الإله المعبود بحق في القرآن

Picture1.png

تأليف: جاك مايلز

عرض: عبد الرحمن السليمان

أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا.

موضوع هذا الكتاب الرئيس هو استجلاء صورة الإله المعبود بحق في الإسلام من خلال استعراض القَصص القرآني وما يوازيه من قَصص في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. يوظف الكاتب في تقديمه صورة المعبود بحق في الإسلام منهج الأدب المقارن. ويحسب للكاتب تصريحه في صدر الكتاب بأنه يعالج هذا الموضوع الشائك بدون أحكام مسبقة والتزامه بهذا التصريح في كتابه من أوله إلى آخره. وهذا أمر في غاية الأهمية، لأسباب كثيرة نستحضر منها هنا سببين اثنين. السبب الأول: تجاوز عدد المسلمين في الغرب الأربعين مليون مسلم، بحيث أصبحوا يشكلون جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي الغربي، وهذا يفرض عليهم وعلى الغربيين – نصارى معتقدين أكانوا أو ملحدين – مقاربة مقارنة بين الإسلام والديانات والمعتقدات السائدة في الغرب وأهمها النصرانية واليهودية والتيارات العقدية والفلسفية. السبب الثاني: تفضيل معظم المسلمين استعمال لفظ الجلالة (الله/ Allah) في نصوصهم الدينية بدلاً من اللفظة الدالة على المعبود بحق في التقاليد اليهودية النصرانية، أي (God) في الإنكليزية أو (Dieu) في الفرنسية. أدى هذا التطور إلى نشوء حساسية لدى كثير من المسلمين من استعمال (God) في الإنكليزية أو (Dieu) في الفرنسية للتدليل على الإله المعبود بحق في الإسلام، لذلك يفضلوننقحرة لفظ الجلالة العربي إلى (Allah). وصار بعض الأصوليين النصارى يوظفونلفظ الجلالة (Allah) عند حديثهم عن المسلمين بطريقة توحي بأنه إله وثني لا يمت إلى الديانات الإبراهيمية بصلة. من ثمة أهمية هذا الكتاب الذي ألفه كاتب محسوب على التيار المسيحي البروتستانتي المحافظ.

يتألف الكتاب من مقدمة مطولة وثمانية فصول وخاتمة مطولة ثم ملحق يعرض الكاتب فيه لصورة الشيطان في القرآن الكريم والكتاب المقدس. يحاول الكاتب أن يستجلي في كتابه صورة الإله في ثماني قصص قرآنية لها ما يوازيها في الكتاب المقدس هي: (1) قصة آدم وحواء؛ (2) قصة آدم وابنيه قابيل وهابيل؛ (3) قصة نوح؛ (4) قصة إبراهيم وأبيه آزر؛ (5) قصة إبراهيم وابنيه إسماعيل وإسحاق؛ (6) قصة يوسف وإخوته؛ (7) قصة موسى؛ وأخيرًا (8) قصة عيسى وأمه مريم العذراء.ويبذل الكاتب جهدًا كبيرًا لاستجلاء صورة الإله المعبود بحق في الإسلام واليهودية والنصرانية من خلال مقارنة أدبية نقدية دقيقة بين القصص القرآني والقصص التوراتي والإنجيلي مع الإشارة إلى أن هذا الأخير مقتصر على قصة عيسى وأمه مريم العذراء فقط لأن القصص السبع الأولى وردت في العهد القديم.

