محمد بن علي الكمزاري
يستعرض لنا الباحث المصري سامح فوزي، قراءة في أزمة الدولة والمجتمع العربي.. حيث كانت التكوينات الأولية لها الغلبة والتأثير والهيمنة في صورة الجماعات الدينية، والطوائف، والقبائل، وبانحسار الاستعمار الغربي (1940-1960) بدأت تتفكك عُرى النظام التقليدي، ونشأت منظمات المجتمع المدني في صورة: "جمعيات أهلية" و"أحزاب سياسية" و"تنظيمات نقابية"...إلخ، وتوج ذلك عقب انتهاء الاستعمار بنشوء ما يعرف بالدولة القومية الوطنية التي تستند فيها العلاقة بين المواطنين لأساس "المواطنة"، وتراجعت هيمنة المجتمع التقليدي بما يحمل من تكوينات أولية، ولكن إلى حين. وجعلت تلك الدول الوطنية الحديثة المساواة أمام القانون أحد أسس دساتيرها، بصرف النظر عن الجنس والدين والأصول السابقة؛ ولكن لأسباب متعددة، تفجرت توترات وصراعات داخلية عديدة في دول عديدة تحول بعضها إلى صراع مسلح وممتد، منذ الاستقلال إلى الآن؛ كما في العراق والسودان والصومال.
وقد قدم وول كوك نموذجا لقياس رأس المال الاجتماعي، من خلال رصد طبيعة التفاعل بين هذه المكونات الثلاثة، ويقوم نموذجه على مصفوفة للتفاعل بين نمطين من رأس المال الاجتماعي؛ هما: رأس المال الاجتماعي "الجامع"، ورأس المال الاجتماعي "العابر"، وهي أطروحة سبق وقدمها عالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبرت بوتنام.
رأس المال الاجتماعي الجامع هو حالة من اللحمة والتماسك والاندماج في مواجهة الأغيار؛ أي الآخرين المختلفين، يقصد بهذا النمط من رأس المال الاجتماعي المنظمات الاجتماعية التي تقوم عضويتها على أشخاص ينتمون إلى نفس اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، وتستخم بوصفها شبكة أمان اجتماعي، أو تلك التي تشمل أفرادًا تجمعهم الخلفية الدراسية، والعمل وفق التخصص، كما هي الحال في الجمعيات العلمية. والروابط الاجتماعية الجامعة كما يتضح -من وصفها شديدة الاندماج- تقوم على هويات استبعادية وتخلق التزامات متبادلة بين الأفراد الأعضاء، ليس مقبولا الخروج عليها، ويرى بعض الدارسين أن هذا النمط من العضوية لا يقوم إلا في مؤسسات تُشعر أعضاءها جميعا بالتضامن والمساواة في آن واحد، مما يترتب عليه تلقائيا شعور الأعضاء بالالتزام، ومن الأمثلة على ذلك: التكوينات العرقية، والقبلية، والجمعيات الدينية، والجمعيات النسوية، والمؤسسات العرقية، والأندية، والجمعيات العلمية التي تضم في عضويتها النخب المالية والثقافية والعلمية في المجتمعات.
وفي بعض الحالات، تؤدي كثافة رأس المال الجامع إلى تعطيل عمليات التلاقي، والحوار المجتمعي، وهو ما لاحظه أحد الباحثين عندما رصد محاولات بعض المؤسسات الدينية التي تضم أعضاء أنجلو-ساكسون إلى إغلاق الباب أمام انضمام أعضاء جدد لها ينتمون إلى جذور إفريقية، بالرغم من أنهم ينتمون إلى المجتمع الديني نفسه. أما رأس المال الاجتماعي "العابر"، فتُعد كلمة "العابر" فيه ترجمة مباشرة لحالة من التلاقي، والتفاعل، والتمازج بين أفراد، وجماعات تنتمي إلى ثقافات، وأعراق وأديان، وألوان، ومذاهب متنوعة، وكما يتضح من التوصيف، فإن الجمعيات التي تجسد هذا النمط من رأس المال الاجتماعي تتسم بعضوية "مفتوحة"، واحترام تعدد المشارب الثقافية، والخلفيات الاجتماعية، والمستويات الاقتصادية لأعضائها، ومن الأمثلة على ذلك الجمعيات التي تطالب بالحقوق المدنية، أو الهيئات المعنية بالحوار بين الثقافات، أو الجمعيات التي تقوم على خدمة الشباب، أو منظمات حقوق الإنسان، وما شابه ذلك. وإذا كان النمط الأول من رأس المال الاجتماعي - الجامع يوفر للمجتمعات الانسجام، والتجانس، فإن النمط الثاني -أي رأس المال الاجتماعي العابر- يوفر لها "التنوع الاجتماعي"، و"التعددية الثقافية"، و"الاندماج" على أساس الاحترام المتبادل. بعبارة أخرى، فإن النمط الأول يوفر روابط متماسكة توفر لأعضائها الحماية والشعور بالهوية المشتركة، أما النمط الثاني فهو ينطوى على روابط أقل تماسكا؛ لكنها توفر لأعضائها إمكانية تبادل المعلومات، والفرص الاجتماعية.
