تأليف: ماتّيو دي جيوفاني
عرض: عزالدين عناية | أكاديمي تونسي يقيم في إيطاليا
تَفُوق العنايةُ بدراسة الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية في الغرب دراسةَ الفلسفة العربية الحديثة بأشواط. فلا زال كبار الفلاسفة والمتكلّمين والمتصوّفة المسلمين مثارَتفحّص وعرْض ومراجَعة في ما تناولوه من قضايا، الأمر الذي بوّأهم منزلة عليّة ضمن أساطين الفكر العالمي.ابن رشد هو أحد هؤلاء الكبار، لِما حازه فيلسوف قرطبة في تاريخ الفلسفة المدرسيّة من مكانة مقدَّرة، بوصفه الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو. فالأثر الكبير لابن رشد في مسار الفكرين الغربي والإسلامي، هو ما دعا المؤلّف الإيطالي ماتيو دي جيوفاني،الأستاذ في جامعة لودفيغ ماكسيميليانس الألمانية بموناكو،والمتخصّص في الفلسفة الإسلامية وفي الفلسفة الرشدية تحديدا، ليُخصِّص مؤلّفًا لفيلسوف قرطبة. اِنشغل فيهبالفلسفة الرشدية وبأعمال الرجل وعصره، وهو ما يُفصح عن إلمام عميق بالمقولات الفلسفية الإسلامية. هذا وقد صدر الكتاب ضمن سلسلة "مفكرون"لدار نشر "كاروتشي" الإيطالية، التي تنشر أعمالا حول مفكرين وفلاسفة قدماء ومحدثين.
والمؤلِّف بقدر ما حاول عرضَ رؤى ابن رشد وأعماله وإنجازاته وشروحاته، وسعى للخروج به من دور الشارح لفلسفة أرسطو، كما ساد النظر إليه، تساءل بالمثل عن مدى راهنية هذا الفيلسوف،وهل بالإمكان استعادتهمن خلال الزخم الذي ميّز حياتهبالانغماس في القضايا الفكرية والسياسية والدينية لعصره؟ففي تفحّص دواعي حصر النظرة الغربية فيلسوف قرطبة في دور الشارح لفلسفة أرسطو، رغم المكانة الرفيعة له، يتساءل ماتيو دي جيوفاني في ثنايا كتابه علّ الأمر عائد إلى أسباب دينية؟ إذ غالبا ما جرى اختزال ابن رشد ضمن تاريخ الفلسفة الغربية في دور الشارح، ولكن الإحاطة الشاملة -كما يقول المؤلف- بآثار الفيلسوف تبين خلاف ذلك. فهناك حضور بارز لابن رشد في جدل العقل والنقل، وهو ما ورد ملخَّصا في كتابه: "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال".
قسّم الكاتب ماتيو دي جيوفاني مؤلَّفَه إلى أربعة أقسام رئيسة، جاءت معنونةً على النحو الآتي: "الإنسان والعمل"، "مبحث في الألوهية"، "مبحث في الروح"، "مبحث العالم". في القسم الأول "الإنسان والعمل" يستعيد حضور ابن رشد في مسار الدرس الفلسفي الغربي المصنَّف ضمن الفلاسفة المدرسيّين. ولذلك يحاول المؤلَّف، من خلال هذا القسم، إدراج ابن رشد ضمن قضايا عصره الفكرية والسياسية، غير أنّ انتماءه العميق إلى مشاغل العصر لا يعني انحصاره داخل محدّدات تاريخية، بل ذلك ما خوَّلَ له التجذّر والتجاوز في الآن نفسه. وصحيح أن ابن رشد قد اِرتبط بالمقولات الدينية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا، ولكنّه عمل في الآن نفسه على إلحاق تلك المقولات بقضايا كونية، من حيث عمومية النظر العقلي وشموله، فالنظر العقلي أو الحكمة، من منظور ابن رشد، هي دائمة الحضور من خلال التأمّل والتساؤل عن الوظيفة الاجتماعية والسياسية للفلسفة.
