البحث عن الفينيقيين

Picture1.png

تأليف: جوزفين كراولي كوين

عرض: سعيد بوكرامي

تقدم جوزفين كرولي كوين المؤرخة وعالمة الآثار،والأستاذة المرموقة بجامعة أكسفورد، تحقيقا مذهلا عن الفينيقيين، قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مجرد استعادة لتاريخ معروف وإماطة لثام عن مرحلة تاريخية يعرفها القاصي والداني، لكن بعد التغلغل في أطروحاتها، نكتشف أن لا أحد يعرف الفينيقيين حق المعرفة.

إن كتاب" البحث عن الفينيقيين"مجلد سميك وكثيف، مثير ورائع،كأنه مغامرة لمطاردة أشباح الفينيقيينالذين توجد حاليا آثارهم بمتاحفهم الدائمة في لبنان وتونس، لكنها تنقل في بعض الأحيان إلى متاحف عالمية، أو إلى بلدان" البحر الأبيض المتوسط ​". لكن من همالفينيقيون؟ حسب هومروس، هم تجار وبحارة استقروا في مكان ما بين قبرص ومصر. وحسب هيرودوت، من ساحل سوريا، يقاتلون في البحر لحساب الفرس، ولكنهم يتعايشون مع الإغريق في صقلية. مدنهم تسمى صور،وصيدا،وبيبلوس، وأرادوس في بلاد الشام؛ ومعطية في صقلية،وتاسوس في سردينيا، وقرطاج في أفريقية،وغاديس في إسبانيا هذه هي مستعمراتهم في المتوسط. بالنسبة لليونانيين،فهم مرشدون (للملاحة) وملهمون في(عبادة ديونيسوس)، وشبه أسلاف أسطوريين، وشركاء، ولكن أيضًا برابرة وخصوم. بالنسبة للرومان، هم أعداء جنوبيون غادرون، يقودهم حنبعل، سيهزّون عرش روما في عام 216 قبل الميلاد. قبل أن تهزمهم وتمسحهم سياسيا عن الخريطة.

سيمكننا الكتاب من التعرف على مراحل اكتشاف الفينيقيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم سنكتشف ونفكك نقوشهم في القرن التاسع عشر، وبالتالي لغتهم، التي تعتبر لغة سامية. في عام 1860، قام إرنست رينان بالتنقيب في لبنان وأعلن أن الفينيقيين كانوا أمة وشعبًا، وهو شيء غير مألوف بعض الشيء بسبب توقف مؤسساتهم وانتقائية فنونهم. و في القرن العشرين أعيد الاعتبار لهم من خلال إنشاء لبنان على الحدود "الفينيقية". وبذلك زعم علماء الآثار أن الحضارة الفينيقية، بين 1200 و332 قبل الميلاد قد انتشرت في غرب البحر المتوسط، حيث الشام. هذه هي بالضبط الصورة التي راهنتجوزفين كرولي كوين على إعادة تركيبها حجرا حجرا، لأنها تعلن أن الامبراطورية لا وجود لها،وكذلك الأمة، والدولة،والمجموعة العرقية، ولا الشعب "الفينيقي". وللبرهنة على ذلك، تقوم بمراجعة المصادر المتوفرة.

من هم إذن هؤلاء الفينيقيون؟ هل هم شعب من العصور القديمة استعار منهم الإغريق حروفهم الأبجدية؟ أم تجار وملاحون استثنائيون من بلاد الشام (صور،صيدا، لبنان في الوقت الحاضر) قاموا بتأسيس قرطاج،وإمبراطورتيها التي ستهيمن على المدن اليونانية في صقلية أو سردينيا، حتى تدميرها من قبل روما؟ هل هم الشعب الذي كان يمارس دينًا قاسيًا، يقدم الأطفال قرابين للآلهة؟ولماذا، يقدم هذا الشعب، مقارنة باليونانيين والرومان، بشكل محتشم في دروس التاريخ؟

 تتتبع المؤلفة كل ما هو معروف عنهم ويشير إلى "الهوية" الفينيقية، ذلك الشعب الأصيل، مستكشفة بالتناوب اللغة والدين والمستعمرات والتأثير الإقليمي لقرطاج مستندة في تحقيقها على فن الخط، وعلم العملات، والعمارة،وآخر الاكتشافات الأثرية. وكلما اعتقدنا أننا نفهم هذه الهوية، فإنها تنفلت منا،لذلك لم نعد على يقين من أن قرطاج كانت مستعمرة لمدينة صور أو صيدا...

هل شكل الفينيقيون شعبًا حقيقيًا؟ هل عرفوا على هذا النحو من قبل معاصريهم؟ ما هو مؤكد، أنهم كانوا موضوعًا للعديد من عمليات الاستغلال (والتخيّلات!): من قبل الإغريق،والرومان، وبعد ذلك بقرون قليلة، من قبل الأيرلنديين ثم الإنجليز، وأخيرا الفرنسيين!

كما يوحي العنوان، فإن العمل عبارة عن تحقيق دقيق حول اختراع الفينيقيين كـ "أمة قديمة"، والذي يهدف إلى إثبات أنها لم تكن موجودة كـ "شعب" أو "مجموعة" واعية بنفسها. في الواقع، لقد وصف الفينيقيون منذ زمن طويل بأنهم "شعب" و "حضارة". نحيل هنا على وثائق وصور معارض (الفينيقي) في بالازو في مدينة البندقية (1988) و البحر الأبيض المتوسط عند الفينيقيين في معهد العالم العربي في باريس (2007). على العكس من ذلك، توضح لنا المؤلفة أن المصادر غامضة فيما يتعلق بتعيين الحدود الجغرافية "الفينيقية" أو الهوية "الفينيقية".لتبرير الحاجة إلى التحقيق، فككت ودحضت جوزفين كراولي كوين المعرفة الأكاديمية، بدءًا بمفهوم "الفينيقي". كانت أهدافها ذات شقين لأنها أولاً مسألة تحديد من المصادر ما يمكن أن نعرفه عن التنظيم الاجتماعي والسياسي والديني لما يسمى بالسكان "الفينيقيين"، وثانياً تسليط الضوء على الدوافع الموجودة وراء المفهوم الحديث لـ "الشعب الفينيقي" (ص 11). وحسب المؤلفة، فإن الخطأ المنهجي للمؤرخين وعلماء الآثار يتمثل في إعطاء صبغة عرقية إلى أشخاص "متناقضين" أو حتى "غير مبالين" بهذا الجانب (ص 7): "لا نعرف كيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم، وبأي عدد من الطرق المختلفة، أو حتى وإن كانوا يولون أقل أهمية لهذا السؤال "(ص 263). في العصور القديمة للبحر الأبيض المتوسط، بالنسبة للمصريين، فإن الحثيين أو العبرانيين، مثل "الفينيقيين"، تشير المصادر إلى أن التنظيمات الإقليمية والاجتماعية والسياسية كانت "منفتحة" نسبيًا (ص 2). على عكس ما يدفعنا المنطق الحديث إلى الاعتقاد اليوم، كانت هويات البحر المتوسط مرنة ومنفتحةومعقدة.لذلك تشكككراولي كوينفي الفرضيات التي قدمت كحقائق. للقيام بذلك، تعتمد على مصادر نصية مثل أرشيف مؤسسة قاديش أو قرطاج، وكذلك على بعض الأدوات اليدوية الفاخرة أو النقود أو الأسلحة ... على سبيل المثال، تعيد النظر وتدحض فكرة أنصور وصيدا شكلتا مملكة واحدة بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد. كما تتحدى الروابط المفترضة بين بعض المعالم الأثرية الثقافية التي تعتبر "فينيقية" : مثل الأوعية المعدنية الشهيرة (المزينة بمناظر أسطورية أو بمشاهد الصيد) أو تلك المصنوعة من العاج أو الخزف ذات أشكال تسمى "فينيقية" في حين أنها تنتمي إلى منطقة الشام عموما. وبطريقة مفصلة، فإنها تحلل بعض الممارسات المقدسة عند الفينيقيين مثل مزهريات القرابين.

أخيرًا، تتساءل عن ديناميات الهجرة، وهي الدراسة التي مكنتها من تسليط الضوء على حركة المجموعات الناطقة باللغة الفينيقية في شرق ووسط وغرب البحر الأبيض المتوسط، حيث الشبكات تنمو والمجموعات تتطور وتحافظ على علاقات "متنوعة" و "متعددة الاتجاهات".

في القسم الأول، تواجه المؤلفة التاريخ القديم للفينيقيين في مصادره القديمة من خلال ثلاثة فصول. في الفصل الأول، "تضع من أولوياتها دراسة الصورة الحديثة للشعب الفينيقي في السياسة والخطاب في العصر الحديث" (ص 16) من خلال مراقبة الهوية الفينيقية التي تستغلها الحركات السياسية الحديثة. فيالفصل الثاني، تستغرب المؤلفة أن من بين عشرة آلاف نقش نذري أو جنائزي المتاحة لنا باللغة الفينيقية، قليل منها يشير إلى أنها "مجموعة عرقية". أما، في الفصل الثالث، فتبحث المؤلفة عن سبب نعت الإغريق والرومان "الفينيقيين" بمصطلحات تشير إلى أنهممجموعة بشرية غامضة.

ثم، في القسم الثاني، تتساءل جوزفين كراولي كوين عن تفاعلات ما يسمى بالسكان الفينيقيين على ضوء الأشياء والممارسات. على سبيل المثال، من خلال استخدام عملة قرطاج (نهاية القرن الخامس قبل الميلاد)، توضح كيف أن مفهوم "الفينيقي" (الذي يأتي من الإغريق) يخدم الطموحات الإمبراطورية لقرطاج التي تسعى إلى "جمع رعاياها حول فكرة أكبر من المدينة /الإمبراطورية نفسها" (ص 131). تسمح دراسة عبادة"بعل هامون" و "تينيت" بفهم تطور المجموعات الفرعية للمستعمرات من خلال الدائرة المغلقة ل "توفاة قرطاج "أو" توفاة صلامبو". تتناقض هذه الشبكة الفرعية المحدودة مع الشبكة الواسعة التي تتطور حول عبادة "ملقرت" (بمعنى ملك المدينة، إله صور)بواسطة هذا الأخير، أنشئت روابط متعددة بين مواقع اللغة الفينيقية في جميع أنحاء البحر المتوسط ​​(ص 135). ثم تشرح جوزفين كراولي كوين أخيرا، كيف حولت تجربة الهجرة السكان الناطقين بالفينيقية وممارساتهم.

يركز القسم الثالث من الكتاب على الاهتمام الجديد بهذا الماضي في العالم الهلنستي والروماني وعلى مستوى الارتباط الثقافي (وليس العرقي) بالفينيقيين. توضح كيف يعمل هذا التعريف على تعزيز الهويات الوطنية، التي نجدها في العصر الحديث.وراء السؤال عن "الفينيقيين"، تطرح كراولي كوين سؤالًا أوسع: "ما هو الشعب؟ ". تسعى إلى إبراز ما كان يجمع بين السكان الناطقين باللغة الفينيقية وما الذي يميزهم عن الآخرين (ص 96). من بين الأمثلة التي تعتمد عليها، تقوم بتحليل بعض النقوش (ص 65) التي لا تقدم التعرف المباشر على الذات. توضح الدراسة وجود إشارات إلى الأسلاف (غالبًا عدة أجيال)، أو عائلة/ أو مدينة، في حين يشير الإغريق إلى سلف واحد، ويربطون جنسيتهم بهوية إقليمية أوسع. يبدو أن "الفينيقيين" أكثرارتباطا بمرجعية الأجداد مقارنة بالهوية الجماعية. ينسب اليونانيون "الفينيقيين" إلى مدنهم، كما هو الحال في الألعاب الديلوسية أو النيمانية أو البرزخية (ص 70) بينما يرتبط الفائزون الآخرون بمجموعة أكبر. الإغريق (مع أنهم مخترعو التسمية الفينيقية) إلا أنهم يعتبرونهم "هوية متباينة واعية بنفسها" (ص 264).

تكشف هذه الدراسة المكثفة جدا أنه من الصعب إيجاد قاسم مشترك آخر غير اللغة الفينيقية (التي لها بلا شك لسانها الخاص). وهكذا، فإن الثقافة المعمارية لأرادوس أو بيبلوس أو صيدا تكشف عن "انتقائية عالمية" (ص 112) تجسد هذا التنوع. على سبيل المثال، يجمع الفن والعمارة في صيدا بين الزخارف الفارسية والمصرية والقبرصية وحتى اليونانية. بل إن الممارسات الجنائزية المتنوعة مثل: القبور، الكهوف، والنوم تحت الأرض، وطقوس الحرق (ص 112). ونذكر أيضًا قرابين الأطفال في قرطاج وفي بعض المستعمرات، كجزء من عبادة الإله بعل هامون، والتي لا يعترف بها ويشاركها الجميع في أرجاء الامبراطورية. أخيرًا، بصرف النظر عن الحرب والتجارة، وهما قوتان موحدتان تقليديًا (ص 123)، فإن الدليل الوحيد على ظهور هوية فينيقية هي صورة شجرة النخيل (الفينيق) التي سُكّت على العملة الفينيقية في قرطاج في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد. (ص 133).

يصبح مصطلح "الفينيقي" في هذا السياق سلاحًا "سياسيًا وثقافيًا" لكنه لا يكشف عن "هوية إثنية" (ص 265). وبعد قرون من الزمان، تستخدم الدولة اللبنانية الجديدة في عام (1943) أيديولوجية "الفنيقيين الجدد"، التي تعيد تأكيد أصولها بهذه الطريقة لأنها تناسب "النضال العام،الذي يقوده الموارنة إلى حد كبير، من أجل تأسيس دولة لبنانية منفصلة عن سوريا والعالم العربي بأسره "(ص 28). تسلط المؤلفة الضوء على كيفية استغلال الهوية الفينيقيية من أجل غرض سياسي خلال مجيء الدول القومية في لبنان وتونس في القرن العشرين. هذه الحقائق ليست معزولة أو جديدة، فهي تُظهر بطريقة أصلية أنه في بروتانيوإيرلندا، خدم المذهب الفينيقي الجديد في السابق قومية العلماء والنخب. بمعنى آخر، "القومية هي التي خلقت الفينيقيين" (ص 268).

أخيرًا، تعترف المؤلفة بالفجوات المتعلقة بقبرص وغرب البحر الأبيض المتوسط، لكن القيد الرئيسي في بحثها يعود إلى عدم وجود أدب باللغة الفينيقية، لا يوجد شيء يقول بوضوح أن الفينيقيين لم يعتبروا أنفسهم شعبا. تتمسك جوزفين كرولي كوين بأفكار يمكن الطعن فيها. ومع ذلك، سيكون من المفهوم أن هدفها ليس فرض رأيها ولكن تحفيز النقاش وقبل كل شيء تشجيع الباحثين على متابعة تحقيقات جديدة دون الوقوع في المزالق التي رغبت في بحثها الممتد على طول أربعمائة صفحة أنتسلط الضوء عليها.

هذا الكتاب هو نتيجة لثلاث محاضرات ألقيت في جامعة(تافتس)، لكن المؤلفة طورتها واستكملتها في كتابها الجديد، الذي لا يعد بحثًا أكاديميا معزولًا، لأن عملها جزء لا يتجزّأ من الديناميكية نفسها التي يعمل بها الأكاديميون المتخصصون في تاريخ البحر الأبيض المتوسط مثل باولو زيلا أو كورين بونيت أو كلود بوراين،هذا على سبيل المثال لا الحصر.

----------------------------------------------

الكتاب: البحث عن الفينيقيين

المؤلفة: جوزفين كرولي كوين

الناشر: منشورات لاديكوفيرت فرنسا.

تاريخ النشر: 2019/ الفرنسية

عدد الصفحات: ص 400

 

 

 

 

أخبار ذات صلة