبيد المسلمين في إيطاليا الكاثوليكية.

--------------------------------------

العنوان: التركي في ليفورنو، مواجهات مع الإسلام في توسكانا في القرن السابع عشر

المؤلف : شيزاري سانتس

 دار النشر: أوففيشينا ليبراريا للنشر

بلد الاصدار: ايطاليا

لغة الكتاب: الايطالية

تاريخ الاصدار: تشرين أول 2019

عدد الصفحات: 210

 

 

 

 

أخبار ذات صلة