في القسم الثاني المعنون بـ"مبحث في الألوهية"، يحاوِل ماتّيو دي جيوفاني أن يضعَ الرؤيةَ الرشدية للألوهية ضمن إطار المشروع السياسيّ والفكريّ للدولة الموحِّدية وزعيمها المهدي بن تومرت. يتطرّق إلى الصلة الوثيقة التي ربطت ابن رشد بالموحِّدين، معتمِدًا في ذلك على دراسات الباحث دومينيك أورفوي في الشأن. إذ بقدر ما كان ابن تومرت قائدا سياسيًّا كان بالمثل داعية دينيًّا، تبنّى رؤية صارِمة في التوحيد حتى لُقّب أتباعه بالموحِّدِين. وقد كانت لابن رشد صلات مباشِرة بالبلاط الموحِّدي في مراكش عشيّة تمدّد نفوذه إلى الأندلس، وهو ما أسّسَ رابطة وثيقة بين ابن رشد والدولة الموحِّدية. يُلِحّ المؤلّف على إبراز الصلة الرّابطة بين ابن رشد وابن تومرت، إلى حدِّ يجعل منه صوتًا مبشِّرًابالمهدوية التومرتية في كافة بلاد المغرب، والواقع أنّ الأمريقتضي إعادة موْضَعةِ ابن رشد ضمن رهانات التعويل على إصلاح علاقة النقل بالعقل، وهو المشروع الجوهري الذي شغله سواء في نصوصه الفلسفيّة أو الفقهيّة.
ونظرًا للصِّلة العَقَديّة المتينة بين ابن رشد وابن تومرت، حاول ماتّيو دي جيوفاني التمعنَّ في الرؤى العَقَديّة، والخيارات الفقهية المشتركة بين الرجُلين. فالصياغة العَقَديّة لابن تومرت وجدت ترجمة فلسفية في مقولات ابن رشد على ما يذهب إليه دي جيوفاني. في هذا القسم حاول المؤلّف حشر ابن رشد في صُلْب الجدل القائم في علم الأصول، في مسعى لإلحاق مقولات الثنائي -ابن رشد وابن تومرت- حول الألوهية بتيّار الاعتزال. ولم يغفل المؤلَّف عن إيراد انتقادات ابن رشد للرؤى العَقَدية التقليدية السائدة في عصره.
في القسم الثالث المعنوَن بـ"مبحث النفس" حاول المؤلّف ربْطَ المقول الرشدي بمقولات فلاسفة الإغريق، مستعرِضًا الفَرق في الرؤية الإسلامية بين الروح والنفس. وفي هذا القسم حاولَ الكاتِب تفحُّصَ مدى تأثّر ابن رشد بالفارابي وابن سينا في المسألة، خصوصا بشأن المقولات المترتِّبة عن ذلك في ما له صلة بالعقل الهيولاني والعقل بالقوة والعقل الفعّال. لكن ما يُحاوِل ماتّيو دي جيوفاني تأكيده وهو التأثّر البيّن لابن رشد بالفيلسوف ابن باجة خصوصًا في المنزع الطبيعيّ لديه المستوحى من أرسطو.
في القسم الرّابع والأخير المعنوَن بـ"مبحث العالم" نجدُ ابن رشد يتعاطى مع المسائل الكونية في مرحلة عمرية متأخّرة، مقارنة بالمسائل الفلسفية والدينية التي تطرق إليها في مرحلة مبكّرة. وعلى العموم يأتي تناول مواضيع الميتافيزيقيا والكونيات متأخرا نسبيا. والملاحَظ أنّ المَحاوِرَ الثلاثة (الله والنفس والعالم) التي خصّصها المؤلف لتناول فلسفة ابن رشد، جاءت معمَّقة، أبرزَ من خلالها إلمامه بالمدوَّنة الرشديّة، وما دُوّن عنه من قِبل اللاحِقين، سواء في الأوساط الغربيّة أو العربيّة. وفي هذا القسم ثمّة إبرازٌ لمسعى ابن رشد الحثيث لجعل الميتافيزيقيا بمثابة العلم الخاص بالألوهية، كما يستعرِض المؤلف موقفيْ الكندي والفارابي من المسألة، فإن تكن الميتافيزيقيا لدى الأول متماهيةً مع علم الكلام، فهي مع الثاني أنطولوجيا عامة. ليحاول دي جيوفاني تحديد مفهوم الميتافيزيقيا ودورها من منظور ابن رشد وتمييز طروحاته عن سائر الطروحات السابقة لا سيما مقولات ابن سينا في المسألة.
