عصر التضليل: كيف تنتشر المعتقدات الزائفة

41iI2VpuGKL._SX331_BO1,204,203,200_.jpg

تأليف: كايلن أوكونور و جيمس أوين ويثرل

عرض: فينان نبيل | كاتبة وباحثة مصرية

انتشرت في القرون الوسطى أسطورة تحمل اسم "الحمل التارتاري"، أو" شجرة الحملان". اعتقد الناس لعدة قرون أن الحملان عبارة عن هجين من الحيوان والنبات، تنمو على الأشجار، ومصطلح " ترتاري" كان اسما يطلق على جزء كبير من آسيا الوسطى، وتقول الأسطورة أن هناك مخلوقا غريبا عُرف "بنبات الحملان" وتم رسمه على شكل حمل كامل الحجم يتغذى من الأرض بواسطة جذع صغير، وأنه قادر على التحرك بطريقة محدودة تسمح له بالرعي والتغذي على الغطاء النباتي، وإذا لم يستطع الوصول للغذاء فإنه يتضور جوعا ويموت، ويشكل الجذع الثابت في الأرض عنصرا حيويا لبقائه وإذا تم قطعه يموت. على الرغم أن هذا الأمر يبدو غريبا وسخيفا، ويصعب تأكيده علميا، إلا أنه لاقى جاذبية وانتشارا على نطاق واسع، واستمر، ولم يشكك أحد في وجود هذا النبات/ الحيوان الهجين الأسطوري.

يعود أصل الأسطورة إلى ما نشره المؤرخ سير"جون ماندفيل" أثناء سفره إلى وسط آسيا، وأفريقيا الوسطى، والهند، الذي رصد العديد من الأمور المجهولة، والغريبة، والغير معروفة في أوروبا آنذاك. من بين هذه الأمور العجيبة شجرة هندية تحمل نباتا يشبه الحملان الصغيرة لحما ودما، ولم يكن "ماندفيل" الوحيد الذي كتب هذا التعليق، ولكن هناك عالم إيطالي يدعى "أودريك" سجل نفس المعلومة، وأصبح يتم تداولها كحقيقة واقعة عند علماء الطبيعة، والبيولوجيين في العصور الوسطى، إلى أن اكتشف العالم السويدي "انجليبرت كامفبر" الذي قام ببحث علمي بتكليف مباشر من "الملك تشارلز الثالث" وأكد أنه لا يوجد ما يسمى " بشجرة الحملان".

 يطرح الكاتبان تساؤلا عن الكيفية التي يمكن أن تنتشر بها مثل هذه السخافات لعدة قرون بدون أدلة تدعمها، وماهي الآلية التي يتم من خلالها تشكيل الأباطيل لتنتشر حتى بين الخبراء، وما الذي ترمز إليه أسطورة "شجرة الحملان" في عصرنا الحالي؟ و ما هو عدد البشر الذي يمكن أن يصدقها؟ يرى المؤلفان أن الأساطير أصبحت تصيغها قوة سياسية رئيسة، تصنع المعتقدات وتشكلها، وتنشرها عبر الوسائط المتعددة على مستوى العالم. هناك ما يقترب من بليون إنسان في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وما يقرب من بليون أخرى خارجها يتأثرون بالسياسات العسكرية، والتجارية، وقوانين الهجرة لتلك البلاد. وتستخدم حكومات هذه الدول وسائل الإعلام للتأثير على مواطنيها، وعلى حظوظ منافسيهم على الصعيدين المحلي أو العالمي. يتعرض مستهلكو الإعلام في أوروبا والولايات المتحدة لأثر الدعاية التي ينتجها الخصوم الأجانب، مثل الحكومة الروسية التي تدعم بعض وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية.

 تعد الدعاية السياسية إشكالية كبيرة لأنها تؤثر على المعتقدات، وتقوض الأدلة الحقيقية، كما يلعب التحفيز الإعلامي والأبحاث العلمية التي تتم صناعتها دورا هاما في التأصيل للمعتقدات الخاطئة، كما حدث بالضبط في مذكرات "ماندفيل "العلمية والتي أدت لانتشار واسع لأسطورة "شجرة الحملان"، هكذا تكون المعلومات الخاطئة، والأخبار المزيفة، والأبحاث العلمية الغير دقيقة مصدرا أساسيا للمعتقدات المضللة.

