عدنان الهميمي
يرى محسن الخوني في مقال له بعنوان: "الفيلسوف والمدن غير الفاضلة من خلال ابن باجة الأندلسي" أنّ الفلاسفة قد عرّفوا الإنسان بالحيوان المدني أو السياسي؛ لأنه بماهيته أو طبيعته مرتبط ارتباطا وثيقا بعيشه ضمن مجموعات. وقد اختلف الناس في اهتمامهم بمسألة انزواء الأفراد عن هذه المجموعات من منطلقات مختلفة ومتناقضة أحيانا. بيد أنّ الفلاسفة اتخذوا منه موضوعا لتأملاتهم، ويعد كتاب تدبير المتوحد للفيلسوف الأندلسي ابن باجة من المحاولات الأصيلة في هذا الموضوع، فقد ضمّن فيه تصوراته الفلسفية، أو ما يمكن أن يُسمى بنظرية "متوحد باجوية "، وكما يعد التدبير فعلا مصاحبا ومحركا لها.
ما هو التدبير:
يرى ابن باجة أن التدبير أساس التوحد؛ فهو الذي يكسب صاحبه هذه الصفة، ولهذا الأمر نجده يشرع في تحديد مفهوم التدبير كفعل قبل غيره؛ فالسبق المنطقي للتدبير على التوحد يقتضيه البناء الداخلي للنص الباجوي، وفي حقيقة الأمر أن التدبير ليس إبداعا باجويا؛ فالفكر الفلسفي - كما قال ابن رشد- "يتنافى مع اقتصار الأفراد أو الجماعات والأمم على أنفسهم في بناء العلوم". إنما هو عملية تراكمية على مر العصور لذلك نجد أنّ ابن باجة ينطلق من الموروث الفلسفي العربي والإغريقي لتحديد معنى مصطلح التدبير ويرى أنّ الدلالة اللغوية للكلمة هي "ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة"، فاللفظة - بناء على هذا التعريف- لا تطلق على "من فعل فعلا واحدا يقصد به غاية ما"، كما أنّها لا تطلق على أفعال كثيرة مبعثرة، إنما الترتيب فعل تدبيري وترتيب الأفعال هو التدبير. وليس كل ترتيب تدبير؛ فالتدبير يزيد عنه بالغاية التي هي السبب من جعل الأفعال تتنظم على نحو معين.
والتدبير هو فعل الفكر، الذي يعطي للمتوحد صفته، وبهذا يسقط القول بأنّ التدبير مدفوع بنزعة تحريضية أو تغييرية على طريقة الفلاسفة.
تأريخ التدبير:
استفاد ابن باجة من تاريخ الفلسفة الإغريقية (أفلاطون وأرسطو) والفلسفة العربية (الفارابي) كثيرا عند كتابته لتدبير المتوحد؛ لذا ولكي يتضح مفهوم التدبير الباجوي لابد من ربطه مع هاتين الفلسفتين، فقد "كتب ابن باجة تدبير المتوحد استنادا إلى ما كتبه الفارابي في الفلسفة، إلا أنّهما يرجعان معا إلى أرسطو الذي لا يُفهم معنى التدبير عنده خارج تصوره للحكمة، حتى أننا نجد أنّ ما ذكره ابن باجة على أنّه من أشرف الأمور التي تسمى التدبير- وهي تدبير المدن والمنازل- كانت من تتبعه لفكر الفارابي، والفكرة أساسًا منقولة عن أرسطو.
تصنيف أرسطو للتدبير:
يرى أرسطو أنّ "كل فكر إما أن يكون عمليا أو إنشائيا أو تنظيريا"، والعلم النظري يدرس الأشياء التي لا يمكن أن تكون بخلاف ماهي عليه، وهذا يعني أنّ التدبير ليس علما نظريا؛ لأنه يكون في الأشياء التي يمكن أن تكون على خلاف ماهي عليه وتتعلق بالمستقبل، والعلم النظري - كونه علما- قابل للتعلم بينما يبقى التدبير -تهذيب النفس أو الفطنة- مجال تجربة المفرد التي لا يمكن أن يقوم بها فرد عوضا عن آخر.
ويذهب ابن باجة- متأثرا بأرسطو- "أنّ المتوحد يدفعه نزوعه إلى السعادة الخلقية كغاية والتدبير وسيلته فالحياة الفاضلة في نظر أرسطو غاية" والشهوة تستهدفها.
أمّا الفطنة فهي استعداد نفسي تصقله التجربة، ولا يعدها أرسطو- ويؤكد عليها ابن باجة- علما بل فضيلة علمية، ميدانها الفعل الإنساني؛ فالتدبير فطنة تقوم على ملكة حكم الفرد، والتدبير قد يكون بالصواب أو الخطأ، كما يذهب إليه ابن باجة، ويقصد بذلك أنه قد يحدث في المدن الفاضلة وغير الفاضلة، وقد يكون خاطئا أو فيما هو خاطئ كما قد يكون صائبا أو فيما هو صائب، وذلك يقاس بمدى مطابقة فعل التدبير للفضيلة بوصفها الغاية الأخلاقية.