في كتابه يحاول ماتيو دي جيوفاني أن يُبرزَما أضافه ابن رشد للإنسان اليوم، بعد أكثر من ثمانية قرون على رحيله، بشأن مسائل وجودية أساسية (الله والنفس والعالم). خصوصا وأنّ مكانة ابن رشد رفيعة في تاريخ الفلسفة الغربية المدرسية، لاسيما في ما تعلّق منها بأرسطو، وهوما خوّل لدانتي أليغييري أن يضعه في عداد النفوس العظيمة كما ورد في الأنشودة الرابعة (143). لكن اشتغال ماتيو دي جيوفاني في نصّه على محاور ثلاثة: النفس والألوهية والعالم، نراه لا يتّسع لِيشمل المسائل المتشعّبة التي شغلت ابن رشد، ولا سيما علاقة الدين بالعقل، ومسائل تجديد أصول الفقه، وهي قضايا لطالما شغلت المفكّرين في عصره.
صحيح ثمة إعادة تحليل وتركيب للمقولات الرشديّة ضمن العناصر الثلاثة المشار إليها، وهي تُخبِر عن سعة اطّلاع وإلمام لدى المؤلف الشاب بالمقولات الرشدية، ولكن لا نلمس إضافة نوعية سوى ذلك المسعى للحثّ على دفع الدارس لابن الرشد وفلسفته لإدراج الرجل ضمن إطار أشمل من وضع الشارح لأرسطو. كنا نتمنّى التطرّق إلى المقولات الدينية وتفهّمها من منظور عقلي، وإلى إسهامات ابن رشد في الخروج من التضارب التقليديّ بين الحكمة والشريعة، إلى علاقة وِفاقية تكاملية على غرار ما سعى له في "فصل المقال"، غير أنّ ذلك ورد مقتضبا.
لا شكّ أن الدراسات حول ابن رشد متنوّعة وبلغات شتى، فالرجل من أكثر شخصيات الفلسفة الإسلامية حظوة سواء في التناول الغربي أو العربي. ومن الأعمال العربية التي صدرت عن ابن رشد في السنوات الأخيرة نذكر "النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد" لعاطف العراقي (دار المعارف، 1984)؛ "المتن الرشدي" لجمال الدين العلوي (توبقال، 1986)؛ "ابن رشد الحفيد.. سيرة وثائقية" لمحمد بن شريفة (1999)؛ "ابن رشد.. سيرة وفكر" لمحمد عابد الجابري (مركز دراسات الوحدة العربية، 2009). أما في إيطاليا على سبيل المثال، فقد صدر خلال السنوات الأخيرة مؤلف لكريستينا داكونا بشأن "ابن رشد وتاريخ الفلسفة الإسلامية الوسيطة" (منشورات إيناودي، 2005)، كما صدر مؤلف بعنوان "ابن رشد" لماسيمو كمبانيني (منشورات إيلمولينو، 2007).
ما يُستشَف من هذا العمل أن ماتيو دي جيوفاني يقف على أرضية راسخة في التكوين العلمي، خصوصا اطّلاعه المباشر على النصوص العربية المؤلَّفة في الغرض، وهي ميزة باتت نادرة في الاستشراق الراهن. كما أنّ ثمة توظيفًا محكَمًا للمصطلح الرشدي الوارد في مؤلّفاته العربية ينمّ عن قدرة ودِراية بالعربية. سيما وأنّ الكاتب كما تيسّرَ من متابعة شذرات من سيرته الذاتية، أنه درّس العربية لغير الناطقين بها في الولايات المتحدة، لكن ليس معروفا في إيطاليا من بين أساتذة العربية أو الباحثين فيها.ولعلّ الشيء المهمّ الذي يورده مؤلّف الكتاب في عمله متمثِّل في وجهات النظر المتعارِضة تارة والمتوافِقة أخرى، لدى مؤلّفين غربيّين وعرب بشأن بعض المسائل لدى ابن رشد. فالكتاب يضعنا على خطّ التواصل والإلمام بتطور البحث الفلسفي بشأن شخصية ابن رشد وفلسفته في المجالين الغربي والعربي.كُنّا نتمنّى أن يُفرِد المؤلف للمسائل الفقهية والمسائل السياسية ولعلاقة الحكمة بالشريعة مجالا أوسع في الكتاب، غير أنّ ذلك أتى خاطفا وعابرا. لكن لا بدّ أن نشير إلى أنّ الكتاب، بشأن العناصر التي سلّط فيها الضوء، قد تميّز بمنهجية علمية في الصياغة والتناول، وكشفعن دراية معمَّقة لدى صاحبه بالقضايا الرشدية.