تم نشر خبر قبل الانتخابات الرئاسية التي أتت بترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بستة أسابيع في يوم السادس والعشرين من سبتمبر، في موقع يسمى"(ETF) تحت عنوان" البابا فرنسيس يؤيد رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة" للرئاسة، وكان الخبر صادما للعالم وأنكره البابا، وعندما تولت جهات التحقيق الفيدرالية التحقيق في الأمر وجدت أنه قد تم اختراق حساب مساعد "هيلاري كلينتون" من قبل القوى السياسية التي تم استبعادها من السلطة، وتسريب الخبر من خلاله. وعلى الرغم من أنه خبر غير حقيقي، إلا أنه حصل على ما يقرب من ستة وتسعين ألف إعجاب على فيسبوك، وشارك الخبر عشرة أضعاف هذا العدد، إنه أحد أكبر الأخبار انتشارا على فيسبوك خلال الفترة التي سبقت انتخابات الرئاسة الأمريكية. على النقيض من الأخبار التي نشرتها مصادر أكثر توثيقا مثل واشنطن بوست، والتي نشرت خبرا بعنوان "التاريخ المذهل لفساد ترامب " فلماذا أصبح أوباما فاسدا الآن" والذي لم ينل نفس الحظ من الانتشار، ويعزى الأمر لتحيزات حزبية سافرة.

لا يمكن لكتاب مثل هذا أن يتجاهل "دونالد ترامب"، رئيس الولايات المتحدة، لأنه يعد في الوقت الحالي أقوى وأكبر مصدر للمعلومات الخاطئة على مستوى العالم، إنه يميل إلى تقديم معلومات مضللة لدرجة أنه لم يعد يتحدث في أي وقت، ولا في أي مناسبة دون أن يلقي الأكاذيب الصريحة والتي يعلم يقينا أنها خاطئة، وليس مجرد أشياء يعتقد أنها خاطئة، ويؤمن أن الملايين من الناس في أمريكا وحول العالم بتلك الأكاذيب وينشرونها. تتمتع آراء ترامب بالسلطة فقط لأنها تعكس آراء ملايين الأميركيين الذين صوتوا لصالحه، كما أنه يصف وجهات النظر المعارضة على أنها "أخبار وهمية".هناك تدفق محموم لسيل من الأكاذيب ينساب كل يوم من "دونالد ترامب"، والذي وصل لدرجة أنه أعلن أن أكثر من ثلث البلاد تثق فيما يقول كما لو أنها حقائق أتت من "يسوع المسيح"، لدرجة أن هؤلاء الأشخاص إذا حصلوا على شيك حكومي قيمته خمسمائة دولار، وأخبرهم ترامب أن الشيك في الواقع بثمانمائة دولار، فسينظرون إلى الشيك على أنه كذلك، وإذا صرف لهم البنك خمسمائة دولار سيتشككون في أن من يدير البنك من الديموقراطيين الذين صوتوا لصالح هيلاري كلينتون. ليس هناك مايوازي هذا التزييف في التاريخ الأميركي، للدرجة التي دفعت موقع "تويتر" لإلغاء حساب "دونالد ترامب" حتى تختفي التويتات المجنونة التي كان يطلقها في الثالثة صباحا طيلة العامين الماضيين.

