مريم العدوية
كتبت سابينا شميكته الأستاذة بمعهد الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة مقالاً بعنوان: تلقي المسلمين للمواد (المعرفية) التوراتية: ابن قتيبة وكتابه (أعلام النبوة). يحتوي المقال تحقيقا نقديا للمقاطع الثمانية الأولى الشاملة على المواد المعرفية التوراتية، من المخطوطة الوحيدة لابن قتيبة الموجودة بدار الكتب الظاهرية بدمشق.
وقد استهلت الكاتبة المقال بتوضيح المصدرين الأولين المحتويين على قائمة تبرهن على ذكر نبوءة محمد (صلى الله عليه وسلم) في التوراة العبري والعهد الجديد هما: مصنف الدين والدولة لصاحبه علي بن ربن الطبري ومصنف أعلام النبوة لابن قتيبة وهو المصنف الذي ناله نصيب أوفر من الشهرة واستعمال المصنفين؛ وذلك بوصفه نصًا مرجعياً في قضايا المعارف التوراتية التي تضمنها.
ولقد سلط المقال الضوء على مواضيع عدة تخص لائحة النبوءات التي تضمنتها التوراة ومنها:
*التلقي الإسلامي للتوراة
*ابن قتيبة
*ابن ربن الطبري
*أعلام النبوة
*التوراة المنقولة للعربية
*ابن الجوزي
بداية لا يمكن إغفال كون ميراث التوراة العبري يعتبر لبنة أساسية في تكوين التقليد الإسلامي أكثر من العهد الجديد؛ وذلك لأنَّ القرآن جاء خاتمة لسلسة من الرسالات السماوية.
ومنه يمكن استنباط أن الفهم الإسلامي للتوراة جاء على شاكلتين، الأولى آمن أصحابها بأن القران يُقر بالكتب السماوية كالتوراة، وبأنها جاءت تحمل الرسالة نفسها، مشيرين إلى ذكر العديد من الآيات القرآنية للكتب السماوية كالتوراة من ناحية، وإلى ذكر التوراة نبوءة محمد (صلى الله عليه وسلم) من ناحية أخرى.
أما الجماعة الثانية فقد اهتمت بكون القرآن قد أكد أنه جاء لأن الكتب السماوية السابقة قد حرفت، ومن هنا يصبح تأكيد نبوءة محمد (صلى الله عليه وسلم) في التوراة أمرا غير ذي جدوى؛ بما أن الكتب قد مسها التحريف، وأصبح يختلط على المرء ما هو وحي الله وما هو مكتوب بيد البشر.
ولا ريب أن الكثير من الأدبيات الإسلامية أياً كان شكلها قد عمد إلى المعارف التوراتية؛ لتأكيد وجود بشرى بنبوة النبي محمد في التوراة، وبأن بعضها كان من
" الإسرائيليات".
وعليه فإنّ المصنفين الأولين الذين وصلا إلينا حول بشارات محمد التوراتية كانا: كتابيّ الدين والدولة لابن ربن الطبري وأعلام أو دلائل - الذي حمل أسماء أخرى كالرسول أو النبي ورسول الله- وذلك تبعاً لتغير سنة إعادة النشر لابن قتيبة، وعلى الرغم من أن الكتاب الثاني جاء مضمونه من الكتاب الأول؛ إلا أنه حقق شهرة واستعمالا أوسع، ولا ريب أننا بحاجة إلى التنقيب والكشف عن تلك المظان بصورة أكبر.
وربما تعود أسباب عدم ذيوع الرجوع إلى كتاب الدين والدولة بين الكُتّاب في ذلك الزمان؛ إلى كونه كان موجهاً في ذلك العصر للنصارى بالدرجة الأولى، وإن كان قد عاد إليه بعض الكُتّاب في مناقشاتهم حول بشارات النبوة كأبو الحسين البصري؛ فقد يكون ذلك نتيجة احتكاكه بأوساط النصارى ومعرفته عن الكتاب من ذلك الوسط بالذات.