يستهل الكاتب كتابه بالقول إنه ألف كتابًا عن صورة الإله المعبود بحق في اليهودية وكتابًا عن صورة الإله المعبود بحق في النصرانية. وها هو الآن يصدر كتابه الثالث عن صورة الإله المعبود بحق في الإسلام. ويصرح أيضًا بأنه "مسيحي بروتستانتي معتقد" ومع ذلك فإنه "لا يقارب صورة الإله المعبود بحق في الديانات السماوية الثلاث مقاربة عقدية بل مقاربة أدبية نقدية" من خلال تحليل النصوص ومقارنتها مع بعضها. ويضيف بأنه لا يعالج النصوص الدينية "من خلال إيمان المؤمن بل من خلال تعليق الإنكار المؤقت". يريد بـ "تعليق الإنكار المؤقت" وضع الاعتقاد أو الحكم المسبق على شيء ما جانبًا كي يستطيع الإنسان فهم ذلك الشيء بطريقة مجردة. بكلام آخر: يضع الكاتب إيمانه جانبًا ليتمكن من الولوج إلى النص عبر منظور النص ذاته وليس عبر مرجعية دينية أو فكرية أخرى قد تحدد مسبقًا نظرته إلى النص. ويحد الكاتب مقاربته النقدية هذه بالقول إن "النقد الأدبي الذي ينطلق من القيمة الجمالية للنص بصفته أدبًا، شيء مختلف عن المقاربة التاريخية للنص الأدبي أو النقد التاريخي للنص". إذ تنطلق المقاربتان الأخيرتان من طائفة من الأسئلة حول النص وتاريخ تدوينه والأشخاص المدونين له وهل كانوا رجالاً أو نساءً وفيما إذا كان النص المدروس أصليًا أو منحولاً كله أو بعضه إلى آخر الأسئلة التي تفرضها مقاربة تاريخ الأدب أو مقاربة النقد التاريخي للنص. أما الكاتب فينطلق في كتابه من النص الأدبي "بصفته عملاً جماليًا فنيًا بمعزل عن الزمان والمكان وتاريخ نشوئه" وبيئة نشوئه. ويدعو الكاتب اليهود والنصارى "وكل من ينكر حقيقة المسلمين القائلة إن القرآن يحتوي على كلمة الله الأخيرة إلى البشرية وأنه تاج الوحي الإلهي" الذي يصحح ما اعترى أسفار اليهود والنصارى من نقص "إلى تعليق إنكارهم لحقيقة المسلمين هذهوالنظر إلى الإله المعبود بحق بأنه الشخص الرئيس في القرآن وإلى القرآن بأنه عمل أدبي غاية في الروعة والقوة". ثم يدعو الكاتب قراءه إلى عدم إسقاط أعمال العنف التي ارتكبها أتباع تنظيم داعش على الإسلام، ويؤكد على ضرورة التفريق بين الإسلام من جهة وأفعال بعض التنظيمات الإسلامية مثل القاعدة وداعش وغيرهما من جهة أخرى، وبموضوعية تحسب للكاتب. وللتدليل على أهمية وضع ذلك في نصابه الطبيعي، يستحضر الكاتب بعض نصوص الكتاب المقدس الكثيرة التي تحث على العنف مثل تلك الواردة في سفر صموئيل الأول (الإصحاح 15، الآيتان 2 و3): "2. هكذا يقول رب الجنود: إِنِّي قَد تذكرتُ ما فعلالعماليق ببني إسرائيل حين وقفوا لهم في الطريق عند خروجهم من مصر.3. فالآن اذهب واضرب العماليقَ، وحرّموا كل ما لهمولا تعفوا عنهم بل اقتلوا كلَّ رجلٍ وكلَّ امرأةٍ وكلَّ طفلٍ وكُلَّ رضيعٍ وكلَّ البقر والغنم وكل البعير والحمير". ثم يطرح الكاتب بعد استحضار تلك النصوص سؤالاً إنكاريًا هو: "هل هذه هي النصرانية التي نؤمن بها"؟ ثم يجيب مباشرة بالقول "بالطبع لا، ليس قاتل الأطفال هذا هو الإله الذي نعبده بحق"! ثم يختم الكاتب فصله التمهيدي بالدعوة إلى ضرورة التفريق بين بعض النصوص ذات الطابع العنيف في الأسفار الدينية وبين الدين بصفته منظومة شاملة، وبين سلوك بعض الجماعات المتطرفة في اليهودية والنصرانية والإسلام، وبين جمهور اليهود والنصارى والمسلمين.