وحتى يتسنى فهم كيف تنتشر المعتقدات المضللة، يجب أن نعلم من أين تأتي أولا المعلومات الخاطئة التي نشكل بها المعتقدات. إن أول مصدر للمعلومات هو الخبرات الشخصية التي تنتج عن احتكاكنا بالعالم الخارجي، فعلى سبيل المثال عندما تأكل الطماطم عدة مرات، ولم ينتج عن تناولها أي أعراض مرضية، يتكون لدينا معتقد أنها ليست خطيرة، وهذا ما جعل الأوربيين يعتبرون الطماطم تفاحا ساما لمدة تزيد عن مائتي عام، كما نتعلم أيضا بالخبرة الذاتية أن النوم يحسن حالتنا المزاجية، ولكن قد تمنعنا الطبيعة البشرية أحيانا من إدراك الأمور على حقيقتها عن طريق الخبرة المباشرة، وقد تمنع أصحاب المعتقدات الخاطئة من رؤية الحقائق، حتى لو كانت الأدلة الصحيحة على خطأ معتقداتهم واضحة أمامهم، هناك العديد من العوامل الذاتية التي تؤثر في تكوين المعتقدات الخاطئة مثل ذكاء الفرد ومستوى تعليمه وثقافته وتنوع مصادر معلوماته.لكن الأمور ليست بسيطة دائما، فعندما تكون الأمور أكثر تعقيدا نحتاج لخبرات الآخرين للحصول على المعلومات، فكل حقيقة علمية نحصل عليها نحتاج فيها لآراء الخبراء والعلماء، وهنا يجب أن نقف أمام من يجب أن نمنحه الثقة حتى يكون مصدرا للمعلومات التي نكون بها معتقداتنا حتى لا نقع في أسر ما يسمى "بالنقطة العمياء للتفكير"، والتي تنتج عن الأدلة الناقصة أو المغلوطة وتشكل مقدمات وأدلة خاطئة تؤدي لنتائج غير دقيقة . ركز الكاتبان في كتاب "عصر التضليل" على العوامل الذاتية لانتشار المعتقدات الخاطئة، ومنها التحيز للتفكير الذاتي، والآراء الفردية، كما ركزا على العوامل الاجتماعية، معتمدين على نظرية المعرفة الاجتماعية التي وضحت الدور الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية في انتشار الأكاذيب، وكيف تؤثر جوانب التفاعل الاجتماعي على المعتقدات، وأوضحا أن المعتقدات الخاطئة تنتشر نتيجة لاعتمادنا العميق على الآخرين للحصول على المعلومات. قد يكون جل ما نعتقد به تعلمناه من الآخرين ويفوق ما تعلمناه من تجاربنا الحياتية المباشرة، واحتكاكنا بالعالم الخارجي، قد يكون هذا الانتشار الاجتماعي للمعلومات مفيدا للغاية - لأن بدونه لن تكون لدينا ثقافة واسعة ومتعددة- إلا أن له جانبا سلبيا فهو يعتبر قناة تضاعف انتشار الأباطيل، والمعتقدات غير الصحيحة.

وحتى نتجنب هذا الجانب السلبي، علينا أن نستخدم الأساليب البحثية التي تقرر لنا المصادر الموثوق بها للحصول على المعلومات، ففي بعض الأحيان يقدم الآخرون لنا استدلالات جيدة ونستقي المعلومات من مصادر ثبت في الماضي أنها قدمت لنا معلومات مفيدة وحقيقية، إلا أننا في أحيان كثيرة نعتمد في اختيارنا على عوامل أخرى مثل الهوية المشتركة، أو المعتقدات المشتركة، مما يؤدي إلى الاستقطاب المستمر،حتى هؤلاء الذين يبحثون عن الحقيقة والذين يسعون لجمع الأدلة حول العالم، لا يثقون في أولئك المختلفين عنهم في المعتقدات، بل قد يتجاهلون الأدلة التي قد تحسِّن حالتهم المعرفية إذا ما كانت مصادرها تختلف عنهم الهوية أو التوجه الأيديولوجي. إن التجاهل المتهور للأدلة يمكن أن يكون خطير العواقب، والتحيزات العائلية، والدينية، والأيديولجية تضيق خياراتنا بين الحقائق، فنحن نقيم الأدلة المقدمة بناء على المعايير السابقة، ونعتبرها ملبية لاحتياجاتنا إلى حد اليقين. نهتم أحيانًا بالمكانة الاجتماعية أكثر من الاهتمام بالمعتقدات الحقيقية، فيؤثر على تشكيل معتقداتنا الأشخاص رفيعي الثقافة والمتمرسين أو أصحاب السلطة والنفوذ والتأثير.

