عدنان الهميمي
لا شك أنّ القرآن الكريم قد حظي باهتمام بالغ من المسلمين وأقيمت حول كلماته وألفاظه بحوث ودراسات وظهرت نتيجة ذلك علوم ونظريات، أشهرها علم الكلام الذي يعد "الثاني ظهورًا في الممارسة والتأليف بعد علم الفقه"، في الأسطر القادمة تلخيص مقال الكاتب رضوان السيّد الذي نشر في مجلة التفاهم بعنوان "الحق في الخطاب القرآني والمنظومات الكلامية الإسلامية".
تزامن ظهور اختصاص "الوجوه والنظائر" مع اتجاه النخب الإسلامية- في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري- لتكوين أساليب ومناهج لمقاربة الخطاب القرآني وفهمه؛ وقد نشأت نتيجة لذلك ثلاث مقاربات هي: اللغوية /اللسانية، والفقهية، والكلامية. ويعد اختصاص الوجوه والنظائر مثالا للمقاربات اللغوية واللسانية، وقد عدد (الدامغاني) في كتابه الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز اثني عشر تفسيرا للفظة الحق في القرآن مستشهدا بآيات قرآنية على سبيل المثال لا الحصر: الحق تعني الله نفسه (المؤمنون71)، وجاءت بمعنى القرآن (الزخرف29)، وجاءت بمعنى الإسلام (بني إسرائيل81)، وجاءت بمعنى العدل (النور25)، وجاءت بمعنى التوحيد (الصافات37). والدامغاني بتفسيراته هذه يشير إلى إمكانية اختلاف معاني الألفاظ القرآنية المفردة في المواطن والسياقات، ذلك يعني أنّ لكل مفردة قرآنية معنى رئيسي ومعان فرعية؛ فمفرد الحق ينطوي على معنى رئيس هو الثبات والإطلاق؛ لذلك اعتبر اللغويون والمفسرون أنّ الحق اسما من أسماء الله تعالى بمعناه المطلق الذي ينفرد به عز وجل، أمّا الوجوه والمعاني الأخرى فيتحقق فيها معنى الثبات، لكنها تكتسب قوة فائقة نتيجة لانتسابها إلى المطلق.
ونتيجة لما سبق؛ لا يعد اختصاص الوجوه والنظائر من غريب القرآن مثلما يرى بعض العلماء، ويقصد به دخول الاحتمال عليها مما يؤدي إلى عدم التجدد أو الافتقار إلى الدقة، ذلك لأنّ المعنى الرئيسي واضح جلي وتندرج تحته الدلالات الفرعية التي تجلي وجوه المصطلح الأساسي المتعددة. ومفردة الحق الواردة في القرآن الكريم في مواضع شتى تشكل بدلالاتها المتعددة مفتاحا لفهم جوهر وحقائق الدعوة القرآنية ومسارها، فالله سبحانه وتعالى هو الحق وجودا ووحدانية، والقرآن هو الحق؛ لأنه كتاب الله الموحى، والإسلام هو الدين الحق؛ لأنّه دين منزل من الله تعالى، أمّا المعاني الثانوية أو الفرعية الأخرى - منها الصدق والعدل. إلخ- فإنّها سمات لعدة أمور تدخل كلها في حق الألوهية وحقيقة القرآن والإسلام.
ويمكن فهم موضوع الحق بفهم علم الكلام الذي يُعنى بتصحيح الاعتقاد؛ فموضوع الاعتقاد هو موضوع الحق والباطل.
هذا ويرجع ظهور علم الكلام إلى عوامل داخلية وخارجية، أمّا الخارجية فلعل ظهوره كان بمثابة الدفاع عن الإسلام وفتوحاته وانتشاره ضد ردود أفعال الديانات السائدة آنذاك- التي هاجمته بادعاء زيفه وزيف كتابه ونبيه، وقد كان المسلمون العرب يعرفون الديانتين اليهودية والمسيحية من القرآن ومن المعايشة، إنّما عندما بلغت فتوحاتهم إلى ما بعد فارس وما وراء النهر واجهوا ديانات أخرى بتحديات ما عهدوها من قبل، منها الزرادشية والمانوية والبوذية ولاحقا الهندوسية فكان خطر تفشي الزندقة والارتداد عن الإسلام بين شبانهم ومثقفيهم وارد.
أمّا العوامل الداخلية فأهمها ثلاثة أمور:
- فتنة الصحابة وعمليات الصراع على السلطة أيام عثمان وعلي التي سقط فيها آلاف من القتلى بعضهم من صحابة رسول الله.
- نتيجة استخدام السلطة للدين من أجل الشرعنة والدفاع عن المواقع وإسكات الخصوم.
- كانت سببه ما يُعرف بظواهر القرآن في مسائل الإيمان والقدر وتنزيه الله وعدله ورحمته... وغيرها.
وقد شعر المسلمون جميعا بهذه التحديات لكن الفئة الأكثر اهتماما وانشغالا ومتابعة لها عُرفت بالمتكلمين.