في الحقيقة يطرح الكتاب مواضيع وإشكاليات عويصة تتمحور كلها حول صورة الإله المعبود بحق بناء على ثماني قصص رئيسة وردت في القرآن الكريم وفي الكتاب المقدس.يتكون الكتاب المقدس من جزأين: العهد القديم (أسفار اليهود) والعهد الجديد (أسفار النصارى). وردت سبع من القصص موضوع البحث في كتاب العهد القديم، وواحدة (عيسى وأمه مريم العذراء) في العهد الجديد. والمعروف في أدبيات الكتاب المقدس أن صورة الإله فيه غير مطردة كما هي في القرآن الكريم، ذلك أن صورة الإله في العهد القديم مختلفة كليًا عن صورة الإله في العهد الجديد. والكاتب يكاد أن يعتبرهما صورة واحدة ثم يقارنها مع صورة الإله المعبود بحق في القرآن الكريم بناء على قصص منتقاة بعناية من الكتاب المقدس والقرآن الكريم. لكن المقارنة البسيطة بين هذه الصور الثلاث: صورة الإله في العهد القديم، وصورة الإله في العهد الجديد وصورة الإله في القرآن الكريم تبرز ثلاث مرجعيات عقدية مختلفة واحدة مطردة مع نفسها ومع الإرث التوحيدي الإبراهيمي (المرجعية القرآنية)، وواحدة مضطربة (مرجعية العهد القديم) وثالثة مختلفة (مرجعية العهد الجديد). وتُستجلى هذه الصور الثلاث من قصص وسرديات كثيرة منها قصة آدم وحواء في القرآن الكريم والعهد القديم. ففي القصتين حدثت المعصية وطُردآدم وحواء من الجنة إلى الأرض نتيجة للمعصية. لكن التوراة (سفر التكوين، الإصحاح الخامس، الآية 5 وما يليها) تجعل حواء سبب الخطيئة، فهي التي أغوت آدم وجعلته يأكل من ثمر الشجرة التي حرم أكل ثمرها عليهما، بينما يجعل القرآن الكريم (سورة البقرة، الآية 35 وما يليها) الشيطان سبب الإغواء ويساوي بين آدم وحواء في الوقوع في المعصية. ثم جاءت النصرانية وحمَّلت حواء مسؤولية هذه "الخطيئة الأزلية" مما أدى إلى اعتبار المرأة فيما بعد مرادفًا للشيطان الرجيم في الأدبيات النصرانية. فالمرأة – وليست مشيئة الله – هي سبب الخطيئة الأزلية والمسبب المباشر لطرد آدم من الجنة. وتتجلى أهمية ذلك في أن العقيدة النصرانية تعتبر الخطيئة الأزلية خطيئة متوارثة يرثها كل مولود عن أبويه آدم وحواء، وترى أنها خطيئة لا خيرة للإنسان في التحرر منها إلا بالإيمان بالمخلص وهو المسيح الذي افتدى العالم بدمه وخلصه من الخطيئة الأزلية. والافتداء هنا: الموتُ على الصليب في العقيدة النصرانية. أي أن المسيح افتدى العالم بدمائه على الصليب وخلصهم بذلك من الخطيئة الأزلية وبالتالي من الجحيم. وجعل هذا الاعتقاد آباء الكنيسة يعتبرون المرأة السبب المباشر في سفك دماء المسيح عليه السلام. فالمرأة هي المسؤولة عن طرد الانسان من الجنة عند اليهود من جهة، وعن صلب المسيح في العقيدة المسيحية من جهة أخرى. لذلك اعتبرت المرأة لقرون عديدة كائنًا حيوانيًا بدون نفس ناطقة تضمحل وتتلاشى بعد الموت ولا تبعث يوم القيامة. إذن لدينا هنا ثلاث صور: صورة الإله في الإسلام الذي يحمّل آدم وحواء معًا المسؤولية ويعاقبهما معًا على المعصية بالطرد من الجنة إلى الأرض،ثم يغفر لهما معصيتهما ويتوب عليهما. ثم صورة الإله في اليهودية الذي يجعل المرأة سبب الغواية وطرد آدم من الجنة ويجعلها رديفًا للشيطان الرجيم. ثم صورة الإله في النصرانية الذي يوحي للشيطان بإغواء حواء التي أغوت آدم بدورها فعصى ربَّه فتوارث بنوه الخطيئة الأزلية بمشيئة إلهية اضطر الإله معها في مرحلة متأخرة من تاريخ البشرية إلى التضحية بابنه كي يفتدي البشرية بدمائه ليخلصها من الخطيئة الأزلية.فكيف تستقيم المقارنة؟

نعم، صحيح أن الإسلام والنصرانية واليهودية ديانات توحيدية خرجت من بوتقة واحدة دُوِّن الوحي فيها بلغات تعود إلى أصل واحد هي العربية والآرامية والعبرية. لكن ثمة تطورات كثيرة طرأت على المفاهيم اللغوية والمصطلحات الدينية في تلك الديانات مما أحدث فروقات مفاهيمية كثيرة بينها أدت إلى الاختلاف بين الصور الثلاث للإله المعبود بحق كما ذكر أعلاه. ولقد لاحظ علماء الكتاب المقدس الاختلاف بين صورة الإله في العهد القديم وصورة الإله في العهد الجديد وحاولوا التوفيق بينهما. ولعل أكثر الملاحظين تطرفًا هو بطليموس العرفاني (الراحل حوالي 180 ميلادي) الذي حاول التوفيق بين صورة الإله التي يقدمها كتاب العهد القديم، وصورة الإله التي تقدمها الأناجيل من خلال تدليله على التضاد بين الصورتين معتمداً في ذلك على أماكن بعينها من أسفار العهد القديم ثم محاولة البرهنة بأن الإله الذي أوحى بالتوراة أو ببعض منها إلى موسى هو غير الإله الذي بعث عيسى وأوحى بالأناجيل إلى الرسل، أي أن إله اليهودية ليس هو هو إله المسيحية!لقد عبَّر بطليموس العرفاني،في رسالته الشهيرة التي كتبهالفتاة مسيحية اسمها (فلورا) حاول فيها استمالتها إلى مذهبه العرفاني، عمّا يعتقده كثيرون من أحبار النصرانية نتيجة للاختلاف الكبير في الصورتين: صورة الإله في العهد القديم وصورة الإله في العهد الجديد، ولكن دون أن يصرّحوا بذلك كما فعل بطليموس.