وبالعودة إلى شهرة كتاب ابن قتيبة على نطاق أوسع من كتاب ابن ربن الطبري، فلا يمكن تجاوز أن عدداً كبيراً من الكُتّاب استمدوا محتوى كتبهم من كتاب ابن قتيبة؛ وذلك بحكم المادة التوراتية التي يحتويها الكتاب، وقد بلغ تأثير كتاب ابن قتيبة أراضي الأندلس، ويتجلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر في كتاب (الأصول والفروع) لابن حزم. كما كان لأقاليم الإسلام الشرقية نصيب كذلك من كتاب ابن قتيبة؛ حيث كان المصنف متداولا بين أهل الحديث كما رود في كتاب ابن الجوزي (الوفا بأحوال المصطفى). ومن ثم جاء آخرون أخذوا عن ابن الجوزي ما أخذ عن ابن قتيبة.
كما أن بعض المصنفين من متأخرة الحنابلة كان لا يزال مصنف (أعلام النبوءة) لابن قتيبة يروج بينهم، ومن ذلك نجد أن الإمام أبا القاسم التيمي الأصفهاني الملقب بالإمام قوام السنة يستشهد به في مصنفه (دلائل النبوءة)، وفي ذلك سار كذلك ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح).
وحقيقة كما يبدو فإن مخطوطة ابن قتيبة المحفوظة بدار الكتب الظاهرية - والتي تُعرف اليوم بالمكتبة الوطنية السورية أو بمكتبة الأسد الوطنية بدمشق- ، لم يكن لها نصيب من اهتمام الباحثين حتى اليوم.
وتوضح المخطوطة لنا أن النص كان دارجا بين أهل الحديث، وعلاوة على ذلك فإن المقارنة بين ما أورده ابن الجوزي من كتاب (الأعلام) وبين ما ورد في كتابه (الوفا)، إنما هو المقاطع الثمانية الأولى من تغيير طفيف جدا لا يذكر، ويمتد ذلك من بداية العنوان إلى المحتوى.
والجدير بالذكر هنا أن المخطوطة أصابها التلف في بعض أجزائها مما يجعل النصوص ناقصة، ولكن بالعودة إلى وصف ابن قتيبة لبنية كتاب (الأعلام) يتبين لحسن الطالع أن ما سقط هو قليل في مقابل ما هو باقٍ على صفحات المصنف.
كما أوردت الكاتبة شميكته في النصف الثاني من المقال نشرة محققة للفصول الثمانية الأولى من نص المخطوطة والتي تتضمن المواد التوراتية (128 أ. 133 ب)، ولقد عمدت الكاتبة إلى تنويه القارئ حول مرجع النصوص في تحقيقها؛ حيثُ وضعت لكل نص مصدره مختلف علامة مميزة، كما عادت في تحقيقها هذا إلى ثماني مخطوطات أوردت ذكرهم في المقال، ومما هو جدير بالذكر أن شميكته تُعد حالياً بالتعاون مع حسن أنصاري نشرة محققة لجل العمل المحفوظ في المخطوطة، هذا وتناولت شميكته في التحقيق التمحيص في ذكر أعلام رسول الله في التوراة من خلال ثلاثة كتب وهي (هداية الحيارى) لابن قيم الجوزية، و(الوفا) لابن الجوزي و(المواهب) للقسطلاني.
وقد أوردت الكاتبة نصوصا مما ورد في المراجع أعلاه تربو على سبعة وثلاثين دليلا على وجود أعلام لنبي الله محمد في التوراة. على سبيل المثال لا الحصر: مشفح، كما ذكرت وجود إشارات حول بعض الأحداث المتعلقة برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) مثل: ذكر طريق مكة في شعيا وذكر أصحاب النبي وذكر يوم بدر في شعيا كذلك. كما ختمت التحقيق بالإشارات القرآنية في ذلك كقول الله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: "وإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" سورة الصف، 61(6() ، ولقد أسلم بعض علماء بني إسرائيل؛ مؤمنين بما جاء في كتبهم حول نبوءات محمد (صلى الله عليه وسلم) ومنهم: عبدالله بن سلام وتميم الداري. ولكن من جانب آخر ورغم كل تلك الدلائل فإنَّ الكثيرين كذبوا وما زالوا يكذبون بنبوءة محمد (صلى الله عليه وسلم) رغم الحجج القوية التي لا يمكن إبطالها بالأقاويل الملفقة.
إن دراسة المخطوطات الإسلامية لأمر بالغ الأهمية، ليس للحضارة الإسلامية وحسب بل وللعالم أجمع؛ وذلك للثراء المعرفي الذي تحتويه، ومن هنا ندعو الجهات المختصة إلى أن تشمر السواعد، لإحياء هذا الجانب المعرفي المهم من الحضارة الإسلامية.