من جانب آخر لا نعثر في الكتاب على انتقادات أو مراجَعات لمن كتبوا عن ابن رشد، أكانوا غربيين أم عربا، وإنما نجد حديثا منحصرا في العناصر الثلاثة التي حددها في مستهلّ كتابه. لكن ما يبدو من خلال مؤلف "ابن رشد" أن الباحث متخلّص من نعرة المركزية الغربية، بل لعلّ نصه محاولة جادة لتنزيلِ ابن رشد في إطار الحاضنة الثقافية العربية عامة دون حصره في مهمة الشرح لفلسفة أرسطو. من هذا الجانب يمكن النظر إلى مؤلف ماتيو دي جيوفاني أنه يستفيد من الرؤية الشمولية لابن رشد.
ما نلاحظه في الكتاب أيضا أنّه محاولة لتجاوز حصر ابن رشد في دور الشارح لأرسطو إلى دور الفيلسوف متعدّد الأوجه، ليُمثّل شرح فلسفة أرسطو جانبا من تلك الجوانب. نشير كذلك إلى أنّ الكتاب قد تضمّن جملة من الفهارس العلمية، توزّعت بين فهرسة نقدية خاصة بالمصادر، وكرونولوجيا لحياة ابن رشد وأعماله، وفهرس للأعلام. وهي تقريبا الفهارس المطلوبة في هذه الصنف من المؤلفات الفكرية. والملاحظ أن فهرس المراجعقد جاءت فيه نسبة معتبرة من المؤلفات العربية التي استعان بها في تأليف الكتاب، بلغت 40 مرجعا عربيا من جملة 276، توزعت بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية.جدير أن نثمّن الجانب المتفرد لدى الباحث في الاطلاع على الكتابات العربية، فغالبا ما يكون المستوى المتقدّم للإلمام بالعربية لدى الأكاديميين الغربيين في أوساط المعنيّين بالأدب، ويتراجع بين غيرهم من دارسي الفلسفة أو التاريخ أو الآثار وما شابه ذلك.
الكتاب مفيد وعميق من حيث معالجة القضايا المتعلقة بفلسفة ابن رشد، علاوة على أنه موثَّقٌ توثيقا جيدا. ونقدّر أنه سيبقى من المراجع المعتمَدة في إيطاليا حول ابن رشد. فقد صدرت قَبله مؤلفات أخرى عن ابن رشد، ولا نقدّر أنها ارتقت إلى المستوى الذي تناول به دي جيوفاني شخص ابن رشد، أو إلى عمق اللغة الفلسفية التي دوّن به المؤلف كتابه.لغة الكتاب لغة فلسفية راقية والمؤلف على دراية جيدة بالمقولات الفلسفية في اللغتين، الإيطالية والعربية. فقد ساهم إلمامه بالعربية واطلاعه على المؤلفات العربية إسهاما بيّنا في توضيح الأفكار الواردة في الكتاب والموجهة للقارئ الإيطالي.
نتساءل إلى أي مدى استطاع ماتيو دي جيوفاني جعل ابن رشد مفكرا معاصرا، وهو ما أشار إليه في مطلع كتابه؟ لا نقدّر أن المؤلف وفّق كل التوفيق في ذلك، إذ نلاحظ تخطي العديد من المسائل الجوهرية، مثل الجدل القائم اليوم بين علاقة النقل بالعقل، أو بلغتنا الراهنة بين الخطاب الديني والخطاب العقلاني، وهو ما وددنا الاستفاضة فيه ضمن محاور الكتاب.
----------------------------------
الكتاب: ابن رشد.
تأليف: ماتّيو دي جيوفاني.
الناشر: منشورات كاروتشي (روما-باري) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 284 ص.