إن ما تقدم يجعلنا أمام إشكالية حقيقية تجنب الكاتب التطرق إليها في كتابه، فجعل الإله في التقليد اليهودي النصراني صورة واحدة قارنها مع صورة الإله في القرآن الكريم. فمن جهة تتجانس هذه الألفاظ لغويًا لأن العربية (لغة القرآن الكريم)  والعبرية (لغة العهد القديم) والآرامية (لغة الإنجيل الأصلية) لغات ذات أصل واحد تتجانس كلماتها تأثيليًا في حالات كثيرة مثل كلمتي (إِلّ) و(إله) الموجودتين في العربية والآرامية (ܐܠܐ = /إيلا/ وباطراد ܐܠܗܐ = /ألاها/) والعبرية (אל = /إِيل/ وباطراد אלוה= /إِلُوَه/)، وذلك للدلالة على الإله المعبود بحق، وتفترق عند المعاني الدينية المفهومة من تلك الكلمات المتجانسة تأثيليًا. ويُعزى هذا الافتراق في المعاني إلى التطورات المنفردة التي شهدتها الديانتان اليهودية والنصرانية عبر الزمن. ولن نتوقف عند هذه التطورات في هذه المراجعة لأن ذلك يتجاوز الغرض منها كثيرًا. لكننا نستنتج أن هذه التطورات تجعل مقارنة الكاتب النقدية غير ذات جدوى دون التوقف عند الشبكة المفاهيمية المختلفة بعد تطور الديانات الثلاث وصيرورتها ديانات مستقلة. وهو ما لا يفعله الكاتب، بل يقتصر في مقاربته على عرض نصوص دينية يعالجها معالجة أدبية نقدية، فيضطر – بإرادة أو بدون إرادة – إلى إبراز القيمة الأدبية العالية للقرآن الكريم بالمقارنة مع الأسلوب البسيط للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. ويعزو الكاتب ذلك إلى نقطتين مهمتين يتفرد بهما القرآن الكريم بالمقارنة مع الكتاب المقدس هما: "أن الإله المعبود بحق هو الذي يتحدث في القرآن" وليس الأنبياء كما هي الحال بالنسبة إلى العهد القديم أو الرسل كما هي الحال بالنسبة إلى العهد الجديد، "وأن الإله المعبود بحق في القرآن يقتصر في عرض سير الأوائل من الأنبياء والأمم على تصويب ما هو غير صحيح من تلك السير [في الكتاب المقدس] بالإضافة إلى إكمال ما أهمله اليهود والنصارى بسبب الغفلة" كما يرى الكاتب. وهذا، بدوره، يبرز بجلاء الصورة الشاملة الكاملة للإله المعبود بحق في القرآن الكريمبالمقارنة مع صورة الإله المعبود بحق في العهد القديم، الذي يبدو إلهًا قبليًا محليًا أكثر منه إلهًا للبشرية جمعاءأوربًا للعالمين. كما يبرز الصورة التوحيدية الكاملة للإله المعبود بحق في القرآن الكريم بالمقارنة مع صورة الإله المعبود بحق في العهد الجديد، الذي هو فيه إله البشرية جمعاء لكنه إله بأقانيم ثلاثة هي الإله الآب والإله الابن والروح القدس. إنه "الإله-الآب" أو "الإله-الإنسان"كما يُشار إلى ذلك في العقيدة النصرانية. فصورة إله البشرية جمعاء صورة نجدها في الإسلام وفي النصرانية لكنا لا نجدها في اليهودية، وصورة الإله بثلاثة أقانيم نجدها في النصرانية ولا نجدها في اليهودية وفي الإسلام.  تبرز هذه الصورة بجلاء عند استعراض قصص الأنبياء في القرآن الكريم والكتاب المقدس ومقارنتها مع بعضها. ونقتصر في هذا العرض على النظر في مقارنةقصة إبراهيم وابنيه إسماعيل وإسحاق كما وردت في العهد القديم والقرآن الكريم.