وفي رأي روبرت بوتنام -وهو أحد الذين اهتموا بدراسة كلا النوعين من رأس المال الاجتماعي- أن المجتمعات الحديثة بحاجة إلى كليهما. وانطلاقا من الجمع بين نمطي رأس المال الاجتماعي، حاول وول كوك تطوير إطارٍ تحليلي لتحديد أشكال الارتباط والتداخل بين كلا النوعين، وطبيعة دورهما في المجتمعات الحديثة. وفي هذا الصدد، يرى كوك أنه في حالة ارتفاع معدلات رأس المال الاجتماعي "الجامع"، وارتفاع معدل رأس المال الاجتماعي "العابر" أي التصور الأمثل يتوفر للمجتمعات أمران؛ الأول: التماسك، والثاني: الفرص الاجتماعية؛ نتيجة تدفق المعلومات، وكثافتها، وحدوث انفتاح بين مختلف الجماعات، وهو ما تحتاج إليه المجتمعات الصناعية الحديثة نتيجة سرعة إيقاع الحياة، وغلبة النزعة المادية؛ مما يجعلها دائما في حاجة إلى مصدر دائم يحقق لها التماسك والانسجام. وفي حالة ارتفاع معدل رأس المال الاجتماعي العابر، وانخفاض رأس المال الاجتماعي الجامع تشهد المجتمعات حالة من الانفتاح، وحرية تبادل المعلومات، والتفاعل بين مختلف الجماعات، إلا أنها في الوقت نفسه تعاني من ضعف التماسك الاجتماعي، وانتشار ما يمكن تسميته "القوارض الاجتماعية" التي تتغذى على تهتك النسيج الاجتماعي، وتعلو المصالح الذاتية الضيقة على حساب المصالح العامة الأرحب، ويشعر الفرد بالوحدة نتيجة غياب تأثير الجماعات والمنظمات الأولية التي تشكل شبكة أمان اجتماعي يلجأ إليها لحظة الاحتياج. يمثل ذلك حال معظم مجتمعات أوروبا الشرقية إبان موجة التحولات الجذرية التي تمر بها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي منذ تسعينيات القرن العشرين، وما تلاها، وهو ما ينطبق بصورة أو بأخرى على حال مجتمعات نامية عديدة لا تزال تعيش لحظات التحول اقتصاديا؛ أي صوب اقتصاديات السوق أو سياسيا في اتجاه الديمقراطية.. وفي حالة انخفاض كل من رأس المال الاجتماعي "الجامع"، ورأس المال الاجتماعي "العابر"، تسود حالة من الأنانية المفرطة، ويصبح الوضع أقرب إلى التحلل الاجتماعي، وتتفشى الجريمة، وتنتشر صور متباينة من العنف، وهي الحالة التي اختبرتها بعض المجتمعات الإفريقية نتيجة التمزق الاجتماعي الذي رافق تطبيق سياسات التكيف الهيكلي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، التي جرى تطبيقها بشكل نمطي دون إدراك لطبيعة الاختلاف الثقافي بين المجتمعات؛ حيث تختلف تجربة مجتمع عن آخر نتيجة تباين الثقافة السائدة.
وأخيرا.. فإنه وفي حالة ارتفاع رأس المال الاجتماعي "الجامع" وانخفاض رأس المال الاجتماعي "العابر"، تظهر المجتمعات المنغلقة على أعضائها، وتقل عدد الفرص الاجتماعية المتاحة أمام الأفراد، ويطور الأفراد المنتمون إلى جماعة بعينها مشاعر تضامن في علاقاتهم بعضهم بعض؛ لكنه قد يكون تضامنا سلبيا يحمل مشاعر عدائية في مواجهة الأغيار، أو الآخرين المختلفين.
صحوة العصبية في العالم العربي:
خلص روبرت كوك في تحليله المهم إلى أنه عندما يرتفع رأس المال لاجتماعي "الجامع" على حساب رأس المال الاجتماعي "العابر"، فإنه يسود المجتمعات حالة من التقوقع على الذات، والصدام بين الجماعات المختلفة، وحالة من حالات الترصد المتبادل.