تلعب وسائل التواصل الاجتماعية من جميع المشارب سواءا جماعات حقوق الإنسان، أو المجموعات التي تهتم بحياة الأقليات، وحتى الجماعات المناهضة للمهاجرين على خلق ثقافة اجتماعية وتعزيز نفوذها المجتمعي. وقد استخدم وكلاء الروس تلك الوسائل للتأثير على الجماعات الاجتماعية من أجل دفع الاستقطاب في الولايات المتحدة، وتغيير نتائج انتخابات ترامب 2016، ودعم حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

كشف انتشار الأخبار المزيفة عن الجانب المظلم لشبكات التواصل الاجتماعي، وقدرتها على نشر معلومات كاذبة ومضللة لا يمكن إيقافها، وتغيير تصورات الناس للواقع وزعزعة المؤسسات السياسية، وكيف تعمل الأخبار المزيفة التي تنشرها الشبكات على تغيير عالمنا.

يرى الكاتبان في نظرة استشرافية للمستقبل أن محاربة المعتقدات الخاطئة تستلزم أن نأخذ الجوانب الاجتماعية في الاعتبار، وأن نراعي أن الظروف التي نتفاعل في ظلها مع الآخرين تتغير، فيجب أن نطور آليات الاستدلال الذي نتعامل به مع البيئات الاجتماعية المختلفة، فالاستدلال الفاشل سيكون مسئولا عن التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي وسيؤدي للدعاية المضللة كما سيؤدي إلى اتخاذ قرارات مستقبلية غير صحيحة، ونحن نحتاج إلى تقدير الدور الذي تلعبه الهياكل الجديدة للتفاعل الاجتماعي في تفسير المشهد المعرفي لدينا.

 يرى فلاسفة العلم أن العوامل الاجتماعية تشكل ضرورة لفهم وانتشار واستمرار المعتقدات الخاطئة. على الرغم من أننا أصبحنا متطورين بما فيه الكفاية حتى لا نصدق كل ما نسمعه أو نراه، لا زلنا نتخذ خيارات بناءً على مجموعة المعلومات المتاحة دون معرفة حقيقية لما هو صحيح، وما هو غير صحيح. في الواقع ليس لدينا خيار سوى مواصلة حياتنا بناءً على هذه المعلومات مع استخدام الخبرة الشخصية والتقييم الدقيق للمعلومات.

نعيش عصر المعلومات المضللة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث انتشر تسويق الأكاذيب والأباطيل على أنها حقائق، ويؤكد الكتاب على أن تزييف الحقائق ليس جديدا، لكن الانتشار المتعمد للمعلومات الكاذبة أو المضللة قد تضاعف في القرن الماضي، مدفوعا من كل التقنيات الحديثة لنشر المعلومات، الإذاعة والتليفزيون، والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الأمر أكثر تعقيدا.

تكمن أهمية الكتاب أنه يؤكد أن المعلومات أصبحت سلاحا قويا، وأن المعلومات الخاطئة التي تشكل المعتقدات لا ترجع بالضرورة إلى الغباء أو التحيزات المعرفية، ولكن إلى الثقة التي نضعها أحيانا في الآخرين، ويقرر المؤلفان أنه يجب معالجة هذه المعلومات على مستوى الأنظمة، فالمعرفة الحقيقية تتآكل عن طريق حملات جديدة وفعالة، مما يجعل اللحظة محفوفة بالمخاطر، ويقدم الكتاب دفاعا فلسفيا عن الأدلة والحقائق. ويطالب الكاتبان أن تستمر الجهات الفاعلة ذات الدوافع السياسية والاقتصادية في استخدام الوسائط لتطوير أساليب جديدة وأكثر فعالية للقيام بذلك. ستتطلب مكافحة هذه الأساليب الوقت والجهد، والمال من جانب شركات التواصل الاجتماعي والحكومات، ولكن التكلفة لا تقارن بالفائدة التي تعود علينا؛ فالمعلومات، والمعتقدات تؤثر في قرارتنا المصيرية حاضرا ومستقبلا. كتاب " عصر التضليل" وهو كتاب عن تشكيل المعتقدات خاصة المزيف منها وكيفية انتشاره، يؤكد على حقيقة معينة، وهي أن ما نعتقده يعتمد في الأساس على ما نعرفه.

-----------------------------------------------------------------

العنوان: عصر التضليل: كيف تنتشر المعتقدات الزائفة

المؤلف: كايلن أوكونور وجيمس أوين ويثرل

الناشر: - أسبن – 2019

اللغة: الإنجليزية

 

 

أخبار ذات صلة