تتعلق المقارنة ببشارة الله لإبراهيم بغلام ثم بامتحانه بذبح هذا الغلام (إسماعيل عند المسلمين أو إسحاق عند اليهود والنصارى). فالذي يبشر إبراهيم بمولود في العهد القديم (الإصحاح 18 الآيات 1-15) هو الرب نفسه مصحوبًا بشخصين مرّا على إبراهيم فصنع لهم طعامًا عجلاً وخبزًا وزَبدًا ولبنًا، فجلسوا وأكلوا جميعًا: الإله المعبود بحق في العهد القديم وصاحباه.. ثم بشَّر الرب سارة بغلام فضحكت من البشارة. فراجعها الربُّ في الضحك فأنكرت سارةبأنها ضحكت عند سماعها بشارة الربّ لها بغلام وهي عجوز؛ فقال لها الربّ: "لا بل ضحكتِ"! وهذا حوار أشبه بشخصين عاديين منه بحديث بين الإله المعبود بحق ومخلوق من مخلوقاته. فنحن هنا إزاء صورة للإله المعبود في التوراة يغسل رجليه من عناء السفر ويأكل ويفاوض غيره بالكلام. أما في القرآن الكريم (هود، 69 -76) فالذين يبشرون إبراهيم هم ملائكة أرسلهم الله إليه ليبشروه بالغلام ويخبروه عما سيحلّ بقوم لوط من عذاب. ولم يأكلوا من العجل الذي قدمه لهم إبراهيم لأنهم ملائكة. كما أن ضحك سارة في القرآن الكريم لم يكن سخرية من البشارة بسبب سنها، بل فرحًا من طمأنة الملائكة لإبراهيم بأنهم لم يُرسَلوا إلى قوم إبراهيم بل إلى قوم لوط. من جهة أخرى: يُستشف من قصة امتحان إبراهيم بالتضحية بابنه أن العهد القديم يعامل الذبيح – الذي هو إسحاق عند اليهود والنصارى – بغموضشديد، ويقدم الذبيحَ على أنه ساذج لا يدري ما يحدث له. وهنا يطرح الكاتب التساؤل التالي: "إيمان مَن يُمتحن في هذه القصة يا ترى؟ أهو إيمان إبراهيم أم إيمان إسحاق"؟ يجيب الكاتب بأن السياق لا يسعف بإجابة واضحة على هذا التساؤل خصوصًا وأن إسحاق في سياق رواية العهد القديم يجهل ما يجري له بالكلية. ثم يتساءل الكاتب من جديد: "وهَب أنه شك في أن شيئًا ما يجري له عندما أخذه أبوه معه ليضحّي به: هل هو موافق على التضحية به لله؟ وهل هو خائف من ذبحه؟ وهل سيقاوم أباه بهدف النجاة بنفسه من الموت"؟ ويجيب الكاتب من جديد بأن السياق لا يسعف بإجابة واضحة على هذا التساؤل. ثم يقارن الكاتب هذا السرد مع ما جاء في الآية 102 من سورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىقَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُسَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). هنا يرى الكاتب أن الامتحان في السياق القرآنيإنما هو عن بينة مطلقة لإبراهيم، لذلك يستشير إبراهيم ابنه في رؤياهكي يكون على بينة من أمره، فيختبر صبره وطاعته لله ثم لأبيه.ثم يختم الكاتب بالقول "إن أروع ما في السرد القرآني لقصة إبراهيم هي الخضوع – خضوع الأب والابن – التام وتسليمهما الفوري لمشيئة الله. أما في التوراة فإن امتحان الله لإبراهيم يُسرد على أنه قصة تاريخية؛ بينما يرى الإنجيل في القصة بُعدًا رمزيًامحدودًا فقط".  

الكتاب مهم للغاية، وقد بذل كاتبه جهدًا صادقًا في المقارنة بين صورة الإله في القرآن الكريم وفي الكتاب المقدس بهدف استجلاء الفروق بين الصورتين، في محاولة واضحة منه لتقريب صورة الإله في القرآن الكريم إلى قرائه، وجلهم من المسيحيين المعتقدين، بهدف فهم القرآن الكريم وفهم علاقته بالكتاب المقدس.

------------------------------

الكتاب: "الإله المعبود بحق في القرآن"

الكاتب: جاك مايلز (Jack Miles). المترجم: أريان فيرهايه (Adrian Verheij)

الناشر: دار آثينيوم بولاق – فان غينيب– هولندا  

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات:311 صفحة

سنة النشر:2019

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة