قيس الجهضمي
يتناول الكاتب محمود عبود آل هرموش في مقالته المعنونة بـ"أسباب وآداب الاختلاف والتفاهم في الفقه الإسلامي" مقدار تأثير الخلاف في المسائل المطروحة بين أهل العلم على المجتمع والأمة الإسلامية، خصوصا المتعلقة بالجانب الفقهي كونها أكثر اتساعا للكلام فيها لأنّها معرضة للتغير والتحول عبر الزمن وبفعل تطور المجتمع والحياة، لذا كان على هذا المجتهد أن يدرك الضوابط والشروط والمصطلحات التي تساعده على الأخذ بالخلاف إلى جو من التعاون والتفاهم بين كل أطياف المجتمع المسلم ومذاهبه، حتى يكون الخلاف رحمة على الأمة لا خلاف بغض وشقاق.
ففي البداية يطرح الكاتب تعريفات لمصطلح الخلاف والاختلاف، فالاختلاف سلوك طريق آخر في القول أو الفعل، بينما الخلاف أعم من هذا فقد يكون المختلفان ضدين كالأسود والأبيض أو غير ضدين كالحمرة والخضرة كما هو عند الراغب الأصفهاني، ويذكر الكاتب عن الكفوي والشيخ محمد عوامة في التفريق بينهما أن الخلاف هو أن يكون الطريق والمقصود مختلفا، وفي الاختلاف تكون الطرق مختلفة والمقصود واحد، ويشمل الاختلاف مجالات عدة كالأديان والعقائد والمذاهب لكن المقصد هنا منها هو الاختلاف في المسائل الفقهية، وقد كان الخلاف مشروعا منذ عهد حياة النبي عليه الصلاة والسلام فاختلفوا في حكم بني قريظة وأخذ النبي بقول سعد فيهم واختلفوا في الأسرى وغير ذلك مما هو مشهور في السيرة النبوية، كانت هذه المسائل التي اختلف فيها الصحابة قد حسم القول فيها بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، أما الخلاف المقصود هنا فهو الذي نشأ بعد وفاة النبي، وقد ظهر هذا الخلاف جليا بعد وفاته مباشرة إذ اختلف الصحابة في موته ومن سيكون خليفته على المسلمين.
هنالك أسباب عديدة كانت هي صانعة الاختلاف الفقهي بين علماء الأمة، من هذه الأسباب اختلاف القراءات القرآنية وبالتالي يختلف المعنى والفهم لهذه الآيات، وكذلك عدم الإحاطة بالأحاديث التي تخص المسألة الواحدة مما يجعل المجتهد في المسألة يجتهد فيها على ما معه من أدلة بينما الآخر يخالفه بسبب وجود أدلة أخرى لديه، ومدى ثبوتية هذه الأحاديث أيضا عن النبي فهناك من يصحح وهناك من يضعف مما يعطي قيمة مختلفة في الاحتجاج بالدليل بين الطرفين، كما أن حضور النص كاستدلال قد يكون واحدا لكن اختلاف الأفهام فيه يغير مجرى الأحكام فمثلا القُرء الوارد في الآية الكريمة "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر..ِ" تحمل معنى الحيض والطهر فهناك من أخذ بمعنى الحيض وآخرون بالطهر، وكذا الاختلاف في بعض القواعد الأصولية التي هي طريق الاحتجاج بالدليل الشرعي على حكم ما فاختلاف الطريقة في الأخذ بالدليل وتفسيره أيضا تصنع لدى المجتهدين أقوالا متنوعة في نفس المسألة.
ويذكر الكاتب في مقاله أنه على المجتهد في المسائل الخلافية أن يتأدب بآداب منها أن يخلص النية لله تعالى في البداية وأن يبتغي من قوله الحق ومرضاة ربه، وعليه أن يحترم مخالفيه في المسألة وأن يوقرهم ويعظم من مقامهم لأنهم أيضا اجتهدوا بما أوتوا من العلم وأرادوا طريق الحق، ومن أعظم وأهم الآداب على أصحاب الاجتهاد أن يتخلقوا بخلق الإنصاف يتبعون الحق أينما وجدوه وإن ظهر على لسان مخالفيهم فالمقصد هو الوصول إلى ما يرضى الله من الأحكام، وهناك مساحة ينبغي على المجتهد أن يعلم أن الخلاف فيها ممنوع وهي التي ورد فيها دليل قطعي في الثبوت والدلالة أو أجمع العلماء على القول فيها مثل تنزيه الله وتوحيده وإثبات صفات الكمال له، وأما ما عدا ذلك من المسائل الفرعية فالخلاف فيها مشروع بسبب تفاوت الأفهام والطرق للوصول إلى الأحكام وطالما أن المقصد واحد فتنوع الأقوال في المسألة الواحدة هو رحمة للمسلمين.
ولكي يوجه الخلاف للمنحى الصحيح فلا بد على المجتهد أن يلتزم بضوابط الاختلاف كما يذكر الكاتب، وهي أن يتعامل مع المخالف بمبدأ الإسلام وليس بمبدأ الكيد والخصام فالخلاف في الأقوال والمذاهب لا يمنع أن نقيم بيننا مبادئ الأخوة ورفعة الأخلاق الإسلامية، وأما الضابط الثاني فإن المجتهد في المسائل التي لا نص فيها هو مأجورعلى اجتهاده بشرط أن لا يقصّر في السعي إلى الصواب وترك الأهواء، وأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد آخر بمعنى أن الأقوال وإن مضى عليها فترة من الزمن وجاءت بعدها أقوال أخرى فهذه المتأخرة لا تنقض الأقوال السابقة عليها أو حتى لو كانت الأقوال في نفس الوقت فلكل مجتهد قوله، وعلى المجتهد أن لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المتفق عليه إن جاء مخالفٌ ويطالب بالحجة والدليل، أمّا المسائل الخلافية في الفروع فلا ينكر أحد على أحد قوله لأن باب الاجتهاد فيها واسع، لأن ممارسة الإنكار فيها يؤدي إلى تأجيج الفتنة والصراع بين المذاهب والعداوة بين الناس، وأيضا أن يوقن كل المجتهدون في المسائل الخلافية أنهم كلهم مصيبون أو أن المصيب واحد بعينه وبهذا المعنى تنحل عقد الخلاف حيث أن الجميع قد قاربوا الصواب في أقوالهم، ومن أهم الضوابط في الاختلاف أن كل المجتهدين إن استندوا على دليل أو تأويل في أقوالهم فقد برئت ذمتهم ولسنا بحاجة إلى تفسيق أو تبديع الآخرين.
وقد كان الخلاف قديما يدار على مجموعة من العلماء الذين يمثلون الفئة المتعلمة والواعية بمجريات العلوم وآداب الحوار عن طريق المناظرة بينهم في المساجد أو إحدى مجالس العلم، وأما الآن في عصر انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المتنوعة فقد ظهرت نماذج كثيرة من الشخصيات التي تتكلم في مسائل الدين ومحاوره، وتدّعي أحقيتها في القول بالمسائل الخلافية إضافة إلى هذا ما تبثه بعض برامجهم من إثارة الفتنة والفرقة بين المسلمين وإطلاق التكفير والتبديع للعلماء الآخرين أو المذاهب الأخرى، مما مزق أواصر الأمة في مسائل كثيرة كان التنوع في أقوالها واحترام مخالفيها رابط تجمعها وقوة مجتمعها ورحمة للمسلمين، وأرى أن على المجتهدين أن يوسعوا من دائرة ارتباطهم بالمجتمع والانغماس بمشاعر الناس حتى يدركوا عمق التأثير لأقوالهم في حال الخلاف ويصنعوا بينهم وبين مخالفيهم مساحة أوسع من التسامح والتفاهم ويظهروا للعالم رفعة الأخلاق الإسلامية، ويضعوا في اعتبارهم بأنهم قدوة لكثير من الناس.