المتوحد والنابت:
يقصد ابن باجة بالمتوحّد الفرد الذي أقصى ذاته عن معاشرة الناس، معاشرة طبيعية وظل يتدبر أمره في وحدته، والمرادف لها هو النابت.
ويختلف ابن باجة والفارابي في تعريف النابت، بينما يعتبر الفارابي أنّ النابت هو الشاذ في المدينة الفاضلة، يرى ابن باجة أنّه الشاذ في المدينة غير الفاضلة وهو الفيلسوف من ناحية أخرى، وهذا الاختلاف ناتج من اختلاف المنطلق بينهم فقد انطلق الفارابي من نظرة معيارية للمدينة الفاضلة، التي تفسد بوجود النوابت، بينما انطلق ابن باجة من نظرة واقعية حيث رأى أنّ الشواذ تجاوزوا كونهم قلة – مثلما يرى الفارابي- وأصبحوا كثرة في المدينة التي أصبحت غير فاضلة، بهذا أصبح الشواذ فيها نوابت بمعناها الحسن؛ فالنوابت أو المتوحدين أو الفلاسفة كالعشب النابت بين الزرع من تلقاء نفسه، مثلهم مثل النبي في مجتمع ضال، بيد أنّ النبي مبعوث من قبل قوة عليا والمتوحد نابت من تلقاء نفسه.
حكمة المتوحد:
من جهة الحياة العملية، حكمة المتوحد تتعين في تواصله مع أهل الفكر في عصره وما انعزاله إلا نتيجة انعدام وجود أهل الفكر، لهذا لا يعتبر ابن باجة توحد الفيلسوف نفيا للطبيعة البشرية؛ إنّما هو أمر عارض وضروري كتناول المريض للدواء، فعندما لا يبلغ المجتمع في المدينة الكمال بل تكون مسرحا للحوادث والمصادفات وأفعال الناس التي تكون على غير ما هي عليه، يكون التوحد بمثابة إنقاذ النفس من الهلاك الناتج من هذا المجتمع غير الفاضل.
ويتوحد الفيلسوف أيضا لكي؛ يحقق المساعدة الروحية الفردية التي حُرم منها الباقون نتيجة تفاعلهم في مجتمع غير فاضل.
وانعزال الفيلسوف عن المجموعة لا يعني نفي تواصله معهم في ما هو ضروري للحياة، فالتوحد ليس بمعناه الجسدي وإنما هو اتخاذ موقف متروٍ؛ لكي ينقذ نفسه.
والتدبير والتوحد صفتان متلازمتان للفيلسوف: فبالأولى يتحرر من الانغماس الكلي في الحياة المدنية، وبالثانية يحقق سعادة أخلاقية ذاتية.
المدينة الفاضلة حلم فلسفي
إنّ التوحد فعل ملازم للفيلسوف رغم مدنيّته الثابتة وهو في الحقيقة فعل اضطراري نتيجة وجوده في مجتمع ناقص، لكن التدبير يجعله فعلا اختياريا لغاية تحقيق السعادة الفردية في غياب المدينة الفاضلة التي يكون فيها الأفراد سعداء؛ فسعادة المدبر المفرد أمر ممكن ولكن تبقى المدينة الفاضلة يوتيوبيا الفيلسوف والتدبير مستقبلها والنابت أملها، حتى إذا ما تحققت واقعا حينها يصبح التوحد شرا والتدبير الفردي غير لازم بل يظل التدبير الوحيد الممكن بيد رئيس المدينة الفاضلة؛ لإيصال الجميع للسعادة، وهنا يصبح وجود الفيلسوف النابت دليلا على مرض المجتمع؛ لتشتد الحاجة للتدبير مع اشتداد هذه الأزمة، فالتدبير كالدواء يُعالج به المريض - على رأي ابن رشد- ولكن يرى ابن باجة أنّ المدينة الفاضلة لا تحتاج إلى دواء؛ لأنّ أهلها يتبعون نظاما غذائيا لا يُمرض، فالتدبير والطب والقضاء تظهر في المدن غير الفاضلة.
ماذا بعد نظرية المتوحد؟
"لا تقاس أهمية الفلسفة بطرحها للمشاكل واقتراح الحلول لها بقدر ما تقاس بتأسيسها لطرح تتلاقفه الأجيال اللاحقة"، وقد قدم ابن باجة نظرية فلسفية لا بد أن تقرأ في سياقها التاريخي (فقد سقطت المدينة التي كان يفكر فيها ابن باجة، الأندلس)، فتاريخ الفلسفة قد تطور، وتسارع الأحداث المادية والفكرية جعلتنا نختلف عنهم وجعلتهم غرباء عنا.