ولمعرفة كيف أن الحق وتفرعاته في الخطاب القرآني تجلى في المنظومات الكلامية فلا بأس أن نفصل في مسألتين هما كالتالي:
المسألة الأولى: مسألة الإيمان
مع أن القرآن يربط الإيمان بالعمل الصالح إلا أن خلاف الصحابة على الخلافة وما ترتب عليه من نزاعات دموية شارك فيها عدد كبير من الصحابة وسُفكت فيها الدماء التي حرمها الله إلا بالحق، أوجد مشكلات كبيرة فقهية وعقدية، منها علاقة مرتكب جريمة القتل عمدا بإيمانه؛ فالله سبحانه وتعالى يُقر أنّ القاتل عمدا مخلدٌ في النار؛ فهل القاتل عمدا يبقى مؤمنا؟
أطلق المتكلمون على هذه القضية "مسألة مرتكب الكبيرة"، وقد ذهب المُحَكِّمة فيها إلى أن ارتكاب الكبيرة خارج عن حد الإيمان لذلك نجدهم قد اعتزلوا الفتنة خشية ارتكاب جريمة القتل عمدا. أمّا المرجئة فقد رأت أن الإيمان هو التصديق، وأن العمل الصالح أو الطالح لا يؤثر فيه سواء بالنقص أو الزيادة؛ لذلك فإنّ الإيمان لا يزول بتخلف آثاره ومقتضياته، لهذا فقد رأوا أن الحكم على مرتكب الكبيرة مُرجأ إلى رحمة الله وفضله، خاصة إذا تاب المرتكب توبة نصوح.
ورأت المعتزلة أن الكبيرة مخرجة من الإيمان دون أن تُدخل في الكفر فإن أصر مرتكبها كفر، وإن تاب عاد إليه إيمانه.
أمّا الأشاعرة فقد وقفت موقفا وسطا عندما اعتبرت أنّ المرتكب عاص أو فاسق وليس كافرا لأنه موحد، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإذا مات صاحب الكبيرة بدون توبة فإنّه سيعاقب ولكنه لن يخلد بسبب إيمانه.
وقد تفرّعت عن هذه المسالة- التي استمرت زهاء قرن ونصف- مسائل أخرى كثيرة تحت عنوان: "الحق في مسألة الإيمان، وهل تؤثر فيه الذنوب أم لا". ومع أنّ أصل الخلاف هذا كان سياسيا إلا أنّه عندما تحول إلى مسألة كلامية أثرت في تطوراته ظواهر الآيات القرآنية، التي تصر على مسؤولية المرتكب ومن جهة أخرى تقر أن الله يغفر ما دون الشرك به.
المسألة الثانية: مسألة القدر والكلمة الحق فيه:
يذكر المؤرخون للنزعات الكلامية ثلاثة أسباب كانت أسبابا أساسية لظهور هذه المسألة، أولها: استخدام الأمويين أيام معاوية وعبدالملك لهذه المسألة لشرعنه استيلائهم للسلطة، فقد كانوا يقولون للناس أنهم جاءوا للسلطة بمقتضى قضاء الله وقدره، وبهذا لا يجرؤ أحد معارضتهم؛ لأنّه بذلك يتحدى أقدار الله!
أمّا السبب الثاني فقد كان نتيجة مواجه نصارى الشام في اتهامهم دين المسلمين بالجبرية استنادًا إلى نصوص القرآن وممارسات العامة.
والسبب الثالث هو ظواهر الآيات القرآنية التي تشير في مواطن كثيرة إلى أنّه لا مشيئة إلا ما شاء الله وأنّ الله يقدر الأشياء قبل حدوثها، فقد أول بعض العلماء هذه الآيات بما يتفق مع تنزيه الله وعدله وحكمته.
وقد كان فيما يبدو أنّ السائد في صدر الإسلام الأول إثبات القدر دونما أسئلة، ثم كانت العوامل الثلاثة التي ذكرنا والتي أنتجت رأيا مغايرا يقول إنّ الله لا يخلق أفعال العباد ولا يقدرها وإلا سيكون ظالما إن حاسبهم على ما خلق. وقد أوّل أصحاب هذا الرأي الآيات المخالفة للاعتبار الأعلى وهو عدل الله وتنزيهه، وقد أُطلق عليهم "القدرية"، وقد خالف القدرية في توجههم هذا أهل الحديث والمرجئة والأشاعرة، وهؤلاء يقولون إنّ خلق الأفعال لله وكسبها للعباد.
وأخيرا يمكننا القول إنّ التباين والخلاف بين المنظومات الكلامية ناتج عن تأثرها الكثير بظروف التجربة التاريخية للمسلمين، وبظروف المدارس الكلامية المختلفة، فهي ليست نتيجة مباشرة للخطاب القرآني، إنّما اختلطت فيها آراء البشر وتفسيراتهم المتباينة